معركة اليرموك ( 36 )
دروس في فقه الجهاد والقيادة الراشدة
د. فوّاز القاسم / سوريا
أرسل هرقل بعد كل هذه الهزائم المتلاحقة إلى بيزنطة عاصمة دولته ، وإلى روما عاصمة الامبراطورية الرومانية الغربية ، ولم تكن يومها تحت سيطرته ، يطلب فيها حشد كل من يقوى على حمل السلاح في تجنيد إجباري ، ليرمي آخر سهم في جعبته ...
يقول الرواة : فأقبل إليه من الجموع ما لا تحمله الأرض ..!!!
فمنهم من أوصل الرقم إلى أربعمائة ألف مقاتل ، ولكن الراجح أنهم كانوا حوالي مائتي ألف مقاتل ..
وكما فعل يزدجرد الثالث على الجبهة الفارسية الشرقية ، حيث ولّى رستم وهو من أعظم قادة فارس ليخوض معركة القادسية ، كذلك ولّى هرقل باهان ، وهو من أعظم قادة الروم ليقود معركة اليرموك .!
فلما قدمت عيون أبي عبيدة بأخبار الروم وجمعهم الكبير هذا ، جمع قادته ليستشيرهم ، فأجمع رأيهم على الخروج من أرض الشام إلى حدود بلاد العرب ليخوضوا معركتهم الفاصلة هناك كعادتهم دوماً في عدم التشبث بالأرض ، فإن هزموا الروم ، فتعود الأرض لمن غلب ، وإن كانت الأخرى ، لا سمح الله ، لاذوا بصحرائهم ، فهم بها أعرف ، وعدوّهم بها أجهل ، وكانوا قريبين من عاصمة ملكهم ، وخطوط إمدادهم ، وكتب أبو عبيدة إلى عمر يخبره الخبر ...
فلما أراد أبو عبيدة أن يمضي بجيش المسلمين من حمص أمر برد الجزية إلى أهلها ، فأخذ أهل حمص يقولون : ( ردّكم الله إلينا ، ولعن الله الذين كانوا يملكوننا من الروم ، فو الله لو كانوا هم ما ردّوا علينا درهماً ، بل غصبونا وأخذوا ما قدروا عليه من أموالنا ، فو الله لولايتكم وعدلكم ، أحبّ إلينا مما كنا فيه من الظلم والغشم ..إلخ ).
وتحرك أبو عبيدة بالمسلمين من حمص إلى الجنوب حتى نزلوا اليرموك في جنوب سورية ، وجمع إليه قادة المسلمين بجيوشهم حتى صاروا في صعيد واحد ، واستعدّوا للمعركة الفاصلة .
وفي واحدة من أندر مواقف التاريخ العسكري ، بل البشري كلّه ، يجتمع خالد بأبي عبيدة رضي الله عنهما ، فيقول خالد : يا أبا عبيدة ، ولّني ما وراء بابك ، وخلّني والقوم ، فإني لأرجو أن ينصرني الله عليهم ، فيقول له أبو عبيدة : قد فعلت .!!!
يا الله ... يا للروعة ... يا للعظمة ... يا للعبرة ... يا لألق التاريخ ..
سجّل يا ريخ البشرية ... ونتحدّى أن يكون ذلك قد تكرّر في التاريخ البشريّ كلّه عند غير هؤلاء العمالقة الكرام رضوان الله عليهم ...!!!
وهكذا يعود خالد مرّة أخرى ليصبح القائد العام للقوات العربية الإسلامية المسلحة في الشام كلّها ...!!!
يقول الرواة : ( وكان خالد رضي الله عنه ، من أعظم الناس بلاءً ، وأحسنهن غناءً ، وأعظمهم بركة ، وأيمنهم نقيبة ، وكانت جموع الروم أهون عليه من الذباب ) ...!!!
ويرد خالد لأبي عبيدة رضي الله عنهما ، التحيّة بأحسن منها ، فيعبيء قوات المسلمين ، ويمزج الجيوش الخمسة في جيش واحد ويبتكر في تقسيمها طريقة الكراديس ، ليزيد من مرونتها في الحركة ويقول لأبي عبيدة بأدب لا يتكرّر في التاريخ العسكري والبشري : من كنتَ تجعل على ميمنتك .!؟
فيقول أبو عبيدة : معاذ بن جبل ، فيقول خالد : هو الرضا والثقة ، وهو أهل لذلك فولّه ، فيأمر أبو عبيدة معاذاً أن يتولى الميمنة ...
ثم لم يزالا على هذا التعاون والتشاور حتى تعبأ الجيش كلّه ، ثم قسّم خالد قوات الفرسان إلى أربعة فرق ، حتى تسهل المناورة بها عند الشدائد ، وجعل على كل فرقة منها صنديداً من صناديد الإسلام ، قيس بن هبيرة ، وعمرو بن الطفيل ، وميسرة بن مسروق ، وكان هو على رأس إحداها .!
ثم بعث أبو عبيدة إلى أهل كلّ راية وأمرهم بطاعة خالد ، فقالوا جميعاً : سمعنا وأطعنا ..!!!
ثم خرج الدعاة والخطباء والأمراء والقراء أمام الصفوف يحرّضون الناس على الصبر والثبات والشجاعة والتضحية ...
سجّل يا تاريخ البشرية ... وسجّل يا تاريخ العسكرية ...!!!
وألف شكر مرّة أخرى لرواة التاريخ النبلاء الذين نقلوا لنا هذه الروائع الخالدة ...!!!
