ديننا الرائع
د.عثمان قدري مكانسي
ِإنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللّهُ وَلاَ تَكُن لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيمًا ، وَاسْتَغْفِرِ اللّهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا ، وَلاَ تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا ،يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لاَ يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا .هَاأَنتُمْ هَؤُلاء جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَن يُجَادِلُ اللّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَم مَّن يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً .وَمَن يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللّهَ يَجِدِ اللّهَ غَفُورًا رَّحِيمًا .وَمَن يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا ، وَمَن يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا ، وَلَوْلاَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّت طَّآئِفَةٌ مُّنْهُمْ أَن يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلاُّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِن شَيْءٍ وَأَنزَلَ اللّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا سورة النساء من الآية 107
إضاءة :
سرق طعمة بن أبيرق درعاً وخبأها عند يهودي – وهو من الأنصار أظهر الإسلام ، هرب بعد هذه الحادثة وارتدّ – ظاناً أنه سيستردها بعد أن ييئس أصحابها من العثور عليها .
فلما رأوها عند اليهودي ، وأنكر اليهودي أنها له ، أنكرها طعمة بدوره ورمى بها اليهودي ، وحلف طعمة أنه ما سرقها ، وقام قومه – وهم عالمون بسرقته – يدافعون عنه ، ويسألون النبي صلى الله عليه وسلم أن يبرّئ ساحته . ، فَنَزَلَ على الحبيب المصطفى هذه الآيات الكريمة ليحكم بين الناس جميعاً بالحق والعدل الذي جاءه من الله تعالى ، وَأن لا تدافع عن السارق أبيرق ، وأن يستغفر الله تعالى لما هم به . ونهاه أن يجادل عن الذين يخونون أنفسهم بالمعاصي لأن وبال خيانتهم عليهم ، والله لا يحب كثير الخيانة ، بل يعاقبه .
أما قومه الذين استحيوا من الناس ، وخافوهم ولم يستحيوا من الله ولم يخافوه ، فبيتوا ما لا يرضى من القول والفعل ، وسألوا النبي صلى الله عليه وسلم أن يدافع عن أبيرق ، وان ينفي السرقة عنه ، وحلفوا كذباً وبهتاناً ورموا اليهودي بما ليس فيه فإن الله تعالى عليم بهم ،
لقد أساءوا التصرف حين دافعوا ظلماً وزوراً عن قريبهم ، ونسوا أن الله لا يرضى الظلم ، فلئن دافعوا في الدنيا عنه ، فمن يجرؤ على ذلك يوم القيامة ؟ في حضرة الله تعالى ، ومن الذي يدافع عنهم إذا عذبهم جزاء افترائهم وعدولهم عن الحق ؟
ثم يدعوهم سبحانه وتعالى إلى التوبة عما فعلوا قبل أن يدهمهم الموت وهم على ظلمهم ، فالله سبحانه يقبل توبة التائبين ، ويعفو عن المخطئين ، فهو أرحم الراحمين ،وما يفعله الإنسان يحاسب عليه إن شراً فشر ، وإن خيراً فخير . ولا يضر أحد إلا نفسه.
ومن فضل الله تعالى على النبي صلى الله عليه وسلم أن حفظه من مكر المنافقين الذين أظهروا الإسلام وأضمروا الكفر وأرادوا التلبيس على النبي صلى الله عليه وسلم ، ولن يستطيعوا ضرر النبي صلى الله عليه وسلم ، فالله معه يرعاه ويحفظه ويسدد قوله وفعله . وهذه بعض أفضال الله الكثيرة على الحبيب المصطفى .
ما يستفاد من هذه الآيات :
1- حين ينتشر الإسلام وتقوى شوكته يظهر النفاق ، إذ يتظاهر بعض الكفار بالإيمان لأسباب عدة ، منها :
أ- الحفاظ على المكانة السابقة للمرء قبل الإسلام ،
ب- ونيل المكاسب المتوقعة من مجاراة المؤمنين ،
ت- وإبعاد العيون عن الماكرين ومكرهم بالدعوة وأهلها ،
ث- واهتبال الفرص المناسبة للانقضاض على الدعوة من مكمنها،
ج- والتعرف على يفعله المؤمنون عن كثب دون إثارة الشبهات .
