خمسة وعشرون عاما .. بقايا صور وأفكار

خمسة وعشرون عاما .. بقايا صور وأفكار

على هامش المؤتمر الرابع والعشرين لاتحاد الجمعيات الإسلامية في مدريد

"1"

 نوال السباعي

[email protected]

كأني بها الآن قبل دقائق تلك الطائرة التي أقلتني من دمشق الى مدريد , نحو المجهول كانت تمضي بي في تلك الساعات من مساء أحد أيام السبت في أواخر أيام عام الثمانين , خمسة وعشرون عاما مضت منذ ذلك اليوم, خمسة وعشرون عاما كانت كذلك شطرا من العنوان الذي اختاره اتحاد الجمعيات الاسلامية في اسبانية شعارا لمؤتمره الذي عقد هذاالصيف , انفتحت أمام ناظري كوّة متسعة من الذكريات التي أعيشها وألمسها بيدي ونفسي وفكري , خمسة وعشرون عاما من العيش مع وفي ظل العمل الاسلامي في اسبانيا , هذا العمل الذي كان ودائما المبرر الوحيد لاستمرار وجودي وحياتي .

مازلت أذكر ذلك اليوم الذي حضرت فيه لأول مرة مؤتمر الجمعيةالاسلامية في مدريد , أعداد كبيرة من الناس , من المغرب , من الجزائر , من فلسطين , من سورية , إخوة وأخوات في الله عرفناهم وعشنا معهم , بعضهم مازالوا معنا في رحلة غربتنا وجهادنا , آخرون رحلوا الى بلادهم أو خلفناهم على دروب الحياة في شتى أنواع المحن , شابت العوارض واللحى وبقيت القلوب تنبض بهذا العمل , من أجله اجتمعنا وعليه نفترق , وجوه وأسماء وأصوات , نساء ورجال وأطفال , شباب من الطلبة ولم تكن هنالك شابات, لقد كانت كل النساء من الجيل الاول من الشابات المتزوجات اللاتي لم تتجاوز أكبرهن الثلاثين من عمرها , مازال صوت "أبو عدنان " يرن في أذني وهو يمنح جائزة للأخ "أبو عبدو" لفوزه بنتائج مسابقة في المعلومات الاسلامية , ودهش "أبو عبدو" لأنه لم يكن من الذين شاركوا في تلك الجائزة , ولكن الأعراف في ذلك الزمان كانت تقضي بأن لايعلن على الملأ اسم الاخت "أم عبدو" الفائزة الحقيقية بالجائزة ! تغير ذلك الزمان , وكان عدد الفتيات في هذا المؤتمر الخامس والعشرين كبيرا جدا , أصبح للشابات أسماء يُنادَين بها ووجود وحضور قوي وعلى كل المسارات .

"أبو عدنان " و"أبو عبدو" كانا على رأس الذين ساهموا في تغيير ذلك الزمان ومنح المرأة المسلمة في اسبانيا صوتها ووجودها جنبا الى جنب مع الاخوة في المسجد والمركز والمؤتمر والحياة .

خمسة وعشرون عاما مرت منذ ذلك اليوم الذي ذهبت فيه الى المركز الاسلامي في "غرناطة" , ذلك المسجد الصغير في بيت متواضع , مكتبة ومطبخ , ووجوه شابة فتية , هاتف والى جانبه علبة لجمع التبرعات لمنكوبي أفغانستان , خلعت خاتمي ووضعته في تلك العلبة , وعاد الي خاتمي بعد أسبوعين بحجة أن هذه الاشياء لاتنفع ساعة جمع التبرعات , عرف الاخوة أن الخاتم هو خاتمي لأنني كنت المرأة الوحيدة في ذلك الجمع الغرناطي , عدت بعد عام فتبرعت بنفس الخاتم في علبة أخرى لمنكوبي الشيشان , وعاد نفس الخاتم بعد عام كامل الي , قيل لي انهم لايعرفون ماذا يفعلون بخاتم من ذهب فهذه التبرعات تذهب الى اللاجئين لشراء مساعدات غذائية وأدوية وأدوات مدرسية لأطفال المخيمات , بعد أربعة أعوام عندما انتقلت الجمعية الاسلامية الى مقرها الجديد "مسجد عمر بن الخطاب " في غرناطة عدت للتبرع بخاتمي عينه ودسسته في علبة جديدة تجمع فيها التبرعات لمنكوبي بلد آخر في مسلسل النكبات الاسلامية الدامية , لكن الخاتم عاد إلي ...لعل خاتمي ذاك كان ينتمي الى قبيلة ذلك الغلام المؤمن كلما أرادوا الخلاص منه عاد إليهم يمشي!؟..الشيء الذي تغير اليوم في الجمعية الاسلامية في غرناطة بعد خمسة وعشرين عاما , هو أن عدد الاخوات هناك صار يناهز عدد الاخوة , ولاشك أن خواتم كثيرة صار يجدها مسؤولي الجمعية في علب جمع التبرعات.

