ظاهرة عدم التثبت

سلسة أمراض وعلل

- 4 -

طريف السيد عيسى

السويد – أوربرو

[email protected]

( روى الترمذي . عن معاذ رضي الله عنه قال : قلت يارسول الله أخبرني بعمل يدخلني الجنة ويباعدني من النار . قال سألت عن عظيم , وإنه ليسير على من يسره الله تعالى عليه : تعبد الله لاتشرك به شيئا , وتقيم الصلاة , وتؤتي الزكاة , وتصوم رمضان , وتحج البيت , ثم قال : ألا أدلك على أبواب الخير : الصوم جنة ,والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار , وصلاة الرجل من جوف الليل – ثم تلا : تتجافى جنوبهم عن المضاجع – حتى بلغ : يعملون . ثم قال : ألا أخبرك برأس الأمر وعموده وذرو سنامه . قلت : بلى يارسول الله قال : رأس الأمر الإسلام وعموده الصلاة وذروة سنامه الجهاد , ثم قال : ألا أخبرك بملاك ذلك كله . قلت بلى يارسول الله , فأخذ بلسانه قال : كف عليك هذا , قلت يارسول الله وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به , فقال ثكلتك أمك ! وهل يكب الناس في النار على وجوههم إلا حصائد ألسنتهم )

الشاهد من الحديث : ضبط اللسان والتثبت واليقين عند النقل , فالكلام إما لك أو عليك , فهذه الظاهرة ترتبط مباشرة باللسان , الذي إن لم يضبط فيؤدي بصاحبه للمهالك .

فالتثبت هو : تفريغ الوسع والجهد لمعرفة حقيقة الحال ليعرف أيثبت هذا الأمر أم لا .

والتبين : التأكد من حقيقة الخبر وظروفه وملاباساته .

يقول الحسن البصري : المؤمن وقاف حتى يتبين .

يقول الله تعالى ( يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على مافعلتم نادمين ) سورة الحجرات – آية – 6.

الأصل بالمسلم حسن الظن , فلا يجوز الطعن أو النيل من مسلم دون تثبت , فكم نشبت فتن بسبب عدم التثبت والاسترسال وراء الشائعات والظنون والأوهام .

وكثيرا مايقع البعض في عدم التثبت بسبب التسرع .

( وفي الأثر عند الترمذي : الأناة من الله , والعجلة من الشيطان ) .

(فعن حفص بن عاصم قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : كفى بالمرء كذبا أن يحدث بكل ما سمع ) رواه مسلم .

(وعن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : كفى بالمرء إثما أن يحدث بكل ما سمع) السلسلة الصحيحة

إن تطهير اللسان من الآفات والتثبت قبل القول، ووزن الكلام قبل التكلم به أمر ذو شأن، إذ به تضمن الجنة (كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:  من يضمن لي ما بين لحييه وما بين رجليه أضمن له الجنة)رواه البخاري

فمطلوب من المسلم التثبت في كل مايقول وينقل وخاصة في :

- 1 -

1- القول على الله عزوجل :

فالقول على الله من دون علم ولا تثبت شرك , يقول الله تعالى :

( قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لاتعلمون ) الأعراف – 33 .

2- القول على رسول الله :

لقد سطر علماء الحديث سنة الرسول صلى الله عليه وسلم ونقحوها لينقلوها لنا ثابتة لاخلل فيها , ورغم ذلك نجد البعض ينقل دون تثبت ولا تأكد .

( جاء في مقدمة صحيح مسلم عن محمد بن سيرين قال : إن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم ) .

فنشأ علم الجرح والتعديل الذي صفى لنا عملية النقل ووضع لها قواعد صارمة .

( روي في الصحيحين . عن المغيرة رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : إن كذبا علي ليس ككذب على أحد . من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار ) .

3- التثبت في نقل أقوال أهل العلم :

نقل العلم أمانة , فكل من أراد النقل فليكن أمينا ويتثبت فيما ينقل وينسب القول لقائله دون تحريف لمضمونه

4- التثبت في نقل كلام الناس :

البعض يعيش حياته ناقلا للكلام بين الناس سواء كان ماينقله صحيحا أو غير صحيح المهم عنده إشعال الفتن وتوسيع دائرة الشقاق بين المسلمين .

( ففي صحيح مسلم . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : كفى بالمرء كذبا أن يحدث بكل ماسمع ).

5- التسرع في الإتهام دون دليل :

إذا كان الوحي قد كشف المنافقين والكاذبين , فالوحي قد انقطع , لكن شرعنا الحنيف وضع لنا  ضوابط شرعية للتثبت والتبين وهي باقية ليوم الدين. 

( يقول الإمام الغزالي رحمه الله : ليس لك أن تعتقد في غيرك سوءا إلا إذا انكشف لك بعيان لايقبل التأويل ) .

إن من أهم الآداب الاجتماعية التي بينها الإسلام وجوب التبين والتثبت مما يبلغ الإنسان من الأخبار والأقوال؛ فقد جرى كثير من الناس على المبادرة إلى تصديق كل خبر والتسرع في التصرف وفقاً لكل نبأ، دون البحث في مصدره، أو التحقق من ثبوته، أو التفكير في مضمونه ، وخاصة إذا كان المنقول عنه الخبر خصماً أو منافساً.

وبسبب ذلك يقعون في كثير من الظلم والجور مما يسبب لهم كثيراً من الحرج والندم ، حين يطلعون على أن الخبر مزيد فيه ومبالغ، أو ملفق ومزوَّر، أو مغيَّر ومبدَّل، فيندمون حيث لا ينفع الندم، ويعتذرون حين لا يجدي الاعتذار، إذ يكونوا قد وقعوا وأوقعوا الآخرين في أضرار وأزمات، وربما سببوا لهم مآسي وكوارث يبقى أثرها زمناً طويلاً ، وخاصة إذا كان هؤلاء من الأشخاص المعروفين .

- 2 -

 إن عدم التثبت يجعل الإنسان يقع في سوء الظن والإتهام دون دليل ولا تبين , وهذا منزلق خطير ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم .                       

( نقل الإمام الشوكاني عن مقاتل بن حيان قوله :فإن تكلم بذلك الظن وابداه أثم ) .

  ( وقال الإمام الغزالي رحمه الله تعالى : اعلم أن سوء الظن حرام , مثل سوء القول ... فلا يستباح ظن السوء إلا بما يستباح به المال , وهو بعين مشاهدة أو بينة عادلة ) .

ثم ينحدر الظان إلى مزلق آخر، وهو إشاعة ظنه ذاك.

(حكى القرطبي عن أكثر العلماء: أن الظن القبيح بمن ظاهره الخير لا يجوز).

(ويقول ابن قدامة رحمه الله: فليس لك أن تظن بالمسلم شرًا إلا إذا انكشف أمر لا يحتمل التأويل، فإن أخبرك بذلك عدل، فمال قلبك إلى تصديقه، كنت معذورًا... ولكن أشار إلى قيد مهم فقال: بل ينبغي أن تبحث هل بينهما عداوة وحسد؟.).

فلا يجوز لمسلم أن يتهم النيات، ويحكم على السرائر، فهذه  علمها عند الله، الذي لا تخفى عليه خافية، ولا يغيب عنه سر ولا علانية. وهذا مطلوب للمسلم أي مسلم، من عامة الناس، فكيف بالمسلم الذي يحفظ كتاب الله ويعلم الأطفال كتاب الله ويدعي أنه يعمل للإسلام, ومن أجل هذا يعجب المرء غاية العجب، ويتألم كل الألم، إذا وجد بعض العاملين للإسلام يتهم بعضهم بالعمالة أو الخيانة، جرياً وراء أعداء الإسلام فيقول أحدهم عن الآخر: هذا عميل للغرب أو الشرق أو للنظام الفلاني، أو أنه ضابط مخابرات زرع خصيصا لضرب العمل الإسلامي , وكل هذه التهم تصدر عن أشخاص يتصدرون للعمل الإسلامي , والسبب  لمجرد أنه خالفه في رأي أو موقف، أو في اتخاذ وسيلة للعمل مخالفة له، ومثل هذا لا يجوز بحال لمن فقه عن الله ورسوله صلى الله عليه وسلم. وينبغي أن نقدم دائماً حسن الظن ولا نتبع ظنون السوء فإنها لا تغني من الحق شيئاً., كالذي ذم الله به المشركين في قوله: ( إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى ) النجم -   28.

