ذكرى المعراج.. وعصر الفضاء

د. منير محمد الغضبان
ذكرى المعراج.. وعصر الفضاء

د. منير محمد الغضبان *

هذا القرن، قرن الفضاء، ابتدأ عام 1903 من الأخوين رايت حيث كانت أولى رحلاتهما في الطائرة في 17/12/1903، ومضت في النصف الثاني من هذا القرن حيث تم الدوران حول الأرض، وإنزال أول إنسان على القمر، وأشرفت على الذروة في إرسال سفينة الفضاء غاليليو في مدارها حول المشتري بعد رحلة استمرت ست سنوات قطعت خلالها 3.7 بليون كم، وهلل العاملون في معمل الدفع النفاث لدى دخولها الغلاف الجوي للمشتري عام 1996، ووصف لورانس جونس – وهو عالم يعمل في المشروع منذ وافق عليه الكونغرس عام 1977- ما تحقق بأنه خطوة كبيرة تقربنا من نهاية الزمن، ومن ثم فإن البيانات التي سيرسلها المعمل إلى السفينة الأم، ومن ثم إلى الأرض ستساعد في معرفة كيف تكونت المجموعة الشمسية، وكيف تطورت، وقال بأن رحلة غاليليو مهمة للغاية للجنس البشري من أجل فهم كيف تطور كوكبنا نفسه، وما ندري ماذا يحمل قرننا الجديد في طياته.

هذا ما عرفته البشرية حسّاً في هذا المجال أما ما رآه علماء الفلك في هذا الكون، وحدثونا عنه فهو أن المشتري جزء من المجموعة الشمسية، والمجموعة الشمسية جزء من ملايين المجموعات الأخرى المتناثرة في هذه المجرة، بعدما بيّن هذه المجموعة، وأقرب نجم إلينا أربع سنين ضوئية، وملايين المجموعات هذه تسبح في مجرة قطرها 100.000 سنة ضوئية يمكن أن يرى من نجومها 6000 – 9000 نجم، وقد تبلغ نجومها نحو مائة مليون نجم، وأما المجرة الثانية التي هي أقرب المجرات إلينا فتبعد 750.000 سنة ضوئية، والسنة الضوئية 6.5 مليارات ميل، ويبلغ عدد المجرات هذه مائة مليون مجرة، وهذا كله في السماء الدنيا التي قال الله تعالى عنها:

)ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح، وجعلناها رجوماً للشياطين، وأعتدنا لهم عذاب السعير(.

فأين البشرية حتى اليوم من هذه الكواكب والمجرات التي تملأ الأفق، وإنها لا تزال مثل الطفل الذي بدأ يحبو خارج غرفته، وكان يتصور العالم هذه الغرفة التي يحيا بها.

لكن هذه البشرية تتناسى خالق هذه المجرات، وتتناسى أو تجحد وهي تؤرخ بمرور عشرين قرناً على ميلاد المسيح، تتناسى أن هذا المسيح عليه السلام الذي تؤرخ به بصفته أعظم أحداثها أنه قد مضى بروحه وجسده متجاوزاً هذه العوالم:

)وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبّه لهم، وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه، مالهم به من علمٍ إلا اتباع الظنّ، وما قتلوه يقيناً بل رفعه الله إليه وكان الله عزيزاً حكيماً(.

توفاه الله تعالى إليه ولم يعد، وبعد قرون جاءنا الصادق المصدوق محمد صلى الله عليه وسلم ليحدثنا عنه، وكان الحادث الأكبر في تاريخ البشرية أن رجلاً منها هو سيد خلائقها على الإطلاق، اختاره الله تعالى ليلتقي به فوق السماوات العلا، وفوق مجرات السماء الدنيا، في ليلة من أسعد ليالي البشرية، ثم يعود إلينا ليحدثنا عما رآه في رحلته الخالدة، وكان هذا قبل نحو خمسة عشر قرناً من تاريخ هذه البشرية، وهذا الاصطفاء لم يحصل لأحد قبله، ولن يحصل لأحد بعده.

