الصبر على المحن
الصبر على المحن
سلاح المؤمن
من صالح أحمد البوريني/عمان
عضو رابطة الأدب الإسلامي
يمتحن المؤمنون في هذا الزمان وفي كل زمان بأنواع من الابتلاءات والمحن على مستوى الأفراد والمجتمعات والدول ، وتلك سنة إلهية ماضية ، قال تعالى : (( أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون )) [ العنكبوت : 2 ] ، وقال عز وجل : (( الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا وهو العزيز الغفور )) [ تبارك : 2 ] ، وقد يكون الابتلاء بالرخاء وقد يكون بالشدة . وما يعنينا هنا هو وقوع الابتلاء بالشدائد والمحن وموقف المؤمن منها .
الصبر مظهر الرضا :
ولما كان الابتلاء بالمحن من سنة الله تعالى ، فقد لزم أن يعرف المؤمن ذلك وأن يفهم حقيقته ، وحين يفقه المؤمنون سنن الله تعالى فإنهم يحسنون التعامل معها ، ويتمثل فقه المؤمنين لسنة الابتلاء بالمحن في الرضا بقضاء الله تعالى والخضوع لأمره ، ومظهر هذا الرضا والخضوع هو الصبر ؛ هذا الخلق العظيم الذي يمثل موقف المؤمنين تجاه المحن والابتلاءات ، ويجسد فلسفة المؤمن في التعامل مع أكدار الحياة وجراحها ومنغصاتها التي لا تنتهي . وعلى أساس هذا الفهم السليم فإن المؤمن يكون راضيا بقضاء ربه عز وجل متسلحا بالصبر في كل أحواله ولا سيما في الشدائد والمحن وفقا لما ورد في حديث النبي صلى الله عليه وسلم : ( عجبا لأمر المؤمن إن أمره كله له خير وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له ) 1 .
الرضا حظ المؤمن :
وحين يؤمن العبد أن له على كل مصيبـة أو محنة مهما صغرت أجرا إذا صبر ، ويستيقــن أن صبره لا يذهب هباء منثورا وإنمـــا يكون مذخورا له عنـد ربه محفوظا له فــي ميزانه يوم القيامة ، وأن ( عظم الجزاء مع عظم البلاء وأن من رضي فله الرضى ومن سخط فله السخط ) 2 ، وأنه ( ما يصيب المسلم من نصب ولا وصب ولا هم ولا حزن ولا أذى ولا غم حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطايــاه ) 3 ، فإن ذلك الإيمان يغمره بالرضا ويفيض عليه من السكيـنة ما يخفف من آلامه ويسكن مـــن جراحه . ولذلك ترى المؤمــن في المحن والشدائد مـتذرعا بالصبر ، ميالا إلى التحمل والثبات محتفظا بتوازنـه ورباطة جأشه ، يترجم ذلك كله بمـا يناسب الحال من الكلمات والعبارات التي تعكس استسلامــه لأمر الله تعالى ورضاه بقضائـه ، فتراه يكثر من قول ( الحمد لله ) و ( لا حول ولا قوة إلا بالله ) وما شابه ذلك من الأقوال التي تثقل بها الموازين وتذهب قلق الأهل والمحبين .
مواقف متنوعة :
وفي زماننا كثيرة هي المحن التي تتطلب فهــم درس الصبــر فهما سليما ؛ يعين على الثبات ، ويساعد على تجاوز العثرات ، والوقوف في وجه التحديـات والصعوبات التي تعترض المسلمين في حياتهم الخاصة والعامة ، وتقف في طريق الدعوة ، وتعمل على إجهاض الصحوة .