 وقوله تعالى( وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) القصص-  50.

والفطن من يميز بين خبر الفاسق وخبر العدل، ومن يفرق بين خبر عدل عن ندٍ له، أو عمن يحمل له حقدًا، وبين شهادة العدل المبرأة من حظ النفس، والظن لا يغني شيئًا، ومن يفرق بين خبرٍ دافعه التقوى، وخبر غرضه الفضيحة أو التشهير.

والذي لم يتخلق بخلق التثبت تجده مبتلى بالحكم على المقاصد والنوايا والقلوب، وذلك مخالف لأصول التثبت.

 (يقول الشافعي ووافقه البخاري : الحكم بين الناس يقع على ما يُسمع من الخصمين، بما لفظوا به، وإن كان يمكن أن يكون في قلوبهم غير ذلك.)

ومن أخطر المزالق أن يحسن الإنسان الظن برجل من الناس ليس أهلاً للثقة، ثم يكون أسيرًا لأخباره، أُذنًا لأقواله، يصغي إليه ويصدقه.

- 3 -

( يقول ابن حجر: المصيبة إنما تدخل على الحاكم المأمون من قبوله قول من لا يوثق به، إذا كان هو حسن الظن به، فيجب عليه أن يتثبت في مثل ذلك.)

ومن أصول التثبت ألا يؤخذ أحد بالقرائن، طالما هو ينكر ولا يقر. وشواهد ذلك في السنة كثيرة.

( ومنها ما رواه ابن ماجة بسند صحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:

لو كنت راجمًا أحدًا بغير بينة، لرجمت فلانة، فقد ظهر فيها الريبة، في منطقها وهيئتها ومن يدخل عليها).

 ومع ذلك لم يرجمها رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنها لم تقر، ولم يقذفها بلفظ الزنا.

ولا شك أن من أهم أصول التثبت فيما يُنقل من أخبار: السماع من الطرفين، فقد:

( أخرج أبو داود والنسائي أن النبي صلى الله عليه وسلم أرسل عليًّا رضي الله عنه إلى اليمن قاضيًا، فأوصاه: ...فإذا جلس بين يديك الخصمان، فلا تقضين حتى تسمع من الآخر، كما سمعت من الأول، فإنه أحرى أن يتبين لك القضاء.... يقول علي رضي الله عنه: ما شككت في قضاء بعد).

 فكم زلّت أقدام، ووقعت فتن بسبب عدم التثبت!!

( يقول الشوكاني: الخطأ ممن لم يتبين الأمر، ولم يتثبت فيه، هو الغالب، وهو جهالة.)

وكم تجد من الناس من يسارع للشهادة على أمر لم يفقهه، في حق امرئ لا يعرفه!!

(ولذلك أفتى الحسن البصري تحريًا للتثبت: لا تشهد على وصية حتى تُقرأ عليك، ولا تشهد على من لا تعرف).

فليس من خلق المتثبت التسرع والعجلة.

 ( ورسول الله صلى الله عليه وسلم حين أرسل خالدًا رضي الله عنه للتحقق من عداوة بني المصطلق أمره أن يتثبت ولا يعجل . ولما أرسله إلى بني جذيمة للتحقق من إسلامهم فتعجل في القتل. قال صلى الله عليه وسلم: "اللهم إني أبرا إليك مما صنع خالد) رواه البخاري.

(قال الشوكاني في تفسيره لقول الله تعالى: ( يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا ): ومن التثبت: الأناة وعدم العجلة، والتبصر في الأمر الواقع، والخبر الوارد، حتى يتضح ويظهر.)

كثير من الناس يتصور أن التثبت من صحة الخبر يتعلق بعدالة من رواه،طالما أن الرواية,جاءت من شخص نتفق معه , أو هو ممن يؤيدنا أو يعمل معنا .

