مع الفضيل بن عياض رحمه الله
مع الفضيل بن عياض رحمه الله (1)
الدكتور محمد أديب الصالح
ـ 1 ـ
ليست هذه ترجمة تحيط بأحوال الفضيل بن عياض رحمه الله ، فحقه أكبر من ذلك وأكبر... ولكنها كلمات من مواعظه وتوجيهاته نزجيها ـ والوقت لا يمهل ـ على أن نعاود الحديث على صفحات قادمة إن شاء الله .
وهذه الكلمات ، على وجازتها ، صورة للمؤمن المخبت الذي زكى نفسه فصفت من أكدارها ، وكانت معه في طاعة الله لا عليه ، فالقلب يقظ ذاكر.. قد امتلأ خشية لله ، ورهبته من السؤال ... والجوارح طوع هذا القلب استقامة على الطريق ، واجتهاداً في العبادة ، وتذكراً حين يذكر الله ، وتدبراً حين يتلى القرآن ..
أو ليس من صفات المؤمنين : أنهم إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليه آياته زادتهم إيماناً وعلى ربهم يتوكلون ؟.. وكذلك كان الفضيل أجزل الله مثوبته ، ما نظرت في شيء من شأنه إلا وجدت مراقبة الله ، وحسبان الموت ، والتخلق بأخلاق أهل الآخرة .
قال إبراهيم بن الأشعث : ما رأيت أحداً كان الله في صدره أعظم من الفضيل ، كان إذا ذكر الله أو ذكر عنده أو سمع القرآن ، ظهر به من الخوف والحزن ، وفاضت عيناه وبكى حتى يرحمه من بحضرته ، وكان دائم الحزن شديد الفكرة ما رأيت يريد الله بعلمه وأخذه وإعطائه ، ومنعه وبذله ، وبغضبه وحبه ، وخصاله كلها غيره ـ يعني الفضيل .
والذين يصنعهم الله على عينه ، يذكّرون فيذكرون ، وتمر بهم العظمة فيتعظون ولا يغفلون ، وإذا جاءت العبرة فقلوبهم طوع الاعتبار ونظرة البصير، فأي شيء من هذا كله كالموت عظة وعبرة لأولئك الذين أعدى أعدائهم الغفلة وقسوة القلب .
روي
عن إبراهيم بن الأشعث قوله كنا إذا خرجنا مع الفضيل في جنازة لا يزال يعظ ويكر
ويبكي ، حتى لكأنه يودع أصحابه ، ذاهباً إلى الآخرة حتى يبلغ المقابر فيجلس ، فكأنه
بين الموتى ، جلس من الحزن والبكاء حتى يقوم ، ولكأنه رجع من الآخرة يخبر عنها).
رحم الله هذا العالم الزاهد العابد ، وأكرم مثواه بما قدم من الإنموذج الصالح لأخلاق ورثة الأنبياء ومن جعلهم الله للمتقين إماماً .
ـ 2 ـ
في العدد الأول من اعداد هذه السنة ، كانت لنا وقفة عجلى ، لم نملك سواها على الورق ، مع قصة الرجل الرباني الفضيل بن عياض ، حين قصده الخليفة هارون الرشيد رحمهما الله تلك القصة التي كانت في عمق دلالتها صورة واضحة لموقف المؤمن الناصح لله ولرسوله ولإمام المسلمين وعامتهم .
ونعود اليوم ـ والعود احمد ـ لنجد زاداً جديداً في سيرة الفضيل ، وكلماته ، ومواقفه ، فسير أعلام هذه الأمة معالم في طريق المسلم وصُوى ، خصوصاً أولئك الذين ظلوا على محجة الهدى ، وثبتوا على النهج صلة بالله عز وجل ، ووقوفاً عند كل الذي فيه مرضاته ، وصدق تطلع إلى من عند رب العالمين ، مقتحمين عقبات النفس والهوى ، متجاوزين مزالق الشيطان والسلطان ...
وها إنك لا تعدم أن ترى في أي واحدة من عظات هذا الرجل ، ما يضيء طريقك ، ويصلك بمنابع الهداية ، حيث لا ينفصم العلم عن العمل ، ولا الكلمات المسطورة عن السلوك .
انظر
إليه في هذه الإلمامة الدقيقة الرائدة من خاف الله تعالى لم يغره شيء ، ومن خاف
غير الله لم ينفعه أحد) ألا ما أشد حاجة المسلم حين تدلهم الخطوب وتعصف المغريات
بكثير من القلوب ، ويترنح أهل العناوين تحت مطارق الرغب أو الرهب .. ما أشد حاجة
المسلم ـ والأمر كذلك ـ إلى تمثل هذه الحقيقة ، بل تذوق معناها ودلالتها لتكون له
خلقاً وسجية !! حين يخاف الله .. ما الذي يكون ؟؟
إنه حين يقف هذا الموقف ، لا يغره شيء .. مهما كان هذا الشيء .. وليذهب فكرك في هذا الشيء كل مذهب .. ومن عبثت به الشياطين فخاف غير الله .. سقط في الهاوية ، فلم ينفعه أحد من أولئك الذين نسي سلطان الله فخاف سلطانهم .. نعم .. خاف غير الله فلم ينفعه أحد . ألا إنها قاعدة نورانية تبدو أهميتها أكثر فأكثر ونحن نبصرـ بألم وحسرة ـ واقع المسلمين اليوم حين تنعكس الآية ويستبدل العديد من أبناء الأمة مخافة غير الله بمخافة الله .. فعلى صعيد البنية الفكرية والسلوكية عند المسلم لابد أن يتحرر من هذا الانتكاس ، كيما يكون قادراً أن يقف على قدميه في مواجهة العوائق والصوارف سواء كان ذلك من داخل النفس أو من خارجها في المجتمع في المجتمع على كل صعيد ..
