بإمكاننا تحويل الليمونة الحامضة إلى شراب سائغ

الشيخ خالد مهنا

[email protected]

"عَاد النبي صلى الله عليه وسلم إعرابياً يتلوى من شدة الحمى، فقال له مواسياً ومشجعاً: طهور! فقال الإعرابي: بل هي حمى تفور، على شيخ كبير، لتورده القبور! قال: فهي إذن".. البخاري..

فمن نظر إلى الحياة نظرة تشاؤم أصيب بالعدوى وألتصق  به  هذا المعنى في كل مسلك من مسالكه، الأمور التي تجري مع سكان كوكب الأرض تخضع للاعتبارات الشخصية، فإن شاء جعلها تطهراً ورضي وحينئذ تعلو نفسه وهمته، وإن شاء جعلها هلاكاً وبراكين  مدمرة فسخط وتبرم..

وربّ نفس العمل يتغير تقديره ونتائجه وفق ما يصاحب الإنسان من حال وانظروا إلى هاتين الآيتين، وما تبرزانه من صفات الناس  وحصا ئد أحوالهم ..

قال جلّ في علاه:" ومن الأعراب من يتخذ ما ينفق مغرماً ويتربص بكم الدوائر، عليهم دائرة السوء والله سميع عليم"

ومن الأعراب من يؤمن بالله  واليوم الآخر، ويتخذ ما ينفق كربات عند الله وصلوات الرسول، ألا إنها قربة لهم)

فهؤلاء وهؤلاء يدفعون المستحقات المالية المطلوبة..

فأما الذين يدفعونها مغرماً، ويتمنون العفة لقابضيه وأن لو أبيدوا عن الوجود، فحق على هؤلاء أن ينزل  بهم دائرة السوء لنياتهم..

وأولئك يتخذونه نفقة وزكاة تقربهم إلى الله وتطيب أنفسهم بأدائها، فحق أن تقبل منهم..

وكذا شؤون الحياة كلها لا تتخطى ولا تعدو هذه الدائرة وهذا النطاق..

فإذا نحن ساورتنا  أفكار سعيدة كنا سعداء..

وإذا تملكتنا أفكار شقية غدونا أشقياء..

وإذا خائفين، وإذا تغلبت علينا هواجس السقم والمرض فالأغلب أن يلازمنا المرض والسقم.. وهكذا أو اعتقاد الدمار لا يخلف إلا مجموعة بشرية مدمرة، وتوقع الأزمة والمحنة يصنع  إنساناً مأزوماً وإن المريض الذي يعتقد أ، المرض قاتلة لا محال فلا تنتظروا أن يشفى ..

وإن النفس الإيجابية المنطلقة للأمام ترى الوردة عبقاً عاطراً.. ومنظراً باهراً وكلما أبصرتها شعرت بأن الحياة ما زالت تبغض سعادة نعم هي إذن وردة، وحين تقول الحياة تعيسة، ولن تقول لك الحياة إلا نعم إذن..

وحين تقول كل الناس لا يعيشون ولا يقتاتون إلا بالعذر فسيرد عليك الجميع بلهجة واضحة... نعم إذن..

حياتك يا ابن آدم لن تخرج عن إطار تفكيرك وتصورك لما تمر به..

حكي أن شاباً أنهكته العلة، فرحل من وطنه يطلب السياحة وارتياد الأقطار البعيدة، وكان أبوه يعلم طبيعة مرضه، وأن سقامه جاء من توعك مزاجه وغلبة أوهامه فكتب إليه في غربته هذه الرسالة:

"ولدي، إنك  الآن على بعد ألف وخمسمائة ميل من بينك، ومع ذلك لست تحس فارقاً بين الحالين هذه المسافة الشاسعة الشيء الوحيد الذي هو مصدر ما تعانيه، ذلك هو نفسك، لا آفة البتة بحسمك أو عقلك، وإنما الذي تردى بك هو الموج الذهني الذي واجهت به بني، فعد إلى بيتك وأهلك، لأنك يومئذ تكون قد شفيت!!

قال الشاب: هاجمني هذا الخطاب، وبلغ بي الغضب جداً فقررت معه ألا أعوذ إلى بيتي وأهلي، قال: وفي تلك الليلة   وبينما كنت أذرع إحدى الشوارع، وجدت كنيسة في طريقي تقام فيها الصلاة، ولما لم تكن لي وجهة معينة، فقد دَلَفت إليها  إلى للواعظة الدينية التي تلقي، كان عنوان العظة:

"هذا الذي يقهر نفسه، أعظم من ذلك الذي يفتح مدينةّ"

وكأنما كان جلوسي في معبد من معابد الله، وإنصاتي إلى الأفكار التي تضمنها خطاب أبي فقال بصيغة أخرى.

ممحاة مسحت الإضراب الذي يطغى على عقلي،   في تلك اللحظة أن أفكر  تفكيراً متزناً في حياتي،   إذ ذاك أن أرى نفسي على حقيقتها ، نعم ؟ لقد رأيتني أريد أن أغير الدنيا وما عليها، حين أن الشيء الوحيد الذي كان في أشد الحاجة إلى التغيير هو تفكيري واتجاه ذهني ،..... هو نفسي"..