وإذا ناقشت هؤلاء في روايتهم فيعتبرون مجرد النقاش طعنا في عدالتهم ونزاهتهم , وكأنهم معصومين , فلقد أعطوا لأنفسهم العصمة والقداسة بينما لامانع عندهم من الطعن والتشكيك والتزوير والكذب بحق من يختلفون معه.  

ومن أشد ما ابتلي ويبتلى به المسلمون عامة، وأبناء الصحوة الإسلامية بخاصة تلقفهم الأخبار من أينما جاءت, ثم تصديقها ونشرها وإشاعتها، وإطلاق أحكام التضليل والخيانة والتكفير والتفسيق , وبناء التصرفات في الموالاة والمعاداة عليها دون تثبت ولا تبين، غافلين عن هذا المبدأ الإسلامي القويم، الذي قرره القرآن.

- 4 -

 وأكده إمامنا ونبينا عليه الصلاة والسلام حيث:

( قال في الحديث الذي رواه مسلم عن أبي هريرة  :كفى بالمرء كذباً أن يحدث بكل ما سمع)

وكثيرًا ما يُتهم شخص بتهمة فينفيها، أو يبين عذره فيها، ثم يستمر الحديث عنه والتحذير منه، فهل هذا من التثبت؟! (إن حاطب بن أبي بلتعة حين صدر منه إفشاء سر النبي صلى الله عليه وسلم، طلب عمر أن تقطع عنقه، غير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استمع إليه، حتى إذا انتهى قال: صدق، لا تقولوا له إلا خيرًا. رواه البخاري.)

فكل مسلم ظاهره الصلاح والصدق  لا نقول له إلا خيرًا.. وإلا فإن الاتهام بغير تثبت سبب في كثير من المظالم، ولذلك (كتب عمر بن عبد العزيز إلى أحد أمرائه  عدي بن أرطأة أمير البصرة في قتيل وُجد عند بيت ولم يُعرف قاتله: إن وجد أصحابه بينة، وإلا فلا تظلم الناس، فإن هذا لا يقضى فيه إلى يوم القيامة - رواه البخاري.)

( بل جاء في الحديث: لو يعطى الناس بدعواهم، لادعى الناس دماء رجال وأموالهم.)

وإن من التثبت: أن ترفض الاستماع إلى النمام، (فقد جاء في مسند أحمد: لا يبلغني أحدٌ عن أحد من أصحابي شيئًا، فإني أحب أن أخرج إليكم وأنا سليم الصدر) .

فلا تجعل بطانتك من النمّامين، فإن من وشى إليك اليوم يشي بك غدًا، ومثله ليس أهلاً للثقة  لفسقه بالنميمة وفي ذلك( يقول ابن قدامة المقدسي: لا تصدّق الناقل؛ لأن النمام فاسق، والفاسق مردود الشهادة. )

فإن ركنت إلى النمامين وأصبت إخوانك بجهالة فتصبح على ما فعلت من النادمين.

يقول الله تعالى في كتابه العزيز ( وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان إلا قليلا ).

فحري بكل مسلم أن يرد الأخبار  الأمر لأهلها فإما يصححون  الخبر أو ينفونه ويبطلونه , لكن مثل هذه المعاني لايدركها إلا العاقلون .

كما أنه عندما تسمع خبرا فلا تسأل عنه شخص مثلك لايملك مايستطيع به التأكيد والنفي , لأنك بذلك تشيع الخبر

بطريقة غير مباشرة ,فإذا صدقت ذلك الخبر واعتبرته حقيقة لاتقبل النقاش فهذا كذب وافتراء وقذف .

( روى البخاري رحمه الله عن سمرة بن جندب رضي الله عنه فيما رآه النبي صلى الله عليه وسلم في قصة طويلة قال : رأيت الليلة رجلين أتياني فأخذا بيدي فأخرجاني إلى الأرض المقدسة , فإذا رجل جالس ورجل قائم بيده كلوب من حديد يدخل ذلك الكلوب في شدقه حتى يبلغ قفاه , ثم يفعل بشدقه الآخر مثل ذلك , ويلتئم شدقه هذا فيعود فيصنع مثله قلت ما هذا قالا انطلق , وفي آخره قال : فأخبراني عما رأيت قالا نعم , أما الذي رأيته يشق شدقه فكذاب يحدث

  بالكذبة فتحمل عنه حتى تبلغ الآفاق فيصنع به إلى يوم القيامة ) .