وثمة مواقف وأحوال يلزم فيها الصبر ، سلاحا للمؤمن ، وزادا على طريقه لتحصيل مرضاة ربه عز وجل ، فإذا افتقده فيها أدركه الجزع وخالـط قلبه الفزع ؛ فلا تراه إلا ضعيفا مهزوزا مهزوما . ومن تلك المواقف والأحوال ما يلي :
الصبر على الفقر والحاجة :
إذ يكون الفقير المحتاج بين موقفيـن ؛ أولهمـا أن يلجأ إلى سـؤال النـاس، وطلب المعونة من الخلق ، والثاني أن يتصبر على حاله ممتنعا عن سؤال الخلق ، ومحتالا بما أمكن من الجهد وطرق أبواب العمل ، حتى يأتي الفرج ويبدل العسر يسرا . ولا شك أن موقف التصبر في هذه المحنة خير من موقف السؤال وعرض الحال ، ولذلك جاء توجيه النبي صلى الله عليه وسلم في مثل هذا الموقف مؤكدا على قيمة الصبر وحسن عاقبته ، فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن ناسا من الأنصار سألوا النبي صلى الله عليه وسلم فأعطاهم ، ثم سألوه فأعطاهم حتى نفد ما عنده ، فقال لهم حين أنفق كل شيء بيده : ( ما يكن عندي من خير فلن أدخره عنكم ، ومن يستعفف يعفـه الله ، ومن يستغن يغنه الله ، ومن يتصبر يصبره الله ، وما أعطي أحد عطاء خيرا وأوسع من الصبر ) 4 . وقوله يتصبر يفيد أن تحصيله الصبر لم يكن بسهولة ، وإنما بشيء من المعاناة والتحمل ، لأنه لم يكن صابرا إلا بتكلف مؤونة الصبر وتحمل مشقته .
الصبر في السراء والضراء :
ومن الطبيعي أن يصبغ الإيمان حياة المؤمن بصبغة الصبر ، وأن يكون المؤمن صابرا ، ولكن المؤمنين يتفاوتون في ذلك بقدر حظهم من الإيمان ، فكلما ارتفع مستوى الإيمان وازداد رسوخ اليقين كان العبد أكثر صبرا ، فارتفاع مستوى الإيمان يعني ارتفاع مستوى الصبر .
وفي معرض بيان الحق جل وعلا لوجوه البر امتدح الصابرين في البأساء والضراء بالصدق والتقوى فقال (( .. والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون )) [ البقرة : 177 ] ، وقد امتدح النبي صلى الله عليه وسلم شكر المؤمن على السراء وصبره على الضراء بقوله : ( عجبا لأمر المؤمن إن أمره كله له خير ، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن ؛ إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له ، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له ) 5 .
مصيبة الموت :
والمصائب تتفاوت أيضا في الشدة ، وليس ثمة مصيبة أشد وقعا على الإنسان من موت قريب أو عزيز ؛ فإن مصيبة الموت تهز الإنسان هزا عميقا ، وتفجعـه بفراق الأحباب ، ولذلك كان الصبر حينها لازما وضروريا للمؤمن ، وكان غيابه مؤديا في كثير من الأحيان للوقوع في المحظور من القول أو الفعل المحرم ، أو موجبا للشرك أو للكفر والعياذ بالله ؛ كالنياحة التي حرمها الشرع ، وإطلاق ألفاظ السخط والسخرية على القدر ، وعدم الرضا بقضاء الله عز وجل .
وقد بشر الله سبحانه من يصبر على موت عزيز عليه بأن له الجنة حيث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( يقول الله تعالى : ما لعبدى المؤمن عندي جزاء إذا قبضت صفيه من أهل الدنيا ثم احتسبه إلا الجنة ) 6 .
مصيبة العمى :
ومن أشق المصائب على الإنسان في صحته فقد بصره . لذلـك وعــد الله عز وجل من صبر على هذه المصيبة أن يجزيه الله الجنة ، وقد ورد هذا الوعــد الإلهي الصادق في الحديث القدسي الذي رواه أنس رضي الله عنه قال : سمعــت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( يقول الله تعالى : إذا ابتليت عبدي بحبيبتيه فصبر عوضته منهما الجنة ) 7 .
الصبر حين الغضب :
ومن المواقف التي يلزم فيها الصبر موقف الغضب ، فحين تستبد بالنفس سورة الغضب الشيطاني الجامح ؛ تفلت من عقال الضبط ، وتستجيب لدواعي الهوى والعناد والتعصب ونزغات الشيطان ، فتخرج عن حد الالتزام بالشرع ، وفي هذه المواقف تمتحن رجولة الرجال وكفاءة الأبطال ؛ فأما من وفق للسيطرة على نزعات النفس ودفع نزغات الشيطان ؛ فهو الرجل القوي الشديد الأمكن ، ولو ظهر أنه من أوساط الناس جسديا وعضليا . وأما من فقد السيطرة على نفسه فهو الأضعف ولو بدا قوي الجسم شديد البنية ، وفي هذا المعنى يقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( ليس الشديد بالصرعة ، وإنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب ) 8 .