إن كل صور غاليلو تحدثنا عن جمادات وتربة مثل أرضنا، ولم تلق بشراً، ولا كائناً ولا مخلوقاً إلا هذه الجمادات، أما المعجزة الخالدة في تلك الليلة الخالدة التي أراد الله تعالى بها أن يكرم البشرية فيصطفي واحداً منها إليه، يرفعه بجسده وروحه، وينقله عبر سماواته، ويجمعه مع إخوانه من الأنبياء والمرسلين، وتحتفل الملائكة في السماوات بمقدمه، ثم يقف جميع الخلق بمن فيهم النبيون والملائكة عند حدٍ لو تجاوزوه لاحترقوا، ليصل المصطفى صلى الله عليه وسلم إلى سدرة المنتهى ويتجاوزها بينما يقف جبريل رفيقه في الرحلة عندها، ويلتقي مع ربه عياناً، وحده من دون الخلائق، ويُسمح له بالعودة إلى الأرض ليحدثهم عن الكون أرضه وسماواته وجنته وناره وملائكته وقد رآها بعينه، وقد هُيئ لهذه المقابلة بشق صدره قبل تحركه، حتى يحدثهم عن هذه الأمور لا بما أوحي إليه فقط علماً من علم الغيب، بل يحدثه علماً من عالم الشهادة الذي رآه، ويقطع مقولات الملحدين والكافرين المجرمين، حول وحدانية الله تعالى، وإنه هو الوحيد الذي أُهّل ليكون دليل البشرية كلها في رؤية عالم الغيب، سماواته وملائكته، ورسله وجنته وناره، ويعود ليخبر أمته بما رأى، ولنسمع إليه صلى الله عليه وسلم وهو أصدق البشر يروي لنا أحداث رحلته هذه، وهي التي تجحدها البشرية ولا تلقي لها بالاً:

التهيؤ للرحلة:

بينما أنا في الحطيم وربما قال في الحِجْر (حول الكعبة) مضطجعاً إذ أتاني آتٍ قال سمعته يقول: فشق ما بين هذه وهذه، فقلت للجارود وهو جنبي: ما يعني؟ قال: من ثغرة نحره إلى شعرته –فاستخرج قلبي، ثم أُتيتُ بطست من ذهب مملوءة إيماناً فغسل قلبي، ثم حُشي، ثم أعيد.

ابتداء الرحلة:

ثم أُتيت بداية دون البغل وفوق الحمار أبيض، يضع خطوه عند أقصى طرفه، فحُملت عليه.

إلى بيت المقدس:

(ثم دخلت أنا وجبريل بيت المقدس، فربطته بالحلقة التي يربط بها الأنبياء، ثم دخلت المسجد، فصليت فيه ركعتين، فعرفت النبيين من بين قائم راكع وساجد ثم أقمت الصلاة، فقمنا صفوفاً ننتظر من يؤمنا، فأخذ بيدي جبريل فقربني، فصليت بهم.

إلى السماء الدنيا:

ثم أُتيتُ بالمعراج \"فلم أر شيئاً قطُّ كان أحسن منه، فأصعدني صاحبي فيه، فانطلق بي جبريل حتى السماء الدنيا، فاستفتح، فقيل: من هذا؟ قال: جبريل، قيل: ومن معه؟ قال: محمد. قيل: وقد أُرسل إليه، قال: نعم. قيل: فمرحباً به، فنعم المجيء جاء) فالملائكة في السماوات العلا يعرفون منذ بدء الخليقة النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم، لكنهم لا يعرفون متى يبعث. وجبريل وهو سيد الملائكة لا يحق له أن يدخل السماء الدنيا بدون إذن، ومحمد صلى الله عليه وسلم فقد فتحت له السماء واستبشر أهل السماء بقدومه، فرحين به وبدخوله، وأنه قد بُعث.

لقاؤه مع أبيه آدم:

(فلما خلصت فإذا أنا بآدم فقال: هذا أبوك فسلّم عليه) وهذا هو أدب الابن مع الأب، أن يلتقي مع أبيه في أول خطوة من خطوات رحلة في السماوات (.. فسلمت عليه، فقال: مرحباً بالابن الصالح، فإذا أنا بآدم تعرض عليه أرواح ذريته المؤمنين فيقول: روح طيبة، نفس طيبة، اجعلوها في عليين، ثم تعرض عليه أرواح ذريته الفجار فيقول: روح خبيثة ونفس خبيثة اجعلوها في سجين).