إن الكذب صفة ذميمة , وخصلة خسيسة , وإنها تسقط المروءة , وتنبئ عن الجبن ورداءة الطبع , وسوء الطوية , وتفاهة الغاية والمقصد وقلة الدين والورع وسوء التربية والمنبت .

- 5 -

كما أن الكذب والكذاب : يغير الأمور , ويقلب الحقائق , فيجعل الباطل حقا والحق باطلا , والمعروف منكرا والمنكر معروفا , وينسب للناس خلاف ماقالوا وخلاف مافعلوا .

فليتذكر أولوا الألباب , إنها ذكرى للمؤمنين وتنبيها للغافلين ليحيى من حي عن بينة , ويهلك من هلك عن بينة .

فكم من حروب قامت، وفتن وقعت، وأرحام قطعت، وأسر شردت، وقلوب تنافرت، ودماء أسيلت وأموال بالحرام أكلت، كل ذلك بسبب كذبة واحدة،أو شائعة سرت  قد تتلوها كذبات.وشائعات .

(قال شيخ الإسلام ابن تيمية  رحمه الله : الصدق أساس الحسنات وجماعها، والكذب أساس السيئات ونظامها)

إن أسوأ مافي الإنسان أن يفكر بعقل غيره , أو يصبح نسخة طبق الأصل عن غيره , فتنطبق عليه القاعدة المنحرفة : أطفا سراج عقلك واتبعني .

وعندما تضطرب القيم والمفاهيم لدى أي شخص , فتبدأ الفوضى والعبثية تظهر على سلوكه وتصرفاته , مما ينتج عنه فساد في الخلق والضمير , ويبدأ باستخدام الأساليب السيئة وأسوأها ( القذف والإتهام) بلا بينة ولا دليل ,وهذا قرين للظلم .

وفي زمن الظلم واضطراب القيم يصبح إلحاق الأذى بالإنسان هو القاعدة , ويكون العدل والإنصاف وتحكيم العقل والمنطق هو الإستثناء , وتصبح آلة الظلم والإرهاب هي السائدة.

(قال سبحانه وتعالى فيمارواه رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي : ياعبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما , فلا تظالمو ) رواه مسلم .

( وعن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : من ظلم قيد شبرمن الأرض طوقه من سبع أرضين ) متفق عليه .       

تعد الشائعات والأراجيف والإتهام دون دليل , من أخطر الرذائل التي فشت بين  بعض من يسمون أنفسهم دعاة, أو بعضا من حفاظ كتاب الله تعالى , أوبعض خريجي الجامعات  الإسلامية, أوبعض المنتمين لبعض الجماعات الإسلامية, فعند هؤلاء تبيض الشائعات وتفرخ , ويعتبرون ذلك دعوة يتقربون بها إلى الله تعالى .

بينما في مجتمع العقلاء تموت الشائعة في مهدها وقبل أن تلتقط أنفاسها .

 لكن يبدوا أن البعض يعيش في جو لايوجد فيه عقلاء ولا راشدين.

أن الإتهام بدون دليل وتصديق الشائعات يؤدي إلى زوال النعمة والوقوع في الأخطاء , التي ينبغي للعقلاء, أن لايقعوا فيها وأن يصونوا أنفسهم عنها , وخاصة أولئك الذين ينسبون أنفسهم للعلم والدعوة وتعليم كتاب الله  .

إن الصدق خلق عظيم بل يعتبر من أمهات الأخلاق في الإسلام .

( قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر وإن البر يهدي إلى الجنة ومايزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقا , وإياكم والكذب فإن الكذب يهدي إلى الفجور وإن الفجور يهدي إلى النار ومايزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابا )

- 6-

هل تعرفون ماذا تعني الشائعة ؟

يقولون أن الشائعة هي : نشر خبر دون تثبت من صحة وقوعه .