وتقابل الجيشان في الخامس من رجب / 15 هجري ، وخرج فارس رومي يطلب المبارزة ، فهمّ أن يخرج إليه خالد بنفسه ، ولكن عملاق اليمن قيس بن هبيرة أسرع إليه ، وفي مثل لمح البصر ضربه بالسيف على هامته ، فقطع ما عليه من المغفر ، وفلق هامته ، وسقط الروميّ مضرجاً بدمائه ، فكبّر قيس ، وكبّر معه المسلمون ، الأمر الذي كان يثلج صدر خالد ، ويحرص على أن يفتتح بع معاركه كلّها ، لما فيه من رفع معنويات جنوده ، وسحقها لدى أعدائه ، ثم صاح خالد بالمسلمين : (ما بعد ما ترون إلا الفتح ، إحمل عليهم يا قيس )...!!!
وحمل قيس على من قبله من فرسان العدوّ حتى كشفها وقصفها على صفوف المشاة ، وكذلك فعل خالد وقادة الفرق الأخرى على من قبلهم، وكانت هذه من خالد لفتة معنوية مذهلة أراد أن يفتتح بها معركة غير متكافئة العدد والعدّة ، فلقد كان عدد الروم حوالي أربعمائة ألف ، بينما عدد المسلمين حوالي ثلاثين ألفاً ، أي أن العدوّ عشرة أضعاف المسلمين عدداً وعدّة ، وكان الظاهر فيها انسحاب قوات المسلمين أمام أعدائهم بما يرفع من معنويات العدوّ ، فيجترئوا ، ويحطّها لدى المسلمين ، فيخافوا .
ثم تزاحف الفريقان ، فأما الروم فقد أقبلوا بكتائب كالجبال ، وبصفوف لا يُرى أولها من آخرها ، يحملون صلبانهم ، ويزفّون زفيفاً ...!!!
وأما المسلمون فقد صمدوا لهم صمود الأبطال ، وامتصوا صدمتهم الأولى بشجاعة وثبات لا تتكرر في التاريخ العسكري ، وكان القادة يتقدّمون الصفوف ، ويرفعون الهمم ، ويقاتلون قتال الأبطال .!!!
وكان خالد هناك يرقب الموقف بعيني الصقر ، وكان يبحث دوماً عن فرصته التي يلتقطها ، وكان يتميّز بخصوبة الذهن العسكري ، وحضور البديهة ، وسرعة الاستجابة ، والمفاجأة المذهلة ، فعمد إلى خطّته المعروفة ، التي طالما كررها في حروبه كلّها ، ابتداءً من أُحد ، مروراً بعقرباء مع مسيلمة الكذاب ، فالولجة في العراق مع الفرس ، وانتهاءً باليرموك الآن مع الروم ، وهي الاحتفاظ بقوّة من خيرة فرسانه ، وإنشاب القتال ، حتى إذا اشتد بأس الحرب ، وحمي وطيسها ، وتعب العدوّ ، وتضعضعت قواته ، وتصدّعت صفوفه ، وحانت الفرصة ، أفلت فرسانه المستجمّة ، فالتفّت على فرسان العدوّ المنهكة فسحقتها ، وفي هذه اللحظات تُحسم كلّ المعركة ...!!!
لقد فعلها خالد والله ، فكان هو على رأس تلك الوحدات في الميمنة ، وقيس بن هبيرة على رأس الأخرى في الميسرة ، وصاح في الناس :
( يا أهل الإسلام ، لم يبق عند القوم من الجلد والقتال والقوّة إلا ما قد رأيتم ، فالشَدَّة ، الشدَّة ، فو الذي نفسي بيده ، ليُعطيَنَّكم اللهُ الظفر عليهم الساعة ، وإني لأرجو أن يمنحكم الله أكتافهم ).
فلما تضعضعت قوات الروم ، وتكسّرت صفوفهم أمام صمود المسلمين كما تتكسّر أمواج البحر على الشاطيء ، شدّ وشدّ معه قيس بن هبيرة على أجناب العدوّ ، وأعملوا السيوف في الرقاب يقتلونهم كيف شاؤوا ...!!!
وبدأت خيل الروم بالفرار ، فأفسح لها المسلمون الطريق لتهرب .
وانهارت معنويات الأعداء ، وبدأت جموعهم تتقصّف بعضها فوق بعض ...
قال سعيد بن المسيّب ، عن أبيه : ( بينما نحن على ذلك ، سمعنا صوتاً يكاد يملأ العسكر ، يقول : يا نصر الله اقترب ، الثبات ، الثبات ، يا معشر المسلمين ، فتعطّفنا عليه فإذا هو أبو سفيان بن حرب ، تحت راية ابنه يزيد ).
يقول الرواة : وأقبل المسلمون على الروم ، ففضّوهم ، فكأنما هُدم بهم حائط ...!!!
ثم دفعهم المسلمون إلى الخلف حتى ألقوا بهم في الياقوصة ، ويقدّر الرواة عددهم بعشرات الألوف ، هذا عدا عن الذين قتلوا في ميدان المعركة وعددهم خمسون ألفاً ...!!!
ثم خرج خالد في الخيل يتعقّب الفلول المنهزمة ويقتلهم في كل شعب وفي كل واد ...
ولقد كانت ملحمة اليرموك قاصمة ظهر الروم ، كما كانت ملحمة القادسيّة التي جرت بعد حوالي شهر من اليرموك قاصمة ظهر الفرس وبعدهما لم تقم للفرس والروم قائمة ...
ألا ما أعظم هذا التاريخ الزاهر ، وما أروع هذه الملاحم الخالدات ...
وما أجدرنا أن نقرأه بتمعن ، ونتدارسه بعبرة ، وننهل من دروسه وكنوزه وعبره ...!!!؟