2- النفاق سمة إنسانية لا بد من وجودها ، فالناس ليسوا على مستوى واحد من الإخلاص أو الفهم والعقل والدراية ، وتفعل المادية فعلها في الإنسان إذا ضعف إيمانه ، وفكر في حاضره الفاني غافلاً عن حياته المستقبلية الأبدية .
3- إن ضعف الإيمان تواكبه الأنانية القاصرة التي تجعل صاحبه يتصرف بهواه بعيداً عن التدبر والتفكر في العاقبة ، وقد (وقد هذه للتحقيق) تجعله يقع في المحظور فينكشف المستور ، ويظهر على حقيقته .وهذا ماحصل للمنافق طعمة بن أبيرق الذي سرق الدرع ، واتهم بها اليهودي حين افتضح أمره ، ثم هرب إلى مكة مستجيراً بالكفار ، ثم ارتد ارتداداً كاملاً عن الإسلام ومات في منفاه الإرادي بعيداً عن المدينة المنورة .
4- قد يدافع عن الظالم أهلوه بوعي ودون وعي ، أما دون وعي فللحمية التي تتسارع في نفوسهم تجاه قريبهم ومن يلوذ بهم ، فيقعون في الخطأ الكبير – مجافاة الحق ووأد نوره - ، والعصبية الجاهلية تعمي القلوب وتطفئ نور العقول ، فينقلب الحق باظلاً والباطل حقاً . وأما عن وعي فلأن العربي الجاهلي جبل على نصرة أخيه ظالماً ومظلوماً ، فالحق في عرفه يتجلى في الدفاع عن ابن قبيلته والالتفاف حوله مهما كانت الدوافع والأسباب .
5- وجاء الإسلام يامر بنصرة الأخ ظالماً أومظلوماً بالطريقة الصحيحة وتحري العدل وابتغاء الحق حين قال المصطفى صلى الله عليه وسلم فيما يرويه أنس بن مالك رضي الله عنه : " انصر أخاك ظالما أو مظلوما . فقال رجل : يا رسول الله ، أنصره إذا كان مظلوما ، أفرأيت إذا كان ظالما كيف أنصره ؟ قال : تحجزه ، أو تمنعه ، من الظلم فإن ذلك نصره " فلا مكان للعصبية المقيتة ولا القرابة المادية في حياة المسلم إذا منعه ذلك عن التزام الحق والوقوف في صفه .
6- وينبه القرآنُ من ينحرف عن الصواب - ويجانبه فيقف في صف الباطل – إلى أن الموقف الذي يرضي الله تعالى هو التخلي عن الهوى والميل إلى الحق الذي قامت به السموات والأرض ، ولن ينفع الإنسانَ حين يقف بين يدي الله تعالى إلا العدل والحق والميل إليهما " فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون " فبماذ يتساءلون يا رب؟ وبماذا يوزنون ؟ " فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون " فالعمل الصالح هو الميزان السليم يوم الحساب ، وهو الذي ينجي صاحبه ، وليست التكتلات القائمة على المصالح المؤقتة والمادية المتقطعة ! . فما نهاية هؤلاء إن جهلوا وحادوا عن الصراط المستقيم ؛ يا رب ؟ يأتي الجواب سريعاً " ومن خفت موازينه ، فأولئك الذين خسروا أنفسهم في جهنم خالدون " إنه الخلود في النار .. قد يخسر الإنسان ماله وأرضه وأهله فيعوضهم ، أما أن يخسر نفسه ؟ ..إن هذا هو الخسران المبين .
7- قد يكون للأصحاب والأتباع تأثير على تغيّر وجهة الحكم ، وقد يميل القاضي – تحت ضغطهم وإلحاحهم ، أو الثقة بهم – عن الحق ، درى أم لم يدْرِ ، وهذا أمر خطير لا ينبغي أن يفوت المسؤول أو الحاكم ، وإلا هلك وأهلك من معه باجتناب الحق أو عدم التحرّي عنه . والإسلام ما جاء إلا لإقامة العدل وإحياء الناس حياة طيبة تقوم على أساس من العدل قويم ، وثبات من الحق متين .