ومن أنصع الأمثلة العملية على الصبر الذي تتجلى فيه القــدرة على ضبـط الانفعال ، وحسن قيادة النفس ، وتعزيتها بعبر السابقين ؛ قصـة قسمـة الغنائـم عقـب انتصار المسلمين في غزوة حنين ؛ إذ تألف النبــي صلـى الله عليه وسلـم قلـوب بعض النـاس ، طمعا في إسلامهم ، فأعطاهم عطاء أكثر من غيـرهم ، فقـال أحد المسلمين : ( والله إن هذه قسمـة ما عدل فيها وما أريد فيها وجه الله ) ، فوصل ذلك القول إلى النبــي صلـى الله عليه وسلم ، فظهر عليـه الغضــب واعتصره الحزن والألم ، ولكنه صبّـر نفسه ، وهـو الرؤوف بالمؤمنيـن الرحيم بهم ، وكظم غيظه وقال : ( ومن يعدل إذا لم يعدل الله ورسوله ) !! ثم قال متأسيا بأخيه موسى عليه السلام : ( رحم الله موسى أوذي بأكثر من هذا فصبر ) 9 .
الصبر على مشاق الدعوة والجهاد :
ومن أعظم المواقف التي تتطلب صبرا عاليا ، ومقاومة شديدة ، وضبطا للنفس لا يقدر عليه إلا أهل اليقين الصامدون في خندق العقيدة ، والثابتون على طريق المبدأ ، مواقف الدعوة إلى الله تعالى والجهاد في سبيله . ذلك أن إقامة الخلْـق على العبودية لله عز وجل تكلفهم أن يخرجوا على هوى أنفسهم، وينعتقوا من أسر عاداتهم ، وما ورثوه عن آبائهم ، وما ألفوه في حياتهم من الطقوس والتقاليد الجاهلية ، وهذا ما يشق على النفوس ويستحيل على كثير من الناس أن يستجيبوا له ، فتراهم يغلقون على أنفسهم أبواب الاستجابة للدعوة ، ويتخذون من الدعاة موقف الضدية والمعاداة ، ويقطعون عليهم طريق التبليغ ، ويجتهدون في إيذائهم ومقاومة دعوتهم بما استطاعوا من وسائل الضغط والعنف والحرب الهوجاء .
ومن أمثلة ذلك ما صورته لنا عبارات هذا الحديث الشريف الذي يقـول فيه الصحابي الجليل خباب رضي الله عنه : شكونا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو متـوسد بردة له في ظل الكعبة فقلنا : ألا تستنصر لنا ؟ ألا تدعو لنا ؟ فقال صلى الله عليه وسلـم : ( قد كان من قبلكم يؤخذ بالرجل فيحفر له في الأرض فيجعل فيها ، ثم يؤتى بالمنشــار فيوضع على رأسه فيجعل نصفين ، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه ما يصده ذلك عن دينه . والله ليتمن الله هذا الأمر ، حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه ، ولكنكم تستعجلون ) 10 .
الهوامش :
1. رواه مسلم عن صهيب بن سنان في كتاب الزهد ، باب المؤمن أمره كله خير،( 2999 ).
2. صحيح سنن الترمذي ( 2/285 ) .
3. رواه البخاري في المرضى ، باب ما جاء في كفارة المرض (10/91 ). ومسلم في البر ، باب ثواب المؤمن فيما يصيبه من مرض ( 2573 ) .
4. رواه البخاري في الزكاة ، باب الاستعفاف عن المسألة ( 3/265 ) ، ومسلم في الزكاة ، باب فضل التعفف والصبر ( 1053 ).
5. رواه مسلم وسبق توثيقه .
6. رواه البخاري في كتاب الرقاق ، باب العمل الذي يبتغى به وجه الله تعالى ( 11/207 ) .
7. رواه البخاري في كتاب المرضى ، باب فضل من ذهب بصره ( 10/100 ).
8. رواه البخاري في الأدب ، باب الحذر من الغضب (10/431 ) .ومسلم في البر ، باب فضل من يملك نفسه عند الغضب ( 2609 ) .
9. رواه البخاري في أبواب الخمس وفي الأنبياء وفي الدعوات وفي الأدب ، باب من أخبـر صاحبه بما يقال فيه ( 8/ 44 ، 45 ) ، ورواه مسلم في الزكاة ، باب إعطاء المؤلفة قلوبهم (1062) .
10. رواه البخاري في كتاب علامات النبوة ( 7/126 ) .