أبو مسلم الخولاني
أ.د/محمد أديب الصالح
رئيس تحرير مجلة حضارة الإسلام
هو عبد الله بن ثوب الخولاني من كبراء التابعين ، أصله من اليمن أدرك الجاهلية وأسلم قبل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم ولم يره ، وقيل : كان إسلامه عام حنين . قدم المدينة في خلافة أبي بكر رضي الله عنه ، وهاجر إلى الشام في أيام معاوية ، وقد ذكر شرحبيل بن مسلم أن الأسود العنسي المتنبئ باليمن ألقاه في النار فأنجاه الله منها . روى رحمه الله عن عمر ومعاذ وأبي عبيدة والكبار، حدث عنه أبو إدريس الخولاني وأبو العالية الرياحي وجبر بن نفير وعطاء وأبو قلابة وطائفة ، قال الذهبي : وثقه ابن معين وغيره ، وله مناقب وكرامات وكان يقال : حكيم هذه الأمة . أكثر المصادر على أنه توفي في دمشق قريباً من اثنتين وسبعين للهجرة ، وقبره في داريا .
حكيم هذه الأمة ... شهد هذه الشهادة بأبي مسلم أكثر من واحد من أعلام الأمة ، ومن حكمته رحمه الله ما كان يقوله في معرض حديثه عن العلم والعمل وما يكون من شأن العالم إذا عمل بعلمه وأفاد الناس من علمه وعمله ، وما إذا كان على حال لم يستطع معها أن يؤثر في الناس .. ثم ما إذا كان على حال يفيد الناس بعلمه ولكنه هو لا يعمل بهذا العلم والعياذ بالله .
قال أبو مسلم في ذلك : العلماء ثلاثة ؟ رجل عاش بعلمه وعاش الناس معه ، ورجل عاش بعلمه ولم يعش الناس معه ، ورجل عاش الناس بعلمه وأهلك نفسه .
وأبو مسلم عندما يصنف العلماء هذا التصنيف ، يلحظ مكانة العالم في حياة المسلمين ، وكيف أنه في موضع الريادة والدلالة على الخير، فإذا انتكس عن الطريق التي أكرمه الله بها كانت الهلكة والخسران ، لقد جعل أبو مسلم مثل العلماء في الأرض كمثل النجوم في السماء إذا ظهرت للناس شاهدوا وإذا غابت عنهم تاهوا .
ولم تقتصر حياة أبي مسلم على العلم والتعليم والزهادة في الدنيا ، بل كان يضم إلى ذلك الجهاد في سبيل الله شأن الرجل الرباني الذي يعمل بما يعلم ، ويسابق الناس ويدعوهم إليه من التزام ما أمر الله به من التقوى والجهاد ؛ فقد عرف عنه أنه اشترك في أكثر من غزوة لأرض الروم هنا على حدود بلاد الشام ، وكانت تظهر على يديه بعض الكرامات التي يكرم الله بها عبده المؤمن المستقيم على طاعته الملتزم لشرع الله في أحكامه وآدابه . فقد روى علماء التراجم عن محمد بن زياد أن أبا مسلم كان إذا غزا أرض الروم فمروا بنهر قال : أجيزوا باسم الله ويمر بين أيديهم قال : فيمرون بالنهر الغمر، فربما لم يبلغ من الدواب إلا إلى الركب أو بعض ذلك ، أو قريب من ذلك ، فإذا جاؤوا قال للناس : هل ذهب لكم شيء ؟ من ذهب له شيء فأنا له ضامن ، قال : فألقى بعضهم مخلاة عمدا ، فلما جازوا قال الرجل مخلاتي وقعت في النهر، قال له اتبعني ، فإذا المخلاة تعلقت ببعض أعواد النهر.
ومن أخباره مع الصحابة وحبه إياهم واستشرافه لما عندهم من الخير يحملونه من فيض النبوة إلى الناس ما ورد من حديثه مع معاذ بن جبل ، فعن عطاء عن أبي مسلم الخولاني قال : دخلت مسجداً فإذا حلقة فيها بضعة وثلاثون رجلاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، وإذا فيهم شاب آدم أكحل براق الثنايا محتب ، فإذا تذاكروا أمراً ، فأشكل عليهم سألوه ، فقلت : من هذا ؟ فقالوا : معاذ بن جبل ، قال : فقمنا فصلينا المغرب ، فلما انصرفنا لم أقدر على أحد منهم ، فلما كان من الغد هجرت فإذا أنا بمعاذ قائماً يصلي إلى سارية ، فصليت إلى جانبه ، فظن أن لي إليه حاجة ، فلما انصرف قعدت بينه وبين السارية محتبياً فقلت : والله إني لأحبك من غير قرابة ولا صلة أرجوها منك ، قال : فيم ذلك ؟ قلت في الله ، قال : فأخذ حبوتي ثم قال : أبشر إن كنت صادقاً ، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :
" المتحابون في الله على منابر من نور في ظل العرش يوم لا ظل إلا ظله ،
قال : فأتيت عبادة بن الصامت فأخبرته فقال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبر عن الله عز وجل :
" حقت محبتي للمتحابين فيّ ، وحققت محبتي للمتزاورين فيّ ، وحقت محبتي للمتناصحين فيّ ".
هذه نبذة من أخبار هذا التابعي الكبير التي نلمح فيها العلم والعمل وصدق المواقف في الجهاد ، والحكمة البالغة التي يجريها الله تبارك وتعالى على قلوب عباده المتقين وألسنتهم ، وحبهم لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الذين من أحبهم فبحب رسول الله أحبهم ...
رحمك الله أبا مسلم فأنت حقاً حكيم هذه الأمة بعلمك وعملك وزهادتك وجهادك .. ونسأل الله أن يعلي مقامك في دار البقاء وأن يجعلنا عند الذي سلكه أئمة الهدى من ربانيي هذه الأمة إنه ولي ذلك والقادر عليه .
الهوامش :
* " حضارة الإسلام " السنة 17 العدد الثاني ربيع الآخر 1396 نيسان 1976 .