قدوة القيادة في الإسلام 40
قدوة القيادة في الإسلام
الحلقة الأربعون : السؤال عنهم ، وتفقّد أحوالهم
د. فوّاز القاسم / سوريا
إن من أهم مظاهر حب الرسول القائد صلى الله عليه وسلم ، لجنوده وأحبابه ، هو سؤاله المستمر عنهم ، وتفقده الدائم لأحوالهم .
فلقد كان صلى الله عليه وسلم ، في مرحلة الاستضعاف المكية ، كثير السؤال عن إخوانه ، دائم التفقد لأحوالهم ، شديد الحرص على أمنهم وسلامتهم ، كثير التطواف على أماكن سكنهم ، للوقوف عن كثب على أحوالهم ، والتعرف من قرب على أوضاعهم ، ولطالما كان يمرَّ على آل ياسر وهم يعذّبون فيقول لهم : (( صبراً آل ياسر ، فإنَّ موعدكم الجنّة )). وكذلك هو الحال في المرحلة المدنية .
فقد كان صلى الله عليه وسلم ، يسأل عن جنوده ، ويتفقَّد أحوالهم فرداً فرداً ، ولا تمنعه كثرة مشاغله ، ولا زيادة أعبائه ، من هذا الواجب المقدَّس .
قال ابن إسحاق : حدثني وهب بن كيسان ، عن جابر بن عبد الله ، قال : خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إلى غزوة ذات الرِّقاع من نخل ، على جمل لي ضعيف ، فلما قفل رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ، قال : جعلت الرفاق تمضي ، وجعلتُ أتخلَّف ، حتى أدركني رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ( وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يتخلَّف في مؤخرة الجيش ليتفقّد الضعفاء ) فقال : مالك يا جابر ؟ قال : قلت : يا رسول الله ، أبطأ بي جملي هذا ؛
قال : أنخه ؛ قال : فأنخته ، وأناخ رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ ثم قال : أعطني هذه العصا من يدك ، أو اقطع لي عصا من شجرة ؛ قال : ففعلت . قال : فأخذها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فنخسه بها نخسات ، ثم قال : اركب ، فركبت ، فخرج ، والذي بعثه بالحق، يواهق ناقته مواهقة ( يسابقها ). قال : وتحدثت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال لي : أتبيعني جملك هذا يا جابر ؟ قال : قلت : يا رسول الله ، بل أهبه لك ؛ قال : لا ، ولكن بعنيه ؛ قال : قلت : فسُمنيه يا رسول الله ؛ قال : قد أخذته بدرهم ؛ قال : قلت : لا . إذن تغبنني يا رسول الله ! قال : فبدرهمين ؛ قال : قلت : لا . قال : فلم يزل يرفع لي رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثمنه حتى بلغ الأوقية . قال : فقلت : أفقد رضيت يا رسول الله ؟ قال : نعم ؛
قلت : فهو لك ؛ قال : قد أخذته . قال : ثم قال : يا جابر ، هل تزوجت بعد ؟ قال : قلت : نعم يا رسول الله ، قال : أثيّباً أم بكراً ؟ قال : قلت : لا، بل ثيّباً ؛ قال : أفلا جارية تلاعبها وتلاعبك ! قال : قلت : يا رسول الله ، إن أبي أصيب يوم أُحُد فترك بنات له سبعة ، فنكحت امرأة جامعة ، تجمع رؤوسهنَّ ، وتقوم عليهنَّ ؛ قال : أصبت إن شاء الله ، أما إنّا لو قد جئنا صِراراً أمرنا بجزور فنُحرتْ ، وأقمنا عليها يومنا ذاك ، وسمعتْ بنا ، فنفضتْ نمارقها . قال : قلت : والله يا رسول الله ما لنا من نمارق ؛ قال : إنها ستكون ، فإذا أنت قدمتَ فاعمل عملاً كيّساً . قال : فلما جئنا صِراراً أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بجزور فنُحرتْ ، وأقمنا عليها ذلك اليوم ؛ فلما أمسى رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل ودخلنا ؛ قال : فحدثت المرأة الحديث ، وما قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ قالت : فدونك ، فسمعٌ وطاعة . قال : فلما أصبحتُ أخذت برأس الجمل ، فأقبلت به حتى أنخته على باب رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛
قال : ثم جلست في المسجد قريباً منه ؛ قال : وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فرأى الجمل ؛ فقال : ما هذا ؟ قالوا : يا رسول الله ، هذا جمل جاء به جابر ؛ قال : فأين جابر ؟
قال : فدُعيت له ؛ قال : فقال : يا بن أخي خذ برأس جملك ، فهو لك، ودعا بلالاً ، فقال له : إذهب بجابر، فأعطه أوقية . قال : فذهبت معه ، فأعطاني أوقية ، وزادني شيئاً يسيراً .
قال : فوالله ما زال ينْمي عندي ، ويرى مكانه من بيتنا.
ولقد كان يتفقَّدُ الواحد من إخوانه من بين الآلاف المؤلَّفة من الجنود .
قال ابن إسحاق يحدِّث عن غزوة تبوك : ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم على سفره ، ثم إن أبا خيثمة رجع بعد أن سار رسول الله صلى الله عليه وسلم أياماً إلى أهله في يوم حارّ ، فوجد امرأتين له في عريشين لهما في حائطه ، قد رشَّتْ كل واحدة منهما عريشها ، وبرَّدتْ له فيه ماءً ، وهيأت له فيه طعاماً ، فلما دخل ، قام على باب العريش ، فنظر إلى امرأتيه وما صنعتا له ، فقال : رسول الله صلى الله عليه وسلم في الضِّحِّ ، والريح والحرّ ، وأبو خَيْثمة في ظلّ بارد، وطعام مهيأ ، وامرأة حسناء ، في ماله مقيم ، ما هذا بالنَّصَفِ .!
ثم قال : والله لا أدخل عريش واحدة منكما حتى ألحق برسول الله صلى الله عليه وسلم ، فهيّئا لي زاداً ، ففعلتا .
ثم قدَّم ناضحه فارتحله ، ثم خرج في طلب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أدركه حين نزل تبوك . فلما دنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو نازل في تبوك ، قال الناس : هذا راكب على الطريق مقبل ؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : كن أبا خَيْثَمة؛
فقالوا : يا رسول الله ، هو والله أبو خَيْثَمة . فلما أناخ أقبل فسلّم على رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : أولى لك يا أبا خَيْثَمة . ثم أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر ؛ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم خيراً ، ودعا له بخير . هشام 2 ( 520 )
وكذلك فعل مع أبي ذرٍّ رضي الله عنه ، عندما أبطأ به بعيره ، وتأخر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وهكذا فلم يمنع هذا القائد العظيم صلى الله عليه وسلم ، طول الطريق، وبُعد الشُّقَّة ، وشدّة الحرِّ ، وكثرة العدوِّ ، من أن يتفقد إخوانه ، ويسأل عنهم ، من بين الآلاف المؤلفة من أفراد جيشه.