وفي جواب عن سؤال كثيراً ما تردد ويتردد على الألسنة حين يتحسر الناس ـ بعيدين عن العمل ـ ويتلمسون طريق الخلاص دون سلوك مسالكه ، أجاب موجهاً إلى التزام طاعة الله مهما ابتعد الناس ، والبعد عن المعصية مهما تردى في هاويتها من تردى .. وذلك هو الطريق ، سأله عبد الله بن مالك فقال : يا أبا علي ما الخلاص مما نحن فيه ؟ فقال له : أخبرني ، من أطاع الله عز وجل ، هل تضره معصية أحد ؟ قال : لا ! قال : فمن عصى الله سبحانه وتعالى ، هل تنفعه طاعة احد ؟ قال : لا ! قال : فهو الخلاص إن أردت الخلاص .
ويا نعم ما جاءنا به الفضيل ـ أجزل الله مثوبته ـ من تحديد لمدلول التواضع في نظره ، فالتواضع ـ كما يرى ـ خضوع للحق وانقياد له ، أياً كان المصدر الذي نطق بهذا الحق .. وإذا كان الكبر على النقيض من التواضع ، فالمتكبر لا يخضع للحق ولا ينقاد له ، فإذا دعي إلى هذا الحق أخذته العزة بالإثم ، أما من يخضع للحق وينقاد له : فذلك هو الإنسان الذي أكرمه الله بخلق التواضع . سئل رحمه الله : ما التواضع ؟ فقال : أن تخضع للحق وتنقاد له ، ولو سمعته من صبي قبلته منه ، ولو سمعته من أجهل الناس قبلته منه .
ومن وصايا الفضيل الجامعة التي تزود بها رجلاً قال له : أوصني (أخف مكانك لا تعرف فتكرم بعملك ، واخزن لسانك إلا من خير، وتعاهد قلبك أن لا يقسو، وهل تدري ما قساوة من أذنب؟)
ألا ترى معي أن لكل فقرة من فقرات هذه الوصية أصلاً من الكتاب أو السنة !! ثم أوليس ذلك دليل أن الرجل أكرم الله مثواه ، يعطي حين يعطي ، والنفس مرتوية من هذا الخير في كتاب الله وسنة الرسول عليه الصلاة والسلام .
والآن : هذه بعض سمات المؤمن وبعض سمات المنافق يعرضها الفضيل ليعرفها المسلمون ويزنوا العمل والسلوك من خلالها ، قال إبراهيم بن الأشعث سمعت فضيل بن عياض يقول : (المؤمن قليل الكلام كثير العمل ، والمنافق كثير الكلام قليل العمل . كلام المؤمن حكم ، وصمته تفكر، ونظره عبرة ، وعمله بر، وإذا كنت كذا لم تزل في عبادة).
ألا إنها نعمة الإيمان ، وأعظم بها من نعمة ، وإذا سلم ذلك للمسلم كان له كل ذلك الخير، وكان منه كل ذلك العطاء ، فهو ليله ونهاره ، متقلبه ومثواه ، يسعد بهذا الإيمان ، ويسعد الآخرين .. والمن لله ولرسوله في ذلك " بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين " (2).
اللهم ارزقنا كمال الإيمان وصدق اليقين ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، ونق قلوبنا من كل وصف يباعدنا عن مرضاتك ومحبتك ، وحبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا ، وأجزل الفضيل بما نصح وذكر وبما علم وعمل . وبما استقام على الطريقة خير الجزاء .
اللهم ثبتنا بقولك الثابت ، وآت أنفسنا تقواها وزكها أنت خير من زكاها ، والحمد لله رب في الأولى والآخرة عليه توكلت وإليه أنيب .
الهوامش :
· حضارة الإسلام السنة 18 العدد 7 رمضان 1397 أيلول 1977 .
(1) هو الفضيل بن عياض بن سعود بن بشر أبو علي التميمي . شيخ الإسلام والإمام القدوة ، أخذ عنه خلق منهم الإمام الشافعي رضي الله عنه . وممن روى عنه شيخه سفيان الثوري أجل شيوخه . وترجمته زاخرة بالحديث عن زهادته وعبادته وتأثير مواعظه في القلوب . توفي رحمه الله سنة 178.
(2) من الآية 17 من سورة الحجرات .