خصال نحرص عليها في رمضان

أ.د. عبد الرحمن البر

أ.د. عبد الرحمن البر

أستاذ الحديث وعلومه

بجامعة الأزهر وعضو مكتب الإرشاد

رمضان من مواسم الطاعات، من صنوف من العبادة، تختص به، ويختص بها، وتكون جمالا لأوقاته، وزينة لساعاته، وحلية لأيامه ولياليه - والطاعة جميلة في كل وقت، وهي في هذا الشهر أجمل، وثوابها عند الله أعظم وأجزل. ..

يقول بديع الزمان النورسي: إن شهر رمضان المبارك أشبه ما يكون بمعرض رائع للتجارة الأخروية، أو هو سوق في غاية الحركة والربح لتلك التجارة، وهو كالأرض الميتة في غاية الخصوبة والغناء لإنتاج المحاصيل الأخروية.. وهو كالغيث النازل في نيسان لإنماء الأعمال وبركاتها.. وهو بمثابة مهرجان عظيم وعيد بهيج مقدس لعرض مراسيم العبودية البشرية تجاه عظمة الربوبية وعزة الألوهية..

ولأجل كل ذلك فقد أصبح الإنسان مكلفا بالصوم لئلا يلج في الحاجات الحيوانية كالأكل والشرب.. ولكي يتجنب الانغماس في شهوات الهوى وما لا يعنيه من الأمور.. وكأنه أصبح بصومه مرآة تعكس "الصمدانية" حيث قد خرج مؤقتا من الحيوانية ودخل إلى وضع مشابه للملائكية أو أصبح شخصا أخرويا وروحا ظاهرة بالجسد، بدخوله في تجارة أخروية وتخليه عن الحاجات الدنيوية المؤقتة([1]).

وهذه التجارة تتمثل في طاعات متعددة أصبحت سمة بارزة من سمات شهر رمضان ومن هذه الطاعات:

أولها: الصوم، بمعناه الفقهي من الامتناع عن المفطرات، وهي معلومة، وبمعناه الروحي العالي، وهو حبس النفس والفكر والإرادة والشعور والوجدان عما سوى التفكير في الله تبارك وتعالى، والتقرب إليه بما يرضيه، ورحم الله العارف بالله الذي يقول:

إذا نظرت عيني لغيرك مرة عددت اختلاس الطرف من أعظم الوزر

وذلك يستتبع حتما كف الجوارح عن معصية الله، تبارك وتعالى، وإلا فكيف يكون مراقبا لله تبارك وتعالى من لا يخشاه، ولا تزجره المراقبة عما لا يرضاه مولاه، وكم من صائم ليس له من صيامه إلا الجوع والعطش،فعن أبي هريرة t قال: قال رسول الله e: "من لم يدع قول الزور والعمل به، فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه"([2]).

قال ابن العربي: مقتضى هذا الحديث أن من فعل ما ذكر لا يثاب على صيامه ومعناه أن ثواب الصيام، لا يقوم في الموازنة بإثم الزور، وما ذكر معه.

 وقال البيضاوي: ليس المقصود من شرعية الصوم نفس الجوع والعطش، بل ما يتبعه من كسر الشهوات، وتطويع النفس الأمارة للنفس المطمئنة، فإذا لم يحصل ذلك، لا ينظر الله إليه نظر القبول، فقوله: "ليس لله حاجة" مجاز عن عدم القبول، فنفي السبب وأراد المسبب والله أعلم([3]).

وفي ذلك يقول الشاعر:

إذا لم يكن في السمع مني تصامم    وفي مقلتي غض وفي منطقي صمت

فحظي إذن من صومي الجوع والظما        وإن قلت إني صمت يوما ما فما صمت([4])

ومنها: الاكثار من تلاوة القرآن الكريم، فهذا شهر القرآن، ولقد كان رسول الله e ينزل عليه جبريل في رمضان، فيدارسه الكتاب ويستعرضه معه عليهما السلام، حتى كانت السنة التي اختار فيها رسول الله e الرفيق الأعلى، استعرضاه مرتين.

يقول بديع الزمان النورسي: إن العالم الإسلامي في رمضان المبارك يتحول إلى ما يشبه المسجد، وياله من مسجد عظيم تعج كل زاوية من زواياه، بل كل ركن من أركانه، بملايين الحفاظ للقرآن الكريم. يرتلون ذلك الخطاب السماوي على مسامع الأراضين، ويظهرون بصورة رائعة براقة مصداق الآية الكريمة: شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن مثبتين بذلك أن شهر رمضان هو حقا شهر القرآن. أما الأفراد الآخرون من تلك الجماعة العظمى فمنهم من يلقي السمع إليهم بكل خشوع وهيبة، ومنهم من يرتل تلك الآيات الكريمة لنفسه([5]).