وهي أيضا : محض إختلاق يتناوله الناس من مصدر لا أساس له من الواقع .

وهي أيضا : إنتزاع خبر أو معلومة معينة , والتهويل من شأنها .

وإن أخطر مافي الشائعة سرعة انتشارها على يد الحاقدين الذين ملئت قلوبهم حقدا وكرها  , ولا أدري كيف وسعت قلوب البعض لكتاب الله وذلك الحقد الأسود الذي يجعلهم ينشرون الشائعات دون دليل ولا تثبت ولا يقين , وكيف عندما تكون الشائعة مخرجة من الملة .

 ( إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة والله يعلم وأنتم لاتعلمون )

( قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أيما رجل أشاع على رجل مسلم بكلمة وهو منا برئ سبه الله بها في الدنيا كان حقا على الله أن يذيبه يوم القيامة في النار حتى يأتي بنفاذ ما قال ) .

 ( يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبا فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على مافعلتم نادمين )

لقد تعلمنا في عالم النبات أن هناك طفيليات تلتف حول بعض النباتات الصالحة لتفسد نموها , وبما أنها نبتة قوية فتموت الطفيليات وتبقى النبتة شامخة .

 لكن أصحاب الشائعات وناشري الكذب والزور والبهتان والقذف , قنابلهم  صوتية , وألغامهم  فاشلة , ورصاصاتهم طائشة , وسترتد إليهم  في مقتل ولن يكون ذلك ببعيد .

والبعض يخدع الناس بمظهره وكلامه , لكنه فتان قد عقد صفقة شراكة مع إبليس , وهؤلاء يدفعون بالبسطاء ويستغلونهم لنشر الشائعات والكذب والإفتراء حتى يصبحون ببغاوات يرددون كلام غيرهم , ويصبحون كقطع الشطرنج يتحركون دون إرادة .

مما يؤسف له أن الكذب والشائعات من بعض من يدعون أنهم حفظة لكتاب الله تعالى , أو من بعض أدعياء الدعوة, وينسى هؤلاء قيمة دعوة المظلوم في جوف الليل وعند السجود .  

 ( الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل , فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء واتبعوا رضوان الله والله ذو فضل عظيم , إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين ) سورة آل عمران – 173-175.

لابد لمن يتهم غيره أن يقدم الدليل البرهاني ( قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين )

( لولا جاؤوا عليه بأربعة شهداء ) سورة النور – 13.

فهل يعقل أن يتم نشر  كل مانسمع  وخاصة تلك التهم الخطيرة التي تخرج الإنسان من الملة , إلا إذا أصبح البعض من جماعة كفر ثم فجر .

- 7 -

( ولولا إذ سمعتموه قلتم مايكون لنا أن نتكلم بهذا ) سورة النور – 16-17.

فأي إتهام لايستند لدليل مادي واضح ولايقبل التأويل فهو باطل ولايعتد به شرعا .

والأصل بالمسلم حسن الظن.

والأصل في المتهم البراءة حتى تثبت إدانته .

أن الإتهام لأعراض الناس وسمعتهم يحتاج لبينة وشهود ثقات , وإذا لم يأتي بذلك فيجب أن يجلد .

والعلماء رفضوا دعوى غير ذوي العدل وخاصة ممن بينهم خصومة , وعند عدم تقديم الدليل تعتبر التهمة قذفا .

( والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا أولئك هم الفاسقون ) سورة النور – 4 .

( يروى أن سليمان بن عبد الملك قال لرجل : بلغني أنك وقعت في وقلت كذا وكذا , فقال الرجل : مافعلت , فقال

  سليمان : إن الذي أخبرني صادق . فقال الرجل : لايكون النمام صادقا . فقال سليمان : صدقت : إذهب بسلام )

قال الله عز وجل: ( وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً ) سورةالإسراء -  آية 36 

 (يقولُ الإمام ابن كثير- رحمه الله- في تفسير هذه الآية : قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس-       رضي الله عنهما-: يقول: لا تقل.

 وقال العوفي عنه : لا ترم أحدًا بما ليس لك به علم.

