لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللّهُ لَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ 37
لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللّهُ لَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ
37
رضوان سلمان حمدان
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللّهُ لَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ * وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ ﴾ المائدة87-88.
المعاني المفردة[1]
1. لاَ تُحَرِّمُواْ: التحريم: المنع أي لا تمتنعوا.
2. طَيِّبَاتِ: ما طاب ولذّ منه. والطيبات هى المشتهيات الحلال، التى تستطيبها النفس ولا تمجها. وتطلق الطيبات على ما كان طريق كسبها حلالا لا خبث فيه.
3. الْمُعْتَدِينَ: الاعتداء مجاوزة الحد. والمعتدون هنا هم المعتدون في التحليل والتحريم.
سبب النزول[2]
أَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ أَبِي قِلَابَةَ، قَالَ: أَرَادَ النَّاسُ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَرْفُضُوا الدُّنْيَا وَيَتْرُكُوا النِّسَاءَ وَيَتَرَهَّبُوا فَقَامَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَغَلَّظَ فِيهِمُ الْمَقَالَةَ ثُمَّ قَالَ: "إِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِالتَّشْدِيدِ، شَدَّدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ فَشَدَّدَ اللهُ عَلَيْهِمْ، فَأُولَئِكَ بَقَايَاهُمْ فِي الدِّيَارِ وَالصَّوَامِعِ، فَاعْبُدُوا اللهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ، وَحُجُّوا وَاعْتَمِرُوا وَاسْتَقِيمُوا يُسْتَقَمْ بِكُمْ" قَالَ: وَنَزَلَتْ فِيهِمْ الْآيَةَ .
في ظلال النداء[3]
قضية التشريع هي قضية الألوهية . . الله هو الذي يحرم ويحلل . . والله هو الذي يحظر ويبيح . . والله هو الذي ينهى ويأمر . . ثم تتساوى المسائل كلها عند هذه القاعدة . كبيرها وصغيرها . فشئون الحياة الإنسانية بجملتها يجب أن ترد إلى هذه القاعدة دون سواها .
والذي يدعي حق التشريع أو يزاوله ، فإنما يدعي حق الألوهية أو يزاوله . . وليس هذا الحق لأحد إلا لله . . وإلا فهو الاعتداء على حق الله وسلطانه وألوهيته . . والله لا يحب المعتدين . . والذي يستمد في شيء من هذا كله من عرف الناس ومقولاتهم ومصطلحاتهم ، فإنما يعدل عما أنزل الله إلى الرسول . . ويخرج بهذا العدول عن الإيمان بالله ويخرج من هذا الدين .
يا أيها الذين آمنوا . . إن مقتضى إيمانكم ألا تزاولوا أنتم - وأنتم بشر عبيد لله - خصائص الألوهية التي يتفرد بها الله . فليس لكم أن تحرموا ما أحل الله من الطيبات؛ وليس لكم أن تمتنعوا - على وجه التحريم - عن الأكل مما رزقكم الله حلالاً طيباً . . فالله هو الذي رزقكم بهذا الحلال
الطيب . والذي يملك أن يقول : هذا حرام وهذا حلال :
إن قضية التشريع بجملتها مرتبطة بقضية الألوهية . والحق الذي ترتكن إليه الألوهية في الاختصاص بتنظيم حياة البشر ، هو أن الله هو خالق هؤلاء البشر ورازقهم . فهو وحده صاحب الحق إذن في أن يحل لهم ما يشاء من رزقه وأن يحرم عليهم ما يشاء . . وهو منطق يعترف به البشر أنفسهم . فصاحب الملك هو صاحب الحق في التصرف فيه . والخارج على هذا المبدأ البديهي معتد لا شك في اعتدائه! والذين آمنوا لا يعتدون بطبيعة الحال على الله الذي هم به مؤمنون . ولا يجتمع الاعتداء على الله والايمان به في قلب واحد على الإطلاق!
هذه هي القضية التي تعرضها هاتان الآيتان في وضوح منطقي لا يجادل فيه إلا معتد . . والله لا يحب المعتدين . . وهي قضية عامة تقرر مبدأ عاماً يتعلق بحق الألوهية في رقاب العباد؛ ويتعلق بمقتضى الإيمان بالله في سلوك المؤمنين في هذه القضية . . وتذكر بعض الروايات أن هاتين الآيتين والآية التي بعدهما - الخاصة بحكم الأيمان - قد نزلت في حادث خاص في حياة المسلمين على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولكن العبرة بعموم النص لا بخصوص السبب . وإن كان السبب يزيد المعنى وضوحاً ودقة :
روى ابن جرير . . « أنه - صلى الله عليه وسلم - جلس يوماً فذكر الناس ، ثم قام ولم يزدهم على التخويف . فقال ناس من أصحابه : ما حقنا إن لم نحدث عملاً ، فإن النصارى قد حرموا على أنفسهم فنحن نحرم! فحرم بعضهم أن يأكل اللحم والورك ، وأن يأكل بالنهار؛ وحرم بعضهم النساء . . فبلغ ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : « ما بال أقوام حرموا النساء والطعام والنوم؟ ألا إني أنام وأقوم ، وأفطر وأصوم ، وأنكح النساء فمن رغب عني فليس مني » . فنزلت : ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللّهُ لَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ. . . الخ ﴾ » وفي الصحيحين من رواية أنس - رضي الله عنه - شاهد بهذا الذي رواه ابن جرير : قال : « جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسألون عن عبادته . فلما أخبروا عنها كأنهم تقالوها . قالوا : أين نحن من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر؟ قال أحدهم : أما أنا فأصلي الليل أبداً . وقال الآخر : وأنا أصوم الدهر ولا أفطر . وقال آخر : وأنا أعتزل النساء ولا أتزوج أبداً . فجاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إليهم ، فقال : أنتم الذين قلتم كذا وكذا . أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له . ولكني أصوم وأفطر ، وأصلي وأرقد ، وأتزوج النساء ، فمن رغب عن سنتي فليس مني » وأخرج الترمذي - بإسناده - عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أن رجلاً أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : إني إذا أصبت اللحم انتشرت للنساء وأخذتني شهوتي ، فحرمت عليَّ اللحم فأنزل الله تعالى : ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللّهُ لَكُمْ . .﴾ الآية . .