ومنها: الاكثار من الصدقة، وتفقد الفقراء والمساكين، وتعهدهم بالبر والعطاء، فهو شهر تسمو فيه دائما الاعتبارات الروحية على القيم المادية، ويرخص فيه حطام هذه الحياة الدنيا على نفوس نبذته وراءها ظهريا، وعافته بكرة وعشيا.

والله - تبارك وتعالى - يضاعف فيه مثوبة المتصدقين، ويجزل لهم العطاء بما أجزلوا لعباده المحتاجين، ورقت قلوبهم لليتامى والأرامل، وكانوا مقتدين في جودهم وعطائهم بالرسول e فقد كان جوادا كريما، بل مثال الجود والسخاء، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يعارضه جبريل بالقرآن، فعن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: "كان النبي e أجود الناس بالخير، وكان أجود ما يكون في رمضان، حين يلقاه جبريل، وكان جبريل - عليه السلام - يلقاه كل ليلة في رمضان، حتى ينسلخ، يعرض عليه النبي e القرآن، فإذا لقيه جبريل - عليه السلام - كان أجود بالخير من الريح المرسلة"([6]).

قال الزين بن المنير: " وجه التشبيه بين أجوديته e بالخير وبين أجودية الريح المرسلة أن المراد بالريح ريح الرحمة التي يرسلها الله تعالى، لإنزال الغيث العام الذي يكون سببا لإصابة الأرض الميتة وغير الميتة، أي فيعم خيره وبره، من هو بصفة الفقر والحاجة، ومن هو بصفة الغنى والكفاية، أكثر مما يعم الغيث الناشئة عن الريح المرسلة e"([7]).

ومنها: الحرص على صلاة القيام من أول ليلة في هذا الشهر فعن أبي هريرة t قال: سمعت رسول الله e يقول في رمضان من قامه إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه([8]) .

وحرص المسلم على قيام ليل رمضان من بدئه يجعله يحظي بليلة القدر وينال عظيم ثوابها بغفران ذنوبه فعن أبي هريرة t عن النبي e قال: " من قام ليلة لقدر غفر له ما تقدم من ذنبه، ومن صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه "([9]).

ومنها: الاكثار من العمل في العشر الأواخر فعن عائشة - رضي الله عنها - قالت: " كان النبي e إذا دخل العشر شد مئزره، وأحيا ليله، وأيقظ أهله"([10]).

ومنها: الاعتكاف في العشر الأواخر، فعن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - قال: "كان رسول الله e يعتكف العشر الأواخر من رمضان([11]).

ومنها: الدعاء والاستغفار إذ هو شهر تفتح فيه أبواب الإجابة للسائلين، ويتقبل فيه الله التوبة من التائبين، ويضاعف فيه أجر العاملين المخلصين،

ومنها: صلة الأرحام، والتواد والتزاور والتراحم بين الأقارب والجيران، والصلح بين المؤمنين، ونبذ الخلافات، والتخلص من العداوات، وتطهير القلوب من الغل والأحقاد: }إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون([12]. وقال تعالى: }والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رءوف رحيم(([13]). قال الشاعر:

أتى رمضان مزرعة العباد ** لتطهير القلوب من الفساد

فأد حقوقه قولا وفعلا ** وزادك فاتخذه للمعاد

فمن زرع الحبوب وما سقاها ** تأوه نادما يوم الحصاد

               

([1]) كليات رسائل النور - المكتوبات جـ 2 / 518.

(([2]  فتح الباري4/116/1903.

([3])  فتح الباري4/117.

[4] الترغيب والترهيب 2/88.

[5] كليات رسائل النور ـ المكتوبات جـ 2 / 517.

(([6] فتح الباري4/116/1902.

([7])  فتح الباري 4/116.

[8]  النسائي 4 /155 كتاب الصوم/ثواب من قام رمضان.

[9]  فتح الباري 4 / 115 /1901.

[10]  فتح الباري 4 / 269 / 2024.

[11]  فتح الباري 4 / 271 / 2025.

[12] الحجرات : 10.

[13] الحشر: 10.