إنه ينادينا -26
د.عثمان قدري مكانسي
قلنا نقف في مقالاتنا هذه على الآيات التي تخاطب المؤمنين ( يا أيها الذين آمنوا ) وقد يتساءل أحدنا بناء على هذا : أين الآية أو الآيات التي تبدأ بهذا النداء هنا؟ فأقول : حين بدأت هذه الآية بقوله تعالى : قل يا عبادِ الذين آمنوا ،فكأنه سبحانه قال ( يا أيها الذين آمنوا ) وكان الخطابُ لهذه الفئة الطيبة تحديداً، الذين آمنوا.
"قل يا عبادِ الذين آمنوا اتقوا ربَّكم، للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنةٌ ،وأرضُ الله واسعةٌ ، إنما يوفى الصابرون اجرَهم بغير حساب " الزمر 10
يأمر الله تعالى عباده المؤمنين بالاستمرار على طاعته وتقواه " قل يا عباد الذين آمنوا اتقوا ربكم للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة " فمن أحسن العمل في دنياه نال الأجر فيها وفي أخراه ومن رأى المعصية تنتشر في بلده ويُدعى إليها بالقول الفاسد والعمل السيء ، ولم يستطع أن يُصلِح لقوة الفساد آنئذٍ ، ولم يجد أعواناً على الخير ، بل خاف على نفسه فليهاجر إلى أرض أقلَّ شروراً أو أرضٍ صالحة يعبد الله فيها ، فأرض الله واسعة لا ينبغي أن يظل المرء في مكان يخاف فيه على نفسه وأهله وعياله، وهذا ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ‘إذ هاجروا إلى المدينة حين رأوا الظلم يستفحل في مكة . أرض الله واسعة فإن ضاقت الأرض في مكان فقد يجد في غيرها الأمن والأمان .
وما ينبغي لحبِّ لأرض أن يكون سبباً في بقاء المسلم على الضيم أو يُضيّع دينه ويخسر آخرته ، وما أروع قوله سبحانه وتعالى " إنما يُوفّى الصابرون أجرهم بغير حساب " فالأجر مضاعف يناله المسلم الذي فرَّ بدينه إلى ربه ، فيغرف الله تعالى له الثواب بما لا يتوقع – بغير حساب – وحين يرى الكريم من عبده إليه إقبالاً ، وعن الدنيا إدباراً، ووجد فيه صبراً عن حطام الدنيا وترفعاً عن سفسافها أجزل له العطاء وزاد في إكرامه أن يدخله الجنة خالداً فيها منعماً، ويُنعم عليه برضاه.
وتعال معي إلى رحمة الله تعالى وحبه لعباده الذين أنابوا إليه بعد بعدهم عنه، وقربِهم منه بعد نأي وجفوة ،بل ينادي الغارقين في الذنوب علَّهم يثوبون إلى رشدهم ، فهو – سبحانه – يناديهم نداء المحب على الرغم من كثرة ذنوبهم وإسرافهم فيما لا ينبغي أن يفعلوه ينادي على مسمع الزمان ( يا عبادي)
"قل يا عباديَ الذين أسرفوا على أنفسهم ؛ لا تقنطوا من رحمة الله ، إن الله يغفر الذنوب جميعاً إنه هو الغفور الرحيم ، وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له من قبل أن يأتيكم العذاب ثم لا تُنصرون ،واتبعوا أحسن ما أُنزل إليكم من ربكم من قبل أن ياتيكم العذاب بغتة وأنتم لا تشعرون ، أن تقول نفس يا حسرتا على ما فرَّطت في جنب الله وإن كنتُ لَمن الساخرين ،أو تقولَ لو أن الله هداني لكنتُ من المتقين ،أو تقول حين ترى العذاب لو أن لي كرّةً فأكون من المحسنين ،بلى قد جاءتكَ آياتي فكذَّبت بها وكنتَ من الكافرين "54-59 الزمر
إنهم أسرفوا في ذنوبهم فابتعدوا عن درب الهداية ، ولربما رغبوا في التوبة فقال لهم شياطين الإنس والجن : لن يقبل الله توبتكم وقد تماديتم في الضلال ، فيسمعون النداء العلويّ يبعث فيهم الأمل ويزرع في نفوسهم التفاؤل : لا يقنط المرء من رحمة الله وعفوه ،ولا ييئس من غفرانه ورضاه ، فهو سبحانه غفار الذنوب ستار العيوب ، من دنا منه شبراً دنا منه باعاً ومن دنا منه باعاً دنا الله منه ذراعاً ، وهو سبحانه لَيفرحُ بالعبد التائب المقبل بكليته عليه مادام فيه نفَسٌ يراوح، وقلب ينبض ولسانٌ يذكر ، باب التوبة مفتوح ما دام المرء حياً لم يغرغر، فعن عمرو بن عبسة رضي الله عنه قال جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم شيخ كبير يدعم على عصا له فقال : يا رسول الله إن لي غدراتٍ وفجرات فهل يُغفرُ لي ؟ فقال صلى الله عليه وسلم " ألست تشهد أن لا إله إلا الله ؟ " قال : بلى وأشهد أنك رسول الله ،فقال صلى الله عليه وسلم " قد غفر لك غدراتك وفجراتك " رواه أحمد.
