تأملات تربوية – سورة مريم (4)

د. عثمان قدري مكانسي

تأملات تربوية – سورة مريم (4)

د. عثمان قدري مكانسي

[email protected]

 قوله تعالى عن الذكر فيه معان كثيرة منها :

1-       التشريف والتكريم : في قوله تعالى " وإنه لذكر لك ولقومك " . إن قدْرَ الإنسان يعلو بانتمائه إلى ربه وإرضائه ، والعمل بما أمر والانتهاء عما نهى . وفي قوله جل شأنه " ص، والقرآن ذي الذكر " فمن عاش في ظلاله وحَيّ به ارتفعت مكانته ، ومن أبى ذل وخاب " بل الذين كفروا في عزة وشقاق " والعزة هنا استكبار وعناد ، يوضحه قوله تعالى " وإذا قيل له : اتق الله أخذته العزة بالإثم " والشقاق : الخلاف والإنكار . ونعود إلى " الذكر في القسم الرابع من تأملاتنا في قوله تعالى " واذكر في الكتاب موسى " .. فبماذا وصف هذا النبيَّ الكريم ؟ .. لو عدنا إلى السورة نفسها في بداية الذكر لرأينا كل نبي ذكر بصفة اختص بها :

زكريا عليه السلام وصف مثل نبينا محمد صلى الله عليه وسل بالعبودية " ذكر رحمة ربك عبده زكريا ".

 وعيسى عليه السلام خص بهذه الصفة " قال إني عبد الله  "

وإبراهيم وإدريس عليهما السلام خصا بالصدّيقيّة : " واذكر في الكتاب إبراهيم إنه كان صدّيقاً نبيا "  " واذكر في الكتاب إدريس إنه كان صدّيقاً نبيا " .

وموسى عليه السلام خُص بالقرب والتكليم " وناديناه من جانب الطور الأيمن وقربناه نجياً " .

وإسماعيل عليه السلام وُصِف بصدق الوعد والرضا " إنه كان صادق الوعد ..... وكان عند ربه مرضياً "

وداوود عليه السلام وُصف بأنه وُهب القوة وكثرة التوبة " واذكر عبدنا داوود ذا الإيد إنه أواب" . كما كرر ذكر الأنبياء مرة بأنهم " أخيار " ومرة بـ " الذكر الحسن "  ومرة بـ " الصبر "  وكل ذلك تكريم وتشريف لهم ودعوة إلى الاقتداء بهم . فهؤلاء قلوبهم متصلة بربهم ، وحياتهم وقفوها على رضاه " إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجّداً وبكيّا". .. فالله تعالى شرفهم ،وهم شكروه بسجودهم مقرين بفضله عليهم ومنته سبحانه.

2-       الترهيب والترغيب: أسلوب تربوي مؤثر. ففي الإنسان بذرة خير . إن تعهدها بالعناية والرعاية زكت ونمت فنال صاحبها الأمن والأمان والسعادة والهناء . وفيه بذرة شر ، إن أهملها ولم يلق لها بالاً زاحمت بذرة الخير ودافعتها ، فإذا ساعدتها نوازع فاسدة كامنة في حنايا الإنسان اشتدت واستفحلت ، وبدا خطرها على صاحبها ومن حوله ، فدبت الفوضى وضربت أطنابها في المجتمع ..... ومن طبع الإنسان أن يفعل الخير .  لأن الله فطره على الهدى والصلاح ، ودله على طريقه .... ومن طبعه أيضاً أن يقع في الخطأ والتفلت والتهاون لأن الله تعالى خلقه من عجل . وخلقه ضعيفاً يصيب الذنوب والآثام ... لذلك كانت الجنة للتائبين العائدين إلى ربهم ، والنار للعاصين المتنكبين سبيل الهدى والرشاد .

      ونرى القرآن العظيم يستعمل أسلوب الترغيب وأسلوب الترهيب بمقدار ما يقوّم سلوك الإنسان ليمضي على ما يرضي الله تعالى .

وليس في القرآن – على الغالب الأعم- آية ترغيب إلا تبعتها آية ترهيب . ولا آية ترهيب إلا تبعتها آية ترغيب فهما – الترغيب والترهيب -  متلازمان .. والