محمد رسول الله ... وميثاق النبيين
محمد رسول الله ....
وميثاق النبيين
د.عثمان قدري مكانسي
قال تعلى : ( وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ، ثم جاءكم رسول مصدّق لما معكم لَتـُؤمِنـُنّ به ، ولَتـَنْصـُرُنـّه . قال : أأقرَرْتم ، وأخذتُم على ذلكم إِصْري؟ قالوا: أقـْرَرْنا . قال : فاشهدوا ، وأنا معكم من الشاهدين ) .
ما قرأت هذه الآية الكريمة إلا رأى قلبي - ببصيرة من الله تعالى – صور الأنبياء عليهم صلوات الله وسلامه يقفون أمام نور الله تعالى يتوّجهم بجلال النبوّة ، ويقلدهم وسام الحكمة ، ويكلفهم مهمّة الدعوة ، ثم يأخذ عليهم عهداً وميثاقاً أن يكونوا المثل والقدوة للدعاة في سبيله سبحانه ، فهم خلاصة البشر وذروة سنامهم رباهم الله تعالى على عينه . ألم يقل لموسى عليه السلام " ولتصنع على عيني " وقال لحبيبه المصطفى " واصبر لحكم ربك ، فإنك بأعيننا " ؟
أعطاهم الحكم والنبوة ، فما من نبي إلا نزل عليه من ربه كتاب ، أو ألزمه كتابَ نبيّ قبله ، يسير على هداه ، ورسم له الهدف الذي يسعى إليه في الدعوة إلى الله وحده " أن اعبدوا الله ربي وربكم " وينير طريق الحياة لأتباعه .
ثم نسمع بأذن البصيرة ذلك العهد المُوَثّق بأن يكون كل نبي قائداً تحت راية محمد صلى الله عليه وسلم إن رآه أو التقاه ، فهناك القيادة العامة للسائرين في رحاب الله تعالى ، إليه تنتهي الرياسة ، وتحت قيادته تنتهي كل الرايات ، إنه خاتم الأنبياء ، ودينه الخاتم لكل الشرائع الإلهيّة .
وعلى كل نبي أن يبشر أتباعه – إن عايشوا ذلك النبي الخاتم - أن ينضووا إليه ، ويدخلوا في دينه ورحمة الله تعالى يكتبها لـ " الذين يتبعون الرسول النبي الأميّ الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل ، يأمرهم بالمعروف ، وينهاهم عن المنكر ، ويُحِلّ لهم الطيبات ، ويحرّم عليهم الخبائث ، ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم " .
وكما أخذ الله تعالى من الأنبياء ذلك العهد الموثّق أن يتبعوا النبي القائد وصّى الأنبياءُ الكرامُ أتباعهم أن يؤمنوا به وينصروه ، فإن فعلوا كان النجاح حليفهم " فالذين آمنوا به وعزّروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون " . فلا دين بعد دينه ولا شريعة سوى الإسلام " إن الدين عند الله الإسلام " فمن رغب عن ذلك واستمر فيما هو عليه وقع في الضلال ، وخسر الآخرة " ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يُقبل منه ، وهو في الآخرة من الخاسرين " .
في التوراة والإنجيل صفة الرسول الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم ، وفي الكتب السابقة كذلك ، والدليل المنطقي على ذلك أن الوصاة باتباعه يستلزم التعريف به وتوضيح صفاته .
روى ابن كثير في تفسير الآية الخامسة والأربعين من سورة الأحزاب في صفة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم من التوراة " قَالَ الْإِمَام أَحْمَد حَدَّثَنَا مُوسَى بْن دَاوُدَ حَدَّثَنَا فُلَيْح بْن سُلَيْمَان حَدَّثَنَا هِلَال بْن عَلِيّ عَنْ عَطَاء بْن يَسَار قَالَ لَقِيت عَبْد اللَّه بْن عَمْرو بْن الْعَاص رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا فَقُلْت أَخْبِرْنِي عَنْ صِفَة رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي التَّوْرَاة قَالَ أَجَلْ وَاَللَّه إِنَّهُ لَمَوْصُوف فِي التَّوْرَاة بِبَعْضِ صِفَته فِي الْقُرْآن " يَا أَيّهَا النَّبِيّ إِنَّا أَرْسَلْنَاك شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا" وَحِرْزًا للأمِّيِّينَ فَأَنْتَ عَبْدِي وَرَسُولِي سَمَّيْتُك الْمُتَوَكِّل لَيْسَ بِفَظٍّ وَلا غَلِيظ وَلا سَخَّاب فِي الْأَسْوَاق ولا يَدْفَع السَّيِّئَة بِالسَّيِّئَةِ وَلَكِنْ يَعْفُو وَيَصْفَح وَيَغْفِر وَلَنْ يَقْبِضهُ اللَّه حَتَّى يُقِيم بِهِ الْمِلَّة الْعَوْجَاء بِأَنْ يَقُولُوا لا إِلَه إلا اللَّه فَيَفْتَح بِهَا أَعْيُنًا عُمْيًا وَآذَانًا صُمًّا وَقُلُوبًا غُلْفًا وَقَدْ رَوَاهُ الْبُخَارِيّ فِي الْبُيُوع عَنْ مُحَمَّد بْن سِنَان عَنْ فُلَيْح بْن سُلَيْمَان عَنْ هلال بْن عَلِيّ " .
وروى في تفسير الآية نفسها صفات رائعة مفصلة عن وهب بن منبه قال: " إِنَّ اللَّه تَعَالَى أَوْحَى إِلَى نَبِيّ مِنْ أَنْبِيَاء بَنِي إِسْرَائِيل يُقَال لَهُ شعياء : أَنْ قُمْ فِي قَوْمك بَنِي إِسْرَائِيل فَإِنِّي مُنْطِق لِسَانك بِوَحْيٍ وَأَبْعَث أُمِّيًّا مِنْ الأمِّيِّينَ ، أَبْعَثهُ لَيْسَ بِفَظٍّ وَلا غَلِيظ وَلا سَخَّاب فِي الأسْوَاق ، لَوْ يَمُرّ إِلَى جَنْب سِرَاج لَمْ يُطْفِئهُ مِنْ سَكِينَته ، وَلَوْ يَمْشِي عَلَى الْقَصَب لَمْ يُسْمَع مَنْ تَحْت قَدَمَيْهِ ، أَبْعَثهُ مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا ، لا يَقُول الْخَنَا ، أَفْتَح بِهِ أَعْيُنًا كُمْهًا ، وَآذَانَا صُمًّا وَقُلُوبًا غُلْفًا ، أُسَدِّدهُ لِكُلِّ أَمْر جَمِيل ، وَأَهَب لَهُ كُلّ خُلُق كَرِيم ، وَأَجْعَل السَّكِينَة لِبَاسه ، وَالْبِرّ شِعَاره ، وَالتَّقْوَى ضَمِيره ، وَالْحِكْمَة مَنْطِقه ، وَالصِّدْق وَالْوَفَاء طَبِيعَته ، وَالْعَفْو وَالْمَعْرُوف خُلُقه ، وَالْحَقّ شَرِيعَته ، وَالْعَدْل سِيرَته ، وَالْهُدَى إِمَامه ، وَالإسلام مِلَّته ، وَأَحْمَد اِسْمه . أَهْدِي بِهِ بَعْد الضلال ، وَأُعْلِم بِهِ بَعْد الْجَهَالَة ، وَأَرْفَع بِهِ بَعْد الْخَمَالَة ، وَأُعْرَف بِهِ بَعْد النَّكِرَة ، وَأُكَثِّر بِهِ بَعْد الْقِلَّة ، وَأُغْنِي بِهِ بَعْد الْعَيْلَة ، وَأَجْمَع بِهِ بَعْد الْفُرْقَة ، وَأُؤَلِّف بِهِ بَيْن أُمَم مُتَفَرِّقَة وَقُلُوب مُخْتَلِفَة وَأَهْوَاء مُتَشَتِّتَة ، وَأَسْتَنْقِذ بِهِ فِئَامًا مِنْ النَّاس عَظِيمَة مِنْ الْهَلَكَة ، وَأَجْعَل أُمَّته خَيْر أُمَّة أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ ، يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ ، وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَر ، مُوَحِّدِينَ مُؤْمِنِينَ مُخْلِصِينَ مُصَدِّقِينَ لِمَا جَاءَتْ بِهِ رُسُلِي ، أُلْهِمهُمْ التَّسْبِيح وَالتَّحْمِيد وَالثَّنَاء وَالتَّكْبِير وَالتَّوْحِيد فِي مَسَاجِدهمْ وَمَجَالِسهمْ وَمَضَاجِعهمْ وَمُنْقَلَبهمْ وَمَثْوَاهُمْ ، يُصَلُّونَ لِي قِيَامًا وَقُعُودًا ، وَيُقَاتِلُونَ فِي سَبِيل اللَّه صُفُوفًا وَزَحُوفًا ، وَيَخْرُجُونَ مِنْ دِيَارهمْ اِبْتِغَاء مَرْضَاتِي أُلُوفًا ، يُظْهِرُونَ الْوُجُوه وَالأطْرَاف ، وَيَشُدُّونَ الثِّيَاب فِي الأنْصَاف ، قُرْبَانهمْ دِمَاؤُهُمْ وَأَنَاجِيلهمْ فِي صُدُورهمْ ، رُهْبَان بِاللَّيْلِ ، لُيُوث بِالنَّهَارِ ، وَأَجْعَل فِي أَهْل بَيْته وَذُرِّيَّته السَّابِقِينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ . أُمَّته مِنْ بَعْده يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ ، وَأُعِزّ مَنْ نَصَرَهُمْ وَأُؤَيِّد مَنْ دَعَا لَهُمْ ، وَأَجْعَل دَائِرَة السَّوْء عَلَى مَنْ خَالَفَهُمْ أَوْ بَغَى عَلَيْهِمْ أَوْ أَرَادَ أَنْ يَنْتَزِع شَيْئًا مِمَّا فِي أَيْدِيهمْ ، أَجْعَلهُمْ وَرَثَة لِنَبِيِّهِمْ ، وَالدَّاعِيَة إِلَى رَبّهمْ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ ، وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَر ، وَيُقِيمُونَ الصَّلاة وَيُؤْتُونَ الزَّكَاة ، وَيُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ . أَخْتِم بِهِمْ الْخَيْر الَّذِي بَدَأْته بِأَوَّلِهِمْ ، ذَلِكَ فَضْلِي أُؤْتِيه مَنْ أَشَاء ، وَأَنَا ذُو الْفَضْل الْعَظِيم ..هَكَذَا رَوَاهُ اِبْن أَبِي حَاتِم."
فلما أخذ الله تعالى على أنبيائه ذلك العهد ووثّقه في كتابه العظيم – القرآن – الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، وأقر به الأنبياء وعاهدوا ربهم " قال : أأقرَرْتم ، وأخذتُم على ذلكم إِصْري؟ قالوا: أقـْرَرْنا " ختموا ذلك الإقرار بالشهادة أمام الله تعالى أن يلتزموا ، وختم الله تعالى بشهادته سبحانه على شهادتهم " . قال : فاشهدوا ، وأنا معكم من الشاهدين " .
ومن جميل التوثيق وأشَدّه :
1- الإخبار : فالقرآن يستعمل في توثيق القصة والإخبار عن الماضي ( الحاضر في الذهن ) كلمة : إذ ، التي تنقلنا إلى الشاهد المحسوس
2- تحديد المقصود : وهو كلمة : ميثاق النبيين
3- المن والفضل :: فضل الله على النبيين حين رفعهم إلى هذا المقام العظيم أن يحافظوا عليه ، ويشكروه سبحانه عليه .. لما آتيتكم من كتاب وحكمة
4- التشوّف للأمر : مجيء النبي الخاتم والسيد المتبوع ذي المقام الرفيع جاءكم رسول فهو نبي ورسول مثلهم
5- مهمة القائد الأعظم : أنه يتوج برسالته الرسالات كلها ويتممها ، مصدّق لما معكمم .
6- الهدف المطلوب : الإيمان به ونصرته ومؤازرته . والتعريف به وتنبيه الأتْباع إلى الإيمان به . لتؤمنن به ولتنصرنّه
7- الشهادة الموثِّقة : الممهورة بالخاتم الإلهي ، وكانت على شقين مؤكدين : أولهما : الإقرار : أأقرَرْتم ، وأخذتُم على ذلكم إِصْري؟ قالوا: أقـْرَرْنا
ثانيهما : الإشهاد : قال : فاشهدوا ، وأنا معكم من الشاهدين .