لقاؤه مع عيسى عليه الصلاة والسلام:

وهو الوافد الأول، كما سبق وذكرنا أن الله تعالى توفاه إليه، وحق للبشرية أن تعرف هذه الحقيقة من أصدق رجل فيها، وأعظم رجل فيها، وتنتهي أسطورة الصلب والتأليه له (ثم صعد بي حتى أتى السماء الثانية، فاستفتح، فقيل: من هذا؟ قال: جبريل. قيل ومن معه؟ قال: محمد. قيل: وقد أُرسل إليه؟ قال: نعم. قيل: مرحباً به فنعم المجيء جاء، فلما خلصت إذا بيحيى وعيسى أبناء الخالة، قال: هذا يحيى وعيسى فسلم عليهما، فسلمت فردا ثم قالا: مرحباً بالأخ الصالح والنبي والصالح) وليؤكد لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم اللقاء، وصف لنا عيسى روح الله وكلمته بقوله: (فإذا بعيسى جعد، مربوع الخلق إلى الحمرة والبياض، سبط الشعر، كأنما أُخرج من ديماس(1)).

 لقاؤه مع يوسف عليه الصلاة والسلام:

(.. ثم صعد بي إلى السماء الثالثة، فاستفتح، قيل: من هذا؟ قال: جبريل، قيل ومن معه؟ قيل: محمد. قيل: وقد أُرسل إليه؟ قال نعم. قيل: مرحباً به فنعم المجيء جاء، ففتح فلما خلصت فإذا يوسف، قال: هذا يوسف فسلّم عليه، فسلمت عليه، فردّ ثم قال: مرحباً بالأخ الصالح والنبي والصالح) ولم ينسّ عليه الصلاة والسلام أن يصف لنا يوسف بقوله: (وقد أُعطي شطر الحسن) وفي رواية (أحسن ما خَلَقَ الله قد فَضَلَ الناس بالحسن كالقمر ليلة البدر على سائر الكواكب).

لقاؤه مع إدريس عليه الصلاة والسلام:

(ثم صعد بي إلى السماء الرابعة، فاستفتح جبريل، فقيل: من هذا؟ قال: جبريل. قيل: من معه؟ قال محمد. قيل: وقد أُرسل إليه؟ قال: نعم، قيل: مرحباً به فنعم المجيء جاء) فهو صلى الله عليه وسلم ليس نكرة على أحد من الملائكة حراس السماوات، وكل ما يجهلوه عنه هو زمان بعثته (.. ففُتح فلما خلصت إلى إدريس، قال: هذا إدريس فسلّم عليه، فسلمت عليه فردّ عليه الصلاة والسلام ثم قال: مرحباً بالأخ الصالح والنبي الصالح.)

لقاؤه مع موسى وهارون عليهما الصلاة والسلام:

(.. ثم صعد بي حتى أتى السماء الخامسة، فاستفتح قيل: من هذا؟ قال: جبريل، قيل: ومن معه؟ قال: محمد، قيل: وقد أرسل إليه؟ قال نعم. قيل: مرحباً به فنعم المجيء جاء، فلما خلصت فإذا هارون، قال هذا هارون فسلّم عليه، قال: فسلمت عليه، فردّ ثم قال: مرحباً بالأخ الصالح والنبي والصالح) ويصف لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أخاه هارون بقوله: (نصف لحية بيضاء، ونصف لحية سوداء تكاد تقترب إلى سُرّته من طولها) وإن استشكلت رؤية الأنبياء في السماوات مع أن أجسادهم مستقرة في قبورهم بالأرض أجيب بأن أرواحهم تشكلت بصور أجسادهم أو حضرت لملاقاة النبي صلى الله عليه وسلم تلك الليلة تشريفاً وتكريماً، ويؤيده حديث عبد الرحمن بن هاشم عن أنس ففيه: (وبُعثَ آدم فمن دونه من الأنبياء..).