خمسة أشهر بعد وصولي الى اسبانية وقعت تلك الجريمة البشعة القذرة التي هزت أركان المسلمين في أوربة , الشهيدة "بنان الطنطاوي " ارتفعت- ولاأقول سقطت- لتكون دماؤها شاهدا على تلك الحقبة من الزمان , ربما اليوم وبعد مرور خمسة وعشرين عاما أصبحت دماء "بنان الطنطاوي" المبرر الوحيد الذي نستطيع أن نقدمه لأبنائنا وهم يسائلوننا باستنكار عن سبب خروجنا من بلادنا في حينه ولماذا جئنا بهم الى هذه الغربة ؟!, كانت دماء تلك الشهيدة أول نسب جمعني مع الوالد والاستاذ الذي يسميه الناس "عصام العطار" , ولكننا نسميه "أبا أيمن" , هذا المعلم الذي لايستخدم قاعات المدارس ليلقي دروسه , الاب الذي لايحتاج الواحد منا الى شهادة ولادة تثبت نسبه إليه , أحد القلائل جدا من الذين بقوا هناك خمسة وعشرين عاما في تلك الزاوية من القلب التي يمكن للمرء أن يأوي إليها كلما ضاقت به الايام وقلّ الإخوة والاعوان.

صلة "ابا ايمن" بجزء كبير من العمل الاسلامي في اوربة كانت بمنزلة صلة الروح في هذه المراكز المبثوثة في مختلف العواصم الاوربية , هذا الهدوء في التعامل مع الايام , هذا الشموخ الصامت في وجه العواصف , هذا الثبات العنيف في سكون أنيق, هذه الاخلاق العظيمة في وجه طوفان امتداد الصحوة , هذا الحبل المستمد من الصلة بالله ليمسك كل حبات العقد كيلا تنفرط وتضيع .

يهز المنابر من غير صياح , ويهز النفوس بالبسمة الساكنة , هذه الروح التي تنفث الحياة في كل ماحولها في أداء مذهل ودونما ضجيج وصخب وهياج.

لأول مرة وقبل عشرين عاما سمعت نعت "الكاتبة الاسلامية " من الاستاذ "عصام العطار " كما من الاستاذ "نبيل شبيب" عندما كنت في زيارة احد المؤتمرات الاسلامية في مدينة كولونيا في ألمانيا , ذلك التكريم كان شيئا لانعرفه ولم نعهده, لم يكن تكريما للمرأة المسلمة فحسب , بل كان تكريما لمهنة الكتابة والصحافة الاسلاميتين .

وسائل الشيخ في التربية عجيبة , حرصه على كل موهبة وهمة وكلمة وحرقة كبير جدا الى درجة تبنيه معظم هذه الاسماء التي أصبحت اليوم رنانة في الساحات الاعلامية العربية , لكنه يوم تبناها لم تكن في حينه أكثر من مواهب تسير في هذا الدرب تحفها الرغبة في نصرة هذا الدين ..ماكان "عصام العطار" يجحد حق أحد ولايحقر جهد أحد ولاينسى فضل أحد مهما كان صغيرا أو مغمورا أو منسيا , وهذا لعمري من أعظم أخلاق الوفاء التي رأيتها , كان "عصام العطار" الرجل الذي يعترف بالفضل حتى لأعدائه , ويبرز الجهد حتى للمقلّ , ويكرم حتى أولئك المدّعين رجاء أن يحملهم الاكرام على الصدق والاخلاص.

جاءنا الاستاذ "العطار" زائرا , ليضرب لنا من نفسه المثل الرفيع في الثبات علىالدرب , ماالذي يمنع داعية من الاستمرار حتى آخر الشوط؟ لاالمرض ولاالتعب ولا الأيام بقادرة على تغيير وقفة الحق مع الحق , ولاأن تفتّ في عزيمة ماضية كهذه العزيمة , جاءنا الاستاذ "أبا أيمن" بهدية ليست كالهدايا , جاءنا بنفسه , بجسده المنهك المتعب ليقول لنا أن النفوس إذا كانت كبارا فنيت في مرادها الأجساد ولكن هذا الفناء لايمنع استمرار العطاء أبدا.