 وقال محمد ابن الحنفية: يعني شهادة الزور.

   وقال قتادة: لا تقل رأيت ولم تر، وسمعت ولم تسمع، وعلمت ولم تعلم، فإنَّ الله تعالى سائلك عن ذلك      كله. )

   ( ويقول سيد قطب- رحمه الله تعالى- عند هذه الآية:

وهذه الكلمات القليلة تقيم منهجًا كاملاً للقـلب والعـقل، يشمل المنهج العلمي الذي عرفته البشرية حديثًا جدًّا، ويضيفُ إليـه اسـتقامة القلب ومراقبـة الله، ميـزة الإسلام عن المناهج العقـلية الجـافـة.

فالتثبت من كل خبرٍ ومن كل ظاهرة، ومن كل حركةٍ قبل الحكم عليها؛ هو دعوة القرآن الكريم، ومنهج

الإسلام الدقيق....

ومتى استقام القلب والعقل على هذا المنهج لم يبق مجال للوهم ... إنَّها أمانةُ الجوارح والحواس والعقل والقلب، أمانةٌ يسأل عنها صاحبها، وتسأل عنها الجوارح والحواس والعقل والقلب جميعًا، أمانةٌ يرتعشُ الوجدان لدقتها وجسامتها، كلَّما نطق اللسان بكلمة، وكلما روى الإنسان رواية، وكلَّما أصدر حكمًا على شخصٍ أو أمرٍ أوحادثة.)

فتجد شخصا يتهم غيره لمجرد خلاف فقهي أو فكري , والمهم عنده تشويه سمعته وصورته أمام الناس .

وهناك من يتهم فقط لأنك لاتوافقه على مواقفه , فكم وقع هؤلاء في أعراض الناس واتهموهم بتهم خطيرة فقط لمجرد عدم الإتفاق .

تجد البعض يتصدرون في العمل الدعوي ويدعون الفهم ويقدمون أنفسهم على أنهم الأفضل , وأنهم هم اصحاب البرامج والمناهج  , لكن عندما تقترب منهم وتتعامل معهم فتجد نفسك تتعامل مع أشخاص قتلهم الحقد والكراهية

- 8 -

 فلا يتركون تهمة إلا ويلصقونها فيمن يخالفهم , ولايتورعون أن يتهمو غيرهم بتهم ما أنزل الله بها من سلطان

تتراوح بين الجاسوسية وبين الخيانة  والتأكيد على هذه التهم من خلال نسبة بعض الأشخاص لبعض الجهات

المخابراتية , تهمة لاتستند لدليل , لكن الحقد يدفع بهم نحو النيل والطعن لكل من يختلف معهم  دون دليل ولا تثبت.

وهناك الكثير من القصص والحوادث في ساحة العمل الإسلامي التي لايسع المجال لذكرها , فهؤلاء  يسمحون لأنفسهم بالنيل من غيرهم دونما خوف من الله ولا رادع ولا ضابط .

كل ذلك يحصل من بعض الذين  يتصدرون في العمل الإسلامي .

ومن هذه القصص : أشخاص يقدمون أنفسهم بأنهم دعاة وأصحاب منهج ومسؤولين عن( مؤسسة إسلامية) , فيختلفون مع أحد الأشخاص , وفجأة يقوم شخص ما وبطريقة غير مباشرة بتوجيه نقد لهذه المجموعة, حول سلوكهم وتصرفاتهم , فمباشرة وبدون تثبت ولا تدقيق يتهمون شخصا ما بذلك , فيقدم هذا الشخص على القسم على كتاب الله بأنه لاعلاقة له بالأمر , فيقلبون الموجة ويوجهون التهمة لشخص آخر وأيضا دون تثبت ولا تحقق , ولربما لو أقسم هذاأيضا  , لغيروا الموجة وفتشوا عن متهم ثالث ورابع وخامس وهكذا !!!

فانظر يارعاك الله لأولئك الذين يتصدرون للدعوة , ويعتبرون أنفسهم قدوات .

ألا ساء مايحكمون .