 لقاؤه مع موسى عليه الصلاة والسلام:

(.. ثم صعد بي حتى السماء السادسة، فاستفتح قيل: من هذا؟ قال: جبريل، قيل: ومن معه؟ قال: محمد، قيل وقد أُرسل إليه. قال: نعم، قال: مرحباً به، فنعم المجيء جاء فلما خلصت فإذا موسى، قال: هذا موسى فسلّم عليه، فسلمت عليه، فردّ ثم قال: مرحباً بالأخ الصالح والنبي الصالح) وفي رواية: (فجعل يمر بالنبي والنبيين معهم الرهط، والنبي والنبيين معهم القوم، والنبي والنبيين ليس معهم أحد، ثم مرّ بسواد عظيم قد سد الأفق من ذا الجانب ومن ذا الجانب، فقيل له: هؤلاء أمتك، ومن هؤلاء سبعون ألفاً يدخلون الجنة بغير حساب، فخلصت فإذا موسى رجل آدم طوال كأنه من أزد شنوءة، كثير الشعر لو كان عليه قميصان نفذ شعره دونهما) وعودة إلى رواية البخاري (فلما تجاوزت بكى، قيل: ما يبكيك؟ قال: أبكي لأن غلاماً بُعث بعدي يدخل الجنة من أمته أكثر ممن يدخلها من أمتي).

لقاؤه مع إبراهيم عليه الصلاة والسلام:

(ثم صعد بي إلى السماء السابعة فاستفتح جبريل، قيل: من هذا؟ قال: جبريل، قيل: ومن معه؟ قال: محمد، قيل: وقد بعث إليه؟ قال: نعم، قيل: مرحباً به فنعم المجيء جاء فلما خلصت، فإذا إبراهيم، قال: هذا أبوك فسلّم عليه، قال: فسلمت عليه، فردّ السلام قال: مرحباً بالابن الصالح والنبي والصالح) وفي رواية (فإذا إبراهيم رجل أشمط جالس على كرسي إلى باب البيت المعمور مع نفر من قومه فقال: مرحباً بالنبي الصالح والابن الصالح وقال: مر أمتك فليكثروا من غراس الجنة، فإن تربتها طيبة وأرضها واسعة، قال: وما غراس الجنة؟ قال: لا حول ولا قوة إلا بالله) أما وصفه (لم أر رجلاً أشبه بصاحبكم ولا صاحبكم أشبه به منه).

عند سدرة المنتهى:

(ثم رفعت إلى سدرة المنتهى، فإذا نبقها مثل قلال هجر، وإذا ورقها مثل آذان الفيلة قال: هذه سدرة المنتهى وإذا أربعة أنهار نهران باطنان ونهران ظاهران، فقلت: ما هذا يا جبريل قال: أما الباطنان فنهران في الجنة، وأما الظاهران فالنيل والفرات، ثم رفع لي البيت المعمور (يدخله كل يوم سبعون ألف ملك لا يرجعون فيه إلى يوم القيامة) ثم أتيت بإناء من خمر وإناء مـن لبن وإناء من عسل فأخذت اللبن فقال هي الفطرة أنت عليها وأمتك) وفي رواية مسلم (.. انتهى بي إلى سدرة المنتهى إليها ينتهي ما يُعرج به من الأرض فيقبض منها، وإليها ما يهبط به من فوقها فيقضي منها، قال: إذ يغشى السدرة ما يغشى، قال: فَرَاش من ذَهب، فأعطي رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثاً، أعطي الصلوات الخمس، وأعطي خواتيم سورة البقرة، وغفر لمن لم يشرك من أمته شيئاً من المقحمات(2).

بين يدي رب العزة جل جلاله:

(ثم عرج بي حتى ظهرت لمستوى أسمع فيه صرير الأقلام ففرض الله على أمتي خمسين صلاة، قال: قلت فرجعت حتى أمرَّ بموسى، فقال موسى عليه الصلاة والسلام: ماذا فرض ربك على أمتك؟ قال: قلت: فرض عليهم خمسين صلاة، قال لي موسى عليه الصلاة والسلام فراجع ربك فإن أمتك لا تطيق ذلك قال: فراجعت ربي فوضع شطرها، قال: فرجعت إلى موسى فأخبرته، قال: راجع ربك فإن أمتك لا تطيق ذلك، قال: فراجعت ربي، فقال: هي خمس وهي خمسون لا يبدّل القول لدي، قال: فرجعت إلى موسى فقال: راجع ربك، فقلت: قد استحييت من ربي، ثم انطلق بي جبريل حتى نأتي سدرة المنتهى).