هذه الرسالة الدعوية الفعلية العملية في زمن الوهن والخوف والارجاف والمرجفين , كانت أعظم هدية قدمها الاستاذ عصام لمؤتمر اتحاد الجمعيات الاسلامية في اسبانيا , هذه النفحة من هذه الروح الوثابة نحو الأمام , نحو الأمل, نحو الغد, نحو وعد الله الذي لايخلف وعده.

مساكين أولئك الذين لم يروا في هذه الزيارة إلا ماتراه الأبصار الكليلة , لأنها زيارة تحتاج الى البصائر العظيمة تكتشف هذا الدرس البالغ في زمن قلّت فيه الدروس والوعاظ.

كل شاب وشابة في هذا المؤتمر أصيب بالذهول وهو يستمع الى هذا الشيخ الذي جاء ليقول لهم بأن رسالة الاسلام العظيم لايجب أن نقف عن تبليغها بسببٍ من حادثات الأيام وماتحمله على المستوى الشخصي من آلام وبلاآت أو ماحملته من أحداث مزلزلة في أوربة .

"العربي الكشاط" أحد تلاميذ هذا الاستاذ , وأحد أساتذة الجيل في أوربة , جاءنا من باريس من مسجد الدعوة , يهزنا يوقظنا يذكرنا بالواجب العظيم في أعناقنا , هذا الرجل يحمل في عينيه رسالة ورسالة أخرى حملتها كلماته , لكن أعظم الرسائل على الاطلاق كانت تلك التي نتعلمها في سلوك هؤلاء الرجال , هذه الرسائل تصبح شديدة الأهمية والخطورة في زمن المحنة , ونحن إنما نعيش اليوم زمن محن .

"العربي الكشاط" لايلقي على الناس محاضرة , ولايمّلهم بكلام معاد مكرور , كل مايقوله العربي الكشاط جديد مشوق عجيب يستند بفضل الله ومنه الى علم غزير وتجربة واعية وموهبة عظيمة .

عرفت هذا الاستاذ الكبير قبل خمسة عشر عاما تقريبا في مؤتمر آخر من مؤتمرات اتحاد الجمعيات الاسلامية فذهلت بماعرفته وسمعته , الكشاط لايتكلم الى الناس ..إنه يمتزج بأعصابهم وأدمغتهم , يدخل قلوبهم , ينتشر في خلاياهم لأنه رجل يريد أن يهز الأمة ولاتهتز الأمم إلا بهزّ النفوس هزاّ عنيفا.

يُضحك ويبكي يثير ويسكن يغضب ويرضي , يقوم ويقعد ويمثل ويتحرك وكأنه قائد أوركسترا , يتحدث تارة بالفرنسية وأخرى بالشلحة البربرية وثالثة بالاسبانية المكسرة ..وكل ذلك لجذب الانتباه وتفريغ النفوس لاعادة شحنها بالفكرة التي هو رسولها.

كنت أريد أن أكتب هذا عن "العربي الكشاط" منذ اليوم الاول الذي حضرت له فيه تلك المحاضرة التي مازلت أذكر كلماتها وبالحرف حتى اليوم , ولكنني خشيت أن أكون من المداحين , فأصبحت اليوم على يقين من أن انزال الناس منازلها هو من أخلاق هذا الدين .

موقفان شهدتهما في هذا المؤتمر للعربي الكشاط هما درسان بليغان في رفيع الأخلاق التي تصل بالناس الى هذه المنازل العظيمة في القلوب , صبره وحلمه وصفحه بل اكرامه لمن أغاظه وأساء بعض الادب معه , وموقف آخر مشهود في اجتماع له مع مجموعة من الشباب من "تجمع الشباب المسلم في مدريد" , حين لم يجدوا مكانا للجلوس فيه , جلس "الكشاط" أرضا في احدى ردحات سلم المسجد ودعاهم الى الجلوس معه ليلتقي بهم في ذلك المكان وليبلغهم رسالة الاسلام الذي يرفض العنف والاعتداء على الابرياء , ويسلمهم أمانة الدعوة التي يدخر الله لها أهلها من كل جيل يتسلمون الأمانة ليمضي هذا الركب الى حيث وعد الله .

هذا التواضع الجم غير المعهود بين غالبية من نعرف من الدعاة , هذا الصبر العظيم على المكاره وايذاء الآخرين , هذه الاخلاق كانت أعظم هدية جاءنا بها ذاك الاستاذ وهذا التلميذ , كلاهما حلقة في هذه السلسة الضخمة التي تمتد بمفاتيح الحب لتفتح القلوب والعقول والنفوس , في زمن القهر هذا الذي كانت فيه هاتان الزيارتان الى اسبانية قمرا مضيئا هاديا في ليل لن يطول.

-يتبع ان شاء الله-