إذن هي الروح المعنوية لها تأثيراً بالغاً رفعاً وخفضا لدى الأفراد والجماعات، والإنسان الذي تربو ثقته بنفسه لا يشل إقدامه على الحياة نقص في لأنه، أو عنتٌ ومشقة في ظروفه، بل قد يكون ذلك مثار نشاطه وشدة شكيمته، كما قال الشاعر:

إن، لم يكن عظمي طويلاً فإني               له بالخصال الصالحات وصول!

إذا كنت في القوم الطول علتهم                بعارفة حتى يقال: طويل!

فالحياة الحية تجعل القليل كثيراً، والواحد أمة، وأحوال الإنسان وتصرف تجاهها مصدر السلوك..

ونحن نستطيع أن، نصنع من أنفسنا مثلاً ومشاعرنا والارتقاء بهما، كما تتجدد الرقعة من الصحراء  إذا سقيت بمقدار كافٍ من المخصبات والمياه..

حينئذ نتحول أشخاصاً آخرين، كما تتحول هذه الصحراء القاحلة روضة غناّء لأن كل مل يصنعه المرء، هو نتيجة مباشرةً لما يدور في فكرة،  فكما أن المرء ينهض على قدميه، وينشط من عقال، وينتج ويبتكر بدافع من أفكاره كذلك يمرض ويشقى بدافع من أفكاره أيضاً..

منذ أتحدنا مع نصوص الوقوف على الأطلال، وقفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل بسقط   اللوى   بين الدخول فحومل     

ضيعنا الفرح والهوية، ما عاد يهمنا مواضع الإصابة والخلل وكيف نصنع من شراب الليمون الحامض حلواً

نحن ضائعو هوية وانتماء.. لا ننتمي حتى إلى أنفسنا وليس لنا رغبة إلا ذرف الدموع الهطالة ومرافقة الحسرة، وملازمة الآهات..

منذ وقفنا على الأطلال الدارسة ولم نغادرها بتنا بكل أسف شعب المصادفات التاريخية..

بالمصادفة نحب   وبالمصادفات نكره بالمصادفة نتحد   وبالمصادفة ننفصل..بتنا

     أصدقاء الريح       تعلمنا منها التذبذب وعدم الثبات على موقف..

بل أصدقاء الأمواج نتعلم منها التناقض والانفعال والزمجرة ..

ممتد وليس له عمر، ورضانا محدود وحالنا مزاجية تتغير حسب الأجواء والأحوال..

عواطفنا السياسية تتخبط كثعبان صحراوي حسب درجات الحرارة..

تغزلنا بالحرية فلما صارت قاب قوسين أو أذى منا أبرناها هجاءً وتعنيفاً.. ولما صارت مائلة أمامنا .. طار صوابنا فأكلناها.

حاربنا الاستبداد والأفكار البوليسية ونحن فوق الحجارة والمنازل المهجورة، فلما أتيح لنا أن نجهض عليها، كنا أشد استبداداً وبوليسية..

حلمنا بالوحدة وإعادة الأعمار، فلما وصلنا إلى النَخلة اختلفنا على البلح..

وآخر جنوننا رماد غزة.. ما عاد فيها مكان لنكتب عليه..

أرضها أضحت مالحة وحامضة ومن الصعب كتابة حرف أملٍ عليها إلا باللغة المسمارية أو اللغات المنقرضة..

مشاكلنا ليست جغرافية.. ليست مشاكل رمل وحجارة.. ولكن مشكلتنا تتمثل أننا ألزمنا أنفسنا أن، تأخذ شكل وطبيعة وهيئة الحجارة..

أغلقنا عقولنا وأبقيناها       من الحجارة..

لاجل هذا طعنا غزة لأنها كانت تبدو على الخارطة خيطاً رفيعاً من الماء في صحراء من العطش ونحن نحب العطش ونظماً من الماء المشروب.

وإن بقينا نلزم الهم ونتجرع المرارة  والعلقم ونعتقد أن الحمى ستلازمنا وتوردنا المصارع سنشاهد مدائن أخرى تغتال – إما من القهر أو الكآبة أو الحبوب المنومة  أو من  العهر ألسياسي أو في ظروف غامضة!! تسجل الجريمة ضد مجهول!!

ومن يستثني نفسه من التهمة ليرفع إصبعه... انتظرت من يرفعه فلم أجد إلا الشيطان الحقيقي، فقد ثبتت براءته وورث شيطنته لغيره من سكان العربي والإسلامي.

روى ديل كارنيجي عن سيدة نقلت مع زوجها الضابط إلى صحراء موحشة،ـفضاقت ذرعا بمعيشتهااوهمت بترك زوجها وحده ،قالت هذه السيدة:ولكن خطابا ورد الي من ابي تضمن سطرين سأذكرهما ما حييت لأنهما غيرا مجرى حياتيهما:

(من خلف قضبان السجن تطلع اثنان من المسجونين فاتجه احدهما ببصره الى وحل الطريق، اما الآخر فتطلع إلى نجوم إلى قالت السيدة :وقد تلوت هذه الكلمات واعدتهما مرارا،فخجلت من نفسي وعولت أن أتطلع إلى نجوم السماء.........

وهل تفتقت مواهب العظماء إلا وسط الركام والمشقات،وهل كانت مواهب ابو العلاء المعري لو لم يكن أعمى وهل كان بيتهوفن ليؤلف موسيقاه الرفيعة لو لم يكن اصم.....

اكثر ما يعجبني في هذه الحياة هم أولئك الذين يحولون خسائرهم الى مكاسب...