رؤية الجنة:

(ثم أدخلت الجنة فإذا فيها جنابذ(3) اللؤلؤ، وإذا ترابها المسك) وفي رواية عند مسلم: (بينا أنا أسير في الجنة إذا أنا بنهر حافتاه قباب الدر المجوف، وإذا طينه مسك أذفر فقال جبريل: هذا الكوثر) وعند ابن أبي حاتم: (ثم انطلق بي حتى أتى إلى الشجرة، فغشيني من كل سحابة فيها من كل لون، فتأخر جبريل وخررت ساجداً.)

رؤية النار:

عند ابن إسحاق (تلقتني الملائكة حين دخلت السماء الدنيا فلم يلقني ملك إلا ضاحكاً مستبشراً، يقول خيراً ويدعو به، حتى لقيني ملك من الملائكة فقال: (مثل ما قالوا، ودعا مثل ما دعوا به إلا أنه لم يضحك، ولم أرَ منه البشر مثل ما رأيت من غيره، فقلت لجبريل: يا جبريل من هذا الملك الذي قال لي مثل ما قالت الملائكة ولم يضحك إلي؟ قال: أما إنه لو ضحك إلى أحد كان قبلك أو كان ضاحكاً إلى أحد بعدك لضحك إليك، هذا مالك خازن النار. فقلت لجبريل: ألا تأمره أن يريني النار؟ فقال: بلى.. يا مالك أرِ محمداً النار، قال: فكشف عنها غطاءها ففارت وارتفعت حتى ظننت لتأخذن ما أرى، فقلت: يا جبريل: مُرْه فليردَّها إلى مكانها فأمرها فقال: اخبي، فرجعت إلى مكانها الذي خرجت منه، فما شبهت رجوعها إلا وقوع الظل حتى إذا دخلت من حيث خرجت ردَّ عليها غطاءها.

ثم رأيت رجالاً لهم مشافر كمشافر الإبل، في أيديهم قطع من نار كالأفهار(4) يقذفونها في أفواههم فتخرج من أدبارهم فقلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء أكلة أموال اليتامى ظلماً. ثم رأيت رجالاً لهم بطون لم أر مثلها قط بسبيل آل فرعون يمرون عليهم كالإبل المهيومة يطؤونهم لا يقدرون أن يتحولوا من مكانهم ذلك، قلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء أكلة الربا، ثم رأيت رجالاً بين أيديهم لحم سمين طيب إلى جنبه لحم غث منتن، يأكلون من الغث المنتن، ويتركون السمين الطيب قلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء الذين يتركون ما أحلّ الله لهم من النساء ويذهبون إلى ما حرّم الله، ثم رأيت نساء معلقات بثديهنّ، فقلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء الذين أدخلن على الرجال من ليس من أولادهم.

رحلة العودة:

وقال له موسى: اهبط باسم الله، ولم يمر على ملأ من الملائكة إلا رحبوا به وضحكوا إليه، فلما نزل إلى السماء الدنيا نظر أسفل منه فإذا هو بوهج دخان فقال: ما هذا يا جبريل؟ قال: هذه الشياطين يحومون على أعين بني آدم لا يتفكرون في ملكوت السماوات والأرض، ولولا ذلك لرأوا العجائب، ثم ركب منصرفاً فمر بعير لقريش بمكان كذا وكذا فيها جمل عليه غرارتان فلما حاذى العير نفرت واستدارت، ومرّ بنفر قد ضلوا بعيراً لهم، ثم أتى صلى الله عليه وسلم قبل الصبح بمكة.

الرحلة الخالدة:

هذا الاصطفاء الرباني الذي أراه الله تعالى لعبده محمد صلى الله عليه وسلم حيث كانت محطته الأولى مكة المكرمة، ومحطته الثانية القدس، وانتقل بعدها فجال في ملكوت السماوات والأرض هي في أصدق كتاب في هذا الوجود:

)علَّمَهُ شديدُ القُوى، ذو مرّة فاستوى، وهو بالأفق الأعلى، ثم دنا فتدلى، فكان قابَ قوسين أو أدنى، فأوحى إلى عبده ما أوحى، ما كذب الفؤادُ ما رأى، أفتمارونه على ما يَرَى، ولقد رآه نزلةً أخرى، عند سدرة المنتهى، عندها جنة المأوى، إذ يغشى السدرة ما يغشى، ما زاغ البصر وما طغى، لقد رأى من آيات ربّه الكبرى((5)