هداية وتدبر[4]
1. النداء موجه للذين آمنوا بوصف أنهم مؤمنون ، أى أنه ليس من الإيمان أن تحرموا الطيبات التى أحلها الله تعالى من لحم طري ، وسمك شهي ، وشراب سائغ ، وزوجات هن زهرات هذا الوجود ، فالطيبات هى المشتهيات الحلال ، التى تستطيبها النفس ولا تمجها ، فإنها بناء الجسم ومصدر قوته على الجهاد ، وتطلق الطيبات على ما كان طريق كسبها حلالا لا خبث فيه.
2. الاستمتاع بالطيبات المباحات من غير اعتداء ولا تجاوز الحدود، فهو مباح للمسلم والكافر على السواء. فما عاب الله قوماً وسع عليهم الدنيا ، فتنعموا وأطاعوا ، ولا عذر قوماً زواها عنهم فعصوه.
3. كلمة ﴿مَا أَحَلَّ اللّهُ لَكُمْ﴾ إشارة إلى أن الله تعالى أحلها ، فتحريمها معاندة لله ، ويدخل فاعل ذلك ضمن من يشملهم قوله تعالى : ﴿وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَـذَا حَلاَلٌ وَهَـذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُواْ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ .. ﴾النحل116.
4. ومعنى تحريمها أن يأخذوا على أنفسهم ميثاقا بألا يتناولوها ، فليس التحريم فى معنى الترك المجرد ، فقد يتركها لأنه لا يستسيغها ، أو يتركها لمرض ، أو يتركها عفواً من غير سبب ، أما تركها بعهد يعهده وميثاق يأخذ نفسه به فهذا هو التحريم.
5. إن شرط إباحة الحلال ، ومنع تحريمه ألا يكون ثمة اعتداء ، ولذا قال تعالى : ﴿وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ﴾. والاعتداء له شعبتان إحداهما - تكون بالإسراف فى البذخ ، والتعالى والتفاخر فإن ذلك يؤدى إلى استيلاء الشهوات على نفسه ، وذلك يؤدى إلى الضلال إذ يكون عبد شهوته ، وتنماع إرداته ، ولذلك قال تعالى فى آية أخرى: ﴿..وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ﴾الأعراف31 ، وقد قال صلى الله عليه وسلم : »كُلُوا وَاشْرَبُوا وَالْبَسُوا وَتَصَدَّقُوا فِى غَيْرِ إِسْرَافٍ وَلاَ مَخِيلَةٍ[5] «. والشعبة الثانية - أن ينحرف فيعتدى على حقوق الناس ويتناول المحرم ، ويتجاوز ما شرعه الله تعالى إلى ما لم يشرعه.
6. عن أنس بن مالك - رضى الله عنه – يَقُولُ: جَاءَ ثَلاَثَةُ رَهْطٍ إِلَى بُيُوتِ أَزْوَاجِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - يَسْأَلُونَ عَنْ عِبَادَةِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - فَلَمَّا أُخْبِرُوا كَأَنَّهُمْ تَقَالُّوهَا فَقَالُوا: وَأَيْنَ نَحْنُ مِنَ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَدْ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ. قَالَ أَحَدُهُمْ: أَمَّا أَنَا فَإِنِّى أُصَلِّى اللَّيْلَ أَبَدًا. وَقَالَ آخَرُ أَنَا أَصُومُ الدَّهْرَ وَلاَ أُفْطِرُ. وَقَالَ آخَرُ: أَنَا أَعْتَزِلُ النِّسَاءَ فَلاَ أَتَزَوَّجُ أَبَدًا. فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم – فَقَالَ: «أَنْتُمُ الَّذِينَ قُلْتُمْ كَذَا وَكَذَا أَمَا وَاللَّهِ إِنِّى لأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ وَأَتْقَاكُمْ لَهُ لَكِنِّى أَصُومُ وَأُفْطِرُ وَأُصَلِّى وَأَرْقُدُ وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِى فَلَيْسَ مِنِّى «[6].
7. قالت العلماء هذه الآية وما شابهها والأحاديث الواردة في معناها تردّ على غلاة المترهبين وأهل البطالة من المتصوفين، وقال الطبري لا يجوز لمسلم تحريم شيء مما أحل الله لعباده المؤمنين على نفسه من الطيبات.
8. ذهب من العلماء كالشافعي وغيره إلى أن من حرم مأكلاً أو ملبسًا أو شيئًا ما عدا النساء أنه لا يحرم عليه، ولا كفارة عليه أيضاً. وذهب آخرون منهم الإمام أحمد بن حنبل إلى أن من حرم مأكلاً أو مشربًا أو أو شيئًا من الأشياء فإنه يجب عليه بذلك كفارة يمين.
[1] . مجموع فتاوى ابن تيمية (التفسير). زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة. سلسلة التفسير لمصطفى العدوي. أيسر التفاسير لكلام العلي الكبير.
[2] . تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار).
[3] . في ظلال القرآن - سيد قطب.
[4] . زهرة التفاسير. أيسر التفاسير لكلام العلي الكبير.
[5] . باب قوله ( قل من حرم زينة الله التى أخرج لعباده ) - اللباس - صحيح البخارى.
[6] . حديث 5118 - النكاح - صحيح البخارى.