نواميس الكون الغلابة

الإمام الشهيد حسن البنا

من كلمات الحكماء الخالدين بناة الأمم وقادة النهضات العظام، ورواد البعث الحضاري للجيل الواعي قولهم: "ألجموا نزوات العواطف بنظرات العقول، وأنيروا أشعة العقول بلهب العواطف، وألزموا الخيال صدق الحقيقة والواقع، واكتشفوا الحقائق في أضواء الخيال الزاهية البراقة، ولا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلقة، ولا تصادموا نواميس الكون فإنها غلابة، ولكن غالبوها، واستخدموها وحولوا تيارها واستعينوا ببعضها على بعض، وترقبوا ساعة النصر وما هي منكم ببعيد".

ويقول الإمام البنا رحمه الله: "لا تيئسوا؛ فليس اليأس من أخلاق المسلمين، وحقائق اليوم أحلام الأمس، وأحلام اليوم حقائق الغد، ولا يزال في الوقت متسع، وما زالت عناصر السلامة قوية عظيمة في نفوس شعوبكم المؤمنة رغم طغيان مظاهر الفساد، والضعيف لا يظل ضعيفاً طول حياته، والقوي لا تدوم قوته أبد الآبدين،  (ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين * ونمكن لهم في الأرض ونري فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون)  (القصص: 5-6).

إن الزمان سيتمخض عن كثير من الحوادث الجسام، وإن الفرصة ستسنح للأعمال العظيمة، وإن العالم ينتظر دعوتكم؛ دعوة الهداية والنور والسلام؛ لتخلصه مما هو فيه من آلام، وإن الدور عليكم في قيادة الأمم وسيادة الشعوب آت إن شاء الله، وتلك الأيام نداولها بين الناس، وترجون من الله ما لا يرجون، فاستعدوا واعملوا اليوم، فقد تعجزون عن العمل غداً.

ولقد خاطبت المتحمسين منكم أن يتريثوا وينتظروا دورة الزمن، وإني لأخاطب المتقاعدين أن ينهضوا ويعملوا ويربوا ويوقظوا، فليس مع العمل راحة ولا مع الحكمة طيش".

إن أمتنا مهزومة في كثير من نواحي الحياة وعليها أن تبني نفسها، فإنها في أشد الحاجة أولاً إلى بناء النفوس وتشييد الأخلاق، وطبع أبنائها على الخلق والرجولة الصحيحة، حتى ينهضوا ويصمدوا لما يقف في طريقهم من عقبات، ويتغلبوا على ما يعترضهم من صعاب؛ لأن الرجولة هي سر حياة الأمم ومصدر نهضتها، وإن تاريخ الأمم جميعاً إنما هو تاريخ من ظهر بها من الرجال النابغين الحكماء، أقوياء النفوس والعقول والإرادات، وقوة الأمم أو ضعفها إنما يقاسان بخصوبتها في إنتاج الرجال الذين تتوافر فيهم شرائط الرجولة الصحيحة، وإني أعتقد والتاريخ يؤيدني أن الرجل الواحد في وسعه أن يبني أمة إن صحت عزيمته ورجولته، وفي وسعه أن يهدمها كذلك إذا توجهت هذه الرجولة ناحية الهدم لا ناحية البناء.

والواقع أنني في سياحاتي الكثيرة، ووقفاتي العديدة لم أجد داعية أو مفكراً أو مؤسساً لنهضة مثل الإمام حسن البنا في إخلاصه وعقله ونظرته الثاقبة للأمور، وتفانيه في إيقاظ أمته ورسم الطريق الصحيح لها؛ لمعرفته بعللها، ولدرايته بعدوها وواقعها، ولمعرفته بعصره وأوانه ووقته وزمانه، فاسمع إلى الرجل في فقهه للحال ودرايته بالمآل يقول: "وقد شاءت لنا الظروف أن ننشأ في هذا الجيل الذي تتزاحم الأمم فيه بالمناكب، وتتنازع البقاء أشد التنازع، وتكون الغلبة دائماً للقوي السابق.

وشاءت لنا الظروف كذلك أن نواجه نتائج أغاليط الماضي، ونتجرع مرارتها، وأن يكون علينا رأب الصدع وجبر الكسر، وإنقاذ أنفسنا وأبنائنا واسترداد عزتنا ومجدنا، وإحياء حضارتنا، وتعاليم ديننا.

وشاءت لنا الظروف أن نخوض عهد الانتقال الأهوج؛ حيث تلعب العواصف الفكرية والتيارات النفسية والأهواء الشخصية بالأفراد والأمم، وبالحكومات وبالهيئات وبالعالم كله، وحيث يتبدل الفكر وتضطرب النفس ويقف الربان في وسط اللجة يتلمس الطريق ويتحسس السبيل، وقد اشتبهت عليه الأعلام، وانطمست أمامه الصور، ووقف على رأس كل طريق داع يدعو إليه في ليل دامس معتكر، وظلمات بعضها فوق بعض، حتى لا تجد كلمة تعبر بها عن نفسية الأمم والأفراد في مثل هذا العهد أفضل من "الفوضى".

وإن الأمم التي تحيط بها ظروف كظروفنا، وتنهض لمهمة كمهمتنا، وتواجه واجبات كتلك التي نواجهها، لا ينفعها أن تتسلى بالمسكنات أو تتعلل بالأماني، وإنما عليها أن تعد نفسها إعداداً قوياً".

ويصف الرجل هذا الإعداد الحكيم الذي يكون عاقبته نصراً يفرح المؤمنون به. وليرجع إلى حديثه من شاء في رسالته "هل نحن قوم عمليون".

أما أن تواجه الأمة عدوها خالية الوفاض من كل شيء في صراع طويل وعنيف بين الحق والباطل، لا رجولة تسندها، ولا قوة ترفعها، ولا علم ينفعها، ولا أخوة تؤيدها، ولا إيمان وعزيمة وقوة صادقة تؤازرها، وإنما نفوس رخوة لينة مترفة ناعمة تجرح خديها خطرات النسيم ويدمي بنانها لمس الحرير، وفتياتنا وفتياننا وهم عدة المستقبل ومعقد الآمال لا يزال حظهم مظهراً فاخراً، وأكلة طيبة وحلة أنيقة ومركباً فارهاً ولقباً أجوف، وإن اشترى ذلك بحريته وأنفق عليه من كرامته وإن ضاع في سبيله حق أمته!.

فهذا أمر يحتاج إلى التفاتة وشيء ينبغي أن يُنظر إليه، حتى نسترد عزمنا وقوتنا ونحن أمة عظيمة التاريخ كثيرة العدد، وافرة الموارد عميقة الجذور ناصعة التراث، وضاءة المحيا بالعزائم والبطولات والفتوحات، يستحيل على هذه الأمة إن صحت أن تظل مغبرة الجبين رخوة العزائم مهزومة النفوس، ولكن من يوقظها حتى تنتصر؟ ومن يناديها حتى تنهض من ثُبات؟ هذه هي المعادلة الصعبة التي تنسجم مع نواميس الكون الغلابة، ومع سنن الله ووعده، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.