وهي مفصلة في أصدق كتاب في الوجود بعد القرآن الكريم عند الإمام البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه، وهي عن أصدق إنسان في هذا الوجود، لقي سادة البشرية وأنبياءها العظام وتحاور معهم، ومثل بين يدي ربه، تلقى منه فريضة الصلاة، ورأى الجنة والنار، ومع ذلك تمر هذه الذكرى، وكأن المسلمين ليس عندهم شيء يذكر؟ فكيف بغير المسلمين؟ بينما البشرية لا تزال تحبو سجينة ضمن المجموعة الشمسية في طاقتها البشرية ولا تلقي بالاً، وتطوي كشحاً لسيدها الذي نال هذا التكريم، ودخل ملكوت السماوات بحفاوة ربانية لم يلقها نبي قبله، ولن يبلغها أحد بعده، ثم أعاده ليتابع مسيرة الجهاد في الأرض، ليقود الناس إلى الجنة التي رآها رأي عين، وينقذهم من النار التي رآها رأي عين، ويدلهم على الله الواحد الأحد، الفرد الصمد، الذي مثل بين يديه، ورآه عيناً دون واسطة(6) وعاد يحدث بذلك.

وتمر الذكرى والمسلمون مهزمون نفسياً لا يجرؤون على الحديث عنها، ولا إبرازها في محافلهم وإذاعاتهم، وتلفازاتهم وكتبهم ومجلاتهم، وكأن الحدث لم يقع، ويركزون على الإسراء فقط من أجل الأرض المغتصبة، والقدس هي محطة انطلاق المعراج النبوي إلى السماوات العلا، والقدس حين تكون موطن الإسراء ومنطلق المعراج إنما يعني هذا وراثة هذه الأمة للرسالات السماوية السابقة منذ أن قلد بطريرك القدس مفاتيحها لعمر أمير المؤمنين رضي الله عنه تنفيذاً لما أوردته الكتب المقدسة، وفي هذا القرن تغتصب القدس بالمستوطنات، تحت راية السلام وحوله.

لو كانت البشرية مهتدية راشدة لكان يوم المعراج هو أعظم أيامها ولدخلت في دين الله أفواجاً، وهي هي على كفرها تشهد أن محمداً أعظم عظماء البشرية كما قال ذلك مؤلف كتاب: \"المئة الأوائل\" – غير المسلم.

أما أن للبشرية أن ترعوي وتستسلم لله عز وجل، وتذعن لخالقها وبارئها، موقنة في تلك الكرامة الربانية العليا معراج محمد صلى الله عليه وسلم، والتي ذكرها في كتابه عز وجل:

)والنجم إذا هوى، ما ضلّ صاحبُكم وما غوى، وما ينطقُ عن الهوى، إن هو إلا وحيٌ يوحى، علّمه شديدُ القُوى، ذو مِرّة فاستوى، وهو بالأفق الأعلى، ثم دنا فتدلى، فكان قاب قوسين أو أدنى، فأوحى إلى عبده ما أوحى، ما كذب الفؤاد ما رأى، أفتمارونه على ما يرى، ولقد رآه نزلة أخرى، عند سدرة المنتهى، عندها جنّة المأوى، إذ يغشى السدرة ما يغشى، ما زاغ البصرُ وما طغى، لقد رأى من آيات ربه الكبرى((7).

تُرى متى تهتدي البشرية بهذا المنار إلى هذا المسار؟؟؟ أم تكون من الذين لا يهتدون؟؟؟

              

الهوامش:

* باحث إسلامي سوري

(1) الديماس: الحمّام التي يستحم بها.

(2) المقحمات: قال في المعجم الوسيط 2/716: القحمة ركوب الإثم، ولعلها هنا: الكبائر.

(3) جنابذ: قال ابن منظور في لسان العرب 3/482: الجنبذة: القبة، والمرتفع من كل شيء، وما علا من الأرض واستدار.

(4) قال في القاموس المحيط: الفِهر الحجر والجمع: أفهار، وحجر ناعم صلب يسحق به الصيدلي الأدوية.

(5) سورة النجم، من الآية: 5 – 18.

(6) وإلى هذا ذهب جمهور الصحابة رضي الله عنهم.

(7) سورة النجم، من الآية: 5 – 18.