مثل المؤمنين في توادهم

د. بسام داخل

[email protected]

 حرص رسول الله صلى الله عليه وسلم على الود والمحبة والتعاطف والبر والرحمة بين أفراد المجتمع، في عبارة موجزة ومعجزة، تجمع كافة صنوف الخير لتجعله مجتمع الخير، وأضاف تشبيها في غاية البلاغة. إننا سمعنا الحديث مرارا، ولكن الإعجاز النبوي يكشف لنا في كل مرة معاني جديدة.

يبدأ الحديث بقوله: (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم..) فيصف العلاقة بين المؤمنين بالود والرحمة والتعاطف، وهذه الأوصاف الثلاثة تجمع كافة صفات الترابط والتعاون ممزوجا بالحب.

(كمثل الجسد..)إن تشبيه المجتمع بالجسد الواحد يجعلنا نحلق في فضاءات رحبة، ويوحي بمعاني كبيرة ومجالات واسعة عن طبيعة العلاقة بين أفراد المجتمع؟  كالعلاقة بين أعضاء الجسم وأجهزته.!! وهنا يقف الفكر مشدوها أمام هذا التشبيه المعجز والصفات الكثيرة التي تتسم بها هذه العلاقة. ونحن في كل يوم نكتشف علاقات جديدة وترابطات وتوافقات عجيبة بين أعضاء الجسم، بدءً من الخلية الواحدة، إلى أجهزة الجسم من هضمية إلى تنفسية إلى دورانية.. مع التناسق بين الأجهزة المختلفة، وكمثال بسيط يمكن الاطلاع على مسار لقمة، وما يحصل من إفرازات وحركات ومشاعر ومعالجات وتفاعلات كيميائية وفيزيائية وحيوية، مما يحتاج إجراؤه خارج الجسم إلى أجهزة دقيقة ومعقدة تأخذ حيزا كبيرا وأوقات طويلة واحتمال نجاحها قليل، وما يحصل من توافقات في مراحل تكون الجنين، وما يتطلب من إمكانيات لإجراء جزء منها في المختبر، وهنا أيضا يكون نجاح ذلك احتمالي مع تقدم الطب في هذه الأيام.

وقد أصبحت عمليات زراعة الأعضاء من شخص آخر حلا لكثير من الحالات، وهي مثال على تداعي الأعضاء لنجدة أعضاء أخرى، ويكون احتمال نجاحها أكبر إذا تم استخدام عضو آخر من نفس الجسم، حتى أن طبيبين استشاريين أخوين أحدهما متخصص بالعيون من جدة، والآخر في جراحة العظام ويعمل حاليا في ألمانيا، قد توصلا منذ فترة قريبة إلى استخراج عصب من الرِجل لمعالجة العين!! وهذا يعتبر أحد معاني تداعي سائر أعضاء الجسد لشكاية عضو ما. وكلما فكرنا وبحثنا نكتشف تداعيات أخرى، والله أعلم.

ونعود إلى بعض صفات العلاقة بين المؤمنين، من تشبيهها بالعلاقة بين أعضاء الجسد، من هذه الصفات عمق هذه العلاقة وقربها كقرب أعضاء الجسم من بعضها، ومنها كونها لمصلحة المجتمع ولمصلحة الآخر، فلا يتصور من عضو من الجسم أن يعمل ضد الآخر أو ضد الجسم بشكل عام، في أي مجال من المجالات.

أما موضوع الشكاية (إذا اشتكى منه عضو تداعى له..)، فالشكاية بين الأعضاء قد تكون حسية أو معنوية، المهم أنها بلغة يفهمها الطرفان، فالمسلم يعرف حاجة أخيه دون أن يسأله مباشرة، فإذا عرفها سارع للنجدة. وهنا أذكر قصة قرأتها عن أحد السلف، أنه أتاه صديق له يطلب مالا، فأعطاه ما يريد، ثم جلس حزينا مكتئبا، فقالت له زوجته: لعلك حزنت على المال الذي أعطيته إياه، وقد كان بإمكانك الاعتذار، فقال لها: إنما حزنت لأنه اضطر إلى المجيء والطلب، وكان علي أن أعلم حاجته وأبادره بالمعروف قبل أن يطلب. وهذا مستوى من الأخوة نحتاجه هذه الأيام، بل قد تصل الأخوة والصداقة أن يشعر أخوه بحاجته قبله هو نفسه. كما في حالة الحاجة إلى نصيحة أو مساعدة.(؟)

أما عبارة (سائر الجسد)، فيمكن أن تدل على أن الجميع يهب للنجدة، أو أنها تدل على نجدة تخصصية، فالذي عنده القدرة على النجدة يسارع إلى ذلك. أما الآخرون فقد يكون تعاونهم معنويا، كالاطمئنان على أخيهم وزيارته وتثبيت عزيمته والتواصي معه بالحق وبالصبر. المهم أن المجتمع كله يصبح في حالة تأهب واستعداد للتعاون.

(بالسهر والحمى) تنبيه وتأكيد على معاني الاهتمام بأخيه، فهي تشغل الإنسان حتى عن حاجاته الأساسية تلبية لحاجة أخيه، فتمنعه عن النوم والراحة، حتى يرتاح أخوه، وهو بهذا السهر والاهتمام يشعر بالود والرحمة والعطف، فلا يقدم المساعدة بتأفف أو تثاقل!! ماهذا الأفق السامي الذي يرفعنا إليه الإسلام. الحرص على مصلحة الآخر بل إيثاره على نفسه بكل حب ووداد. لا أثرة وحب نفس كما في الرأسمالية، ولا أخذ بالإجبار والقهر كما في الاشتراكية والشيوعية، وإنما الحرص على العطاء للآخرين مع الرضا النفسي والشعوري والفكري والجسدي. فلا يستطيع أن ينام حتى يطمئن على أخيه.

هذه بعض معاني الأخوة الإسلامية، نستلهمها من هذا الحديث الشريف، ومهما حاولنا أن نشرح معاني هذا الحديث ومجالات تطبيقه، فسنجد أن هناك معاني أخرى لم نذكرها. ويرتد الفكر عاجزا عن الاستيعاب والإحاطة، كما يرتد البصر خاسئا وهو حسير.

فلنعد إلى ديننا نستلهمه الرشاد والهداية في كل تصرفاتنا وعلاقاتنا، ولنكن كالجسد الواحد في التواد والتراحم  والتعاطف والتعاون، لنسعد في الدنيا ونفوز برضوان الله في الآخرة،  وبالله التوفيق والسداد.