يتوب الله تعالى على عبده حين يؤوب إليه ويسلك درب الإيمان ويعمل بما يرضيه ، وقد نبه النبي صلى الله عليه وسلم إلى رحمة الله حين نظر الصحابة إلى امرأة من السبي لزقَتِ ابنها في صدرها وأرضعته فقال : " لَلهُ ارحمُ بعباده من هذه بولدها" وروى ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم قولَه صلى الله عليه وسلم : " ما أحِبُّ أن لي الدنيا وما فيها بهذه الآية " قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم " ولأنّ باب الرحمة والتوبة واسع قال الله تعالى " ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة عن عباده ...؟" نقول : بلى : إنه هو الغفور الرحيم بعباده .
خلقنا الله تعالى ناقصين " خلق الإنسانُ من عَجَل" وهو العالم بضعفنا يعيننا على التوبة ،ويهيء لنا سبل الهداية .وقد صرح النبي صلى الله عليه وسلم بذلك فقال :والذي نفس محمد صلى الله عليه وسلم بيده لو لم تخطئوا لجاء الله عز وجل بقوم يخطئون ثم يستغفرون الله فيغفر لهم " رواه الإمام أحمد. ومن رحمة الله أنه أرسل رسله لمدّعي الألوهية أن يتوبوا ومثالهم فرعون ،ولمن قتلوا العشرات والمئات ومثالهم الذي قتل تسعة وتسعين فأكمل بالعابد المئة. قال الحسن البصري رحمة الله عليه انظروا إلى هذا الكرم والجود، قتلوا أولياءه ،وهو يدعوهم إلى التوبة والمغفرة.
وما أروع ما رواه الفاروق رضي الله عنه إذ قال: كنا نقول: ما الله بقابلٍ ممن افتتن صرفا ولا عدلا ولا توبة ،عرفوا الله ثم رجعوا إلى الكفر لبلاء أصابهم ، وكانوا يقولون ذلك لأنفسهم، فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة أنزل الله تعالى فيهم وفي قولنا وقولهم لأنفسهم " قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم ... " الآية . قال عمر رضي الله عنه فكتبتها بيدي في صحيفة وبعثت بها إلى هشام بن العاص، فقال هشام لما أتتني جعلت أقرأها بذي طوى أصعِّد بها فيه وأصوِّت ،ولا أفهمها حتى قلت :اللهم أفهمنيها. قال فألقى الله عز وجل في قلبي أنها إنما أنزلت فينا وفيما كنا نقول في أنفسنا ويقال فينا، فرجعت إلى بعيري فجلست عليه فلحقت برسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة .
ويظل باب الأمل والرجاء بعفو الله تعالى وغفرانه مفتوحاً إلى أن يموت المرء ، والندمُ كفارة الذنب ، ولا ينفع الندم بعد الموت. ولا الحسرة – إذ ذاك- والاعتراف بالذنب ولا الرغبة في العودة إلى الدنيا ، فهذا محال ، نسأل الله تعالى كمال الإيمان والعمل بما يزين حياتنا في الدارين .
يروي القرطبي في شرح هذه الآية حواراً بين رب العزة وإبليس اللعين وأبينا آدم عليه السلام :
" إن إبليس - لعنه الله تعالى - قال يا رب إنك أخرجتني من الجنة من أجل آدم وإني لا أستطيعه إلا بسلطانك .
قال فأنت مسلط .
قال يا رب زدني .
قال :لا يولد له ولد إلا ولد لك مثله .
قال يا رب زدني .
قال :أجعل صدورهم مساكنَ لكم وتَجرون منهم مجرى الدم .
قال :يا رب زدني .
قال :أجلب عليهم بخيلك ورجلك وشاركهم في الأموال والأولاد وعدهم، وما يعدهم الشيطان إلا غرورا .
فقال آدم عليه الصلاة والسلام : يا رب قد سلطته علي وإني لا أمتنع إلا بك.
قال تبارك وتعالى : لا يولد لك ولد إلا وكلت به من يحفظه من قرناء السوء.
قال يا رب زدني .
قال :الحسنة عشر أو أزيد، والسيئة واحدة و أمحوها .
قال يا رب زدني .
قال :باب التوبة مفتوح ما كان الروح في الجسد .
قال يا رب زدني.
قال " يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم " .
إنه سبحانه ينادينا للعودة إلى رحابه والتوبة والإنابة إليه .....
فهل سمعنا النداء ووعيناه؟