8- وقد يكون الحق إلى جانب من نكرهه ويكرهنا ، فلا ينبغي أن يدعونا كرهه إلى ظلمه ، او إلى التغاضي عن الوصول إلى الحق . فالظلم مرتعه وخيم ، والظلم يزيد الإحن ويدعو إلى التنافر ، فيزيد الشقة بيننا وبين الآخرين ، والداعية حريص على إحقاق الحق والإحسان إلى الناس ، هذا الإحسان يجعل الكاره محباً والعدو صديقاً
أحسن إلى الناس تستعبد قلوبَهُمُ ... فطالما استعبد الإنسانَ إحسانُ
ألم يقل الله تعالى " ادفعْ بالتي هي أحسن ، فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه وليٌّ حميم ٌ " ثم أعقبها بقوله تعالى مبيناً أن العادل يكسب الكثير ، وأنه الرابح الحقيقي لصبره ورفيع سلوكه وحسن تصرفه " وما يلقّاها إلا الذين صبروا ، وما يُلقّاها إلا ذو حظ عظيم " إن العدل أساس الملك . وفي تاريخنا وسيرة نبينا وسير عظمائنا الكثير من هذه المواقف المشرقة التي عضدت رجحان الرحمة والعدل ونصرة المظلوم .
9- هرب طعمة بن أبيرق إلى الأعداء حين لم يرض الخضوع للحق والتزام السبيل القويم ، فاستُقبل بالحفاوة والإكرام – في مكة - أول الأمر ، فلما استنفدوا منه أغراضهم طردوه شر طردة ، ويقول المفسرون : إن المرأة التي استقبلته في بيتها حملت أغراضه ورمت بها في الطريق ، وهذا درس كبير يستفيد منه ذوو الأحلام وأولو الأبصار .. أفلا يرعوي من يبيع شرفه ودينه للعدو – هذه الأيام في بلادنا قاطبة – من ذلك المصير الذي ينتظرهم ، ألا يحسون وهم يمالئون أعداء الله أن العدو نفسه يحتقرهم – وهو يتعامل معهم – كما يحتقرهم أبناء بلدهم وشعوبهم ؟! وربما أكثر ، وأنهم أداة رخيصة سرعان ما يلقي بها في مزابل النسيان ويتخلص منهم حين يستنفد غرضه منهم ؟.
10- كما أن العودة عن الخطأ والتوبة يجب ما قبلها " وَمَن يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللّهَ يَجِدِ اللّهَ غَفُورًا رَّحِيمًا " وهذا من سماحة الإسلام الذي يقر بضعف الإنسان " وخُلق الإنسانُ ضعيفاً " ويقبل توبته إن أخلصها وأعلن ندمه ، وأقر بخطئه واعتذر عن إساءاته ، فالله غفور رحيم ، والإسلام دين السماح ، يقيل العثرة ويعفو ما وسعه العفو ويقبل في رحابه العائدين المقبلين عليه .
11- كما أن الله تعالى يحفظ الدعاة ويسدد خطاهم كما فعل سبحانه حين أراد قوم الأبيرق استدراج النبي صلى الله عليه وسلم إلى الدفاع عن السارق الأنصاري والعدول به عن الحق فأرسل جبريل بهذه الآيات يوضح الموقف ويدفع إلى التصرف السليم ، وقد يقول بعضهم : إن الله تعالى يسدد بالوحي تصرف النبي صلى الله عليه وسلم ويصوبه ، فكيف وقد انتهى الوحي فكيف يسدد خطا الدعاة ؟ والجواب أن دراسة سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم ، ودراسة القرآن الكريم والأحاديث الشريفة والتمكن من الفقه وأقوال السلف الصالح مع الإخلاص في النية زادُ الداعية وضياؤه في طريق الدعوة ، ومن أحب الله تعالى وأقبل عليه أقبل الله عليه وهيّاً له أسباب الهدى والرشاد ورزقه السداد والنجاح في مسعاه . وهذا التوفيق الإلهي فضل على الدعاة يشعرون به في حياتهم ويأرزون إليه في مهمتهم
أحـبـب إلـهك ، فالسناء سماته مـن كـان حـب الله نسغَ فؤاده لا الـحب يَذويه ويؤذيه بل الس يـا رب ،أنت الحب ،أنت ضياؤه | وهـو الجميل لكل خير قد فإلى الجلال إلى الكمال قد انضوى عـدُ الـدوامُ لمن أفاء ومن أوى من عاش في نور الهداية ما غوى | حوى