رمضان

الشيخ أحمد جمال الحموي

رمضان

إعداد الشيخ أحمد جمال الحموي

عضو مؤسس في رابطة أدباء الشام

عندما يكون إنسان ما أمام نبع فوار يتفجر ماء عذباً كقطر الندى في صفائه ويتدفق قوياً ليغدو نهراً عظيماً يسقي ما حوله من بقاع فإذا هي بساتين غناء وحدائق ذات بهجة وجنات معروشات وغير معروشات فيها من كل الثمرات، وهذا الإنسان الواقف أمام النبع قد آذاه الحر اللافح وأثقله الدرن المتراكم زد على هذا أنه راح يلهث من العطش لكن هذا الإنسان لم يطفئ الحر بالمغتسل البارد ولا أزال الدرن المتراكم على جسمه بالماء النقاء المنساب أمامه، ولا شرب ليروي ظمأه ويشفي غلته بل وقف عاجزاً بلا حراك معرضاً عن هذا العذب الزلال، راضياً بلسعة الحر ولهيب العطش، وبشاعة الدرن ورائحته. فماذا يقال عن مثل هذا الإنسان؟ ألا ترى معي أنه أحمق، لجنايته على نفسه وإعراضه عما ينفعها وهو في أشد الحاجة إليه.

ومن ذا الذي يستغني عن السقيا، ومن منا لم يعلق به الدرن الذي يجب إزالته فيشعر المرء بالسعادة والراحة عن إزالته والتخلص منه.

وشبيه بهذا الصنيع صنيع إنسان يريد الوصول إلى هدف وهو يرى السبل أمامه ممهدة والأبواب مفتوحة مشرعة وكل الذي يريده سهل التناول قريب المجتنى، ويرى السالكين قد ملؤوا الطرق، وسدوا كل أفق، وهو قاعد قعود العاجزين لا يسلك طريقاً ولا يأخذ بسبب ينفعه، ولا يتدبر أمره مع المتدبرين.

ثم تخيل معي إنساناً يشهد سوقاً فيها أنفس السلع وأغلاها، وقد عُرضت بأثمان قليلة، فيخرج من السوق لا أقول بخفي حنين، بل يخرج خالي الوفاض صفر اليدين.

أيها الإخوة إن شهر رمضان سوق للمغفرة والرحمة والعتق من النار، وإن سبل ذلك كثيرة، وأبواب السوق واسعة مفتوحة لا يصد عنها من أراد الولوج فكيف يمضي رمضان وينقضي من غير أن ينال المسلم المغفرة، على الرغم من سهولة الحصول على تلك السلعة الثمينة والمطلب النفيس.

فلا غرو بعد هذا أن يدعو رسول الله صلى الله عليه وسلم على من يدرك رمضان فلا يغفر له كما جاء في جزء من حديث شريف (بَعُد من أدرك رمضان فلم يغفر له. إنْ لم يغفر له فمتى؟).

إن المغفرة نقاء معنوي وطهارة روحية وغسل للقلب من آثار الذنوب وأوضار الخطايا، من نهر هذا الشهر المتدفق بالماء العذب النمير، كما أن المغفرة ري للنفوس العطشى إلى الرحمة الظمأى إلى الرضوان. ولكأني برسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا الجزء من الحديث الشريف يشير إلى أنه لا يتخيل مسلماً يدرك شهر رمضان فلا ينال المغفرة ولا يحظى بالعفو مع كثرة الفرص المتاحة وسهولة التناول وتعدد الأبواب واتساع السبل.

فهذا الشهر الكريم شهر يحثو الله تعالى فيه المغفرة على الصائمين حثواً فيخرجون من الشهر أنقياء من الدرن، متبردين من حر الذنوب، مرتوين من شراب المحبة والأنس.

فأين من يقبل على الله عزوجل وقد مَدّ الكفين مهيض الجناح باكي العينين، وقد وَجّه مرآة القلب لاستقبال الإشارات وتلقي الأنوار والتجليات.

فمرحباً بك شهر الصيام وما أحلاك أيها الشهر الكريم، وما أعذب لياليك. إنها ليالي الدنو والقرب. ليالي الاتصال والوصال. ليال العابدين الوالهين الذين انجذبت قلوبهم إلى رب السموات والأراضين فربحوا في الدنيا والآخرة. ويا خسارة من يجهل ذلك ولا يعرفه ولا يتذوقه.

ومن مزايا هذا الشهر زيادة على مر أن الله تعالى يكتب أجره للمؤمن قبل دخوله فقد علم الله تعالى من المؤمن فرحه بهذا الشهر، وانتظاره له، ناوياً صيامه وقيامه إيماناً واحتساباً، وراح يعد القوت من الحلال وقد أضمر من النيات أفضلها وأسماها. فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم (أظلكم شهركم هذا بمحلوف رسول الله ما مر بالمسلمين شهر خير لهم منه. ولا مر بالمنافقين شهر شر لهم منه بمحلوف رسول الله. إن الله ليكتب أجره ونوافله قبل أن يُدْخله، وذلك أن المؤمن يعد فيه القوت من النفقة للعبادة، ويعد فيه المنافق اتباع غفلات المؤمنين واتباع عوراتهم. فغنم يغنمه المؤمن). رواه ابن خزيمة في صحيحه.

فنسأله تعالى أن يعيننا على صيام هذا الشهر وعلى قيامه وأن يتقبل منا ومنكم وكل عام والمسلمون بخير والحمد لله رب العالمين.