فالواجب أن يتم التبين والتثبت بدليل بين واضح عند توجيه الإتهام لأي شخص , مصداقا لقوله تعالى :

( يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على مافعلتم نادمين ) سورة الحجرات – آية 6.

( وقال صلى الله عليه وسلم : إن العبد ليتكلم بالكلمة لايتثبت فيها يزل بها في النار أبعد مابين المشرق والمغرب)

فعندما نلتزم تلك القواعد , نتجنب: الظن الذي لايغني من الحق شيئا , وظلم الآخرين , وتصديق الإشاعة , وانتشار الشبهة وتعاظمها , والتشكيك في سلامة التوجه .

ولو أردنا أن نسرد الأمثلة لما انتهينا , فإن في كل قصة غصة .

6- عدم الأخذ بالقرائن:

وإذا اتهم شخص بتهمة فنفاها، أو بين عذره فيها، فليس من اصول التثبت الاستمرار في الحديث عنه فحاطب بن

أبي بلتعه حيث صدر منه إفشاء سر رسول الله صلى الله عليه وسلم، طلب عمر أن يقطع عنقه، غير أن رسول

صلى الله عليه وسم استمع إليه، حتى إذا انتهى( قال: صدق، ولا تقولوا له إلا خيراً) رواه البخاري

والنمام لا يعرف التثبت، وعدم الاستماع إليه استئصالٌ لشره،( فقد جاء في الترمذي: لا يبلغني أحدٌ عن أحد من أصحابي شيئاً؛ فإني أحب أن أخرج إليهم وأنا سليم الصدر)

- 9 -

فلا تجعلوا بطانتكم النمامين،( قال ابن قدامة: لا تصدق الناقل؛ لأن النمام فاسقٌ، والفاسق مردود الشهادة، فإن ركنتم إلى النمامين، وأصبتم إخوانكم بجهالة فلا بد أن تصبحوا على ما فعلتم نادمين)

ومن الغلط الفاحش قبول قول الناس بعضهم في بعض، ثم يبني عليه السامع حباً وبغضاً، ومدحاً وذماً، فكم أشاع الناس عن الناس أموراً لا حقائق لها البتة، فنميت بالكذب والزور.

وقد يكون الرجل عدلاً لكنه لا يعرف كيف يسمع الأخبار ولا كيف ينقلها، فلا يحسن السمع، ولا يحسن الأداء، فيقع تحت غائلة الكذب.

من أجل ذلك كان لزامًا على كل مسلم يريد لنفسه النجاة في الدنيا والآخرة، وألاَّ يكون سببًا في ظلمِ العباد، وإثارةِ الفتن، أن يعي ويفقه التبين والتثبت  ، فيتثبتُ من كلامه قبل أن يدلي به  للناس، ويتثبتُ من سماعه، فلا ينقلُ عن أحدٍ مالم يقلهُ أو يقصده. ويتثبتُ في أحكامهِ ومواقفه.

وإنَّ منهجَ التثبت في القولِ والنقلِ والسماع، لا يستغني عنه مسلمٌ مهما كان مستواهُ من العلم والثقافة.

فالتثبت في الأمور كلها دليل على حسن الرأي وقوة العقل، فمن تحقق وعلم كيف يسمع، وكيف ينقل، وكيف يعمل، فهو الحازم المصيب، ومن كان غير ذلك، فمآله الندامة والحسرة.

فالمسلم محاسبٌ على كلمة يقولها، وصدق  الله العظييم:

( إِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ) (الانفطار:10).

 وقال تعالى:(مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) (قّ:18).

 وقال تعالى: (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوه)(البقرة: 235) .

 وقال تعالى: (يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ) (غافر:19).

 ويقول تعالى: (وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلاً) (النساء:83) .

إن السير وراء الظنون والشكوك يدمر الحياة ويعرقل مسيرة الدعوة , ويعمل على توهين الصف الإسلامي

(قال صلى الله عليه وسلم : من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت ) .

فما أحوجنا إلى التثبت من أخبار كثيرة تنقل إلينا، وما أحوجنا إلى محاسبة دقيقة لأعمال جمة تكسبها جوارحنا، فهل نعي ذلك، ونحاسب أنفسنا قبل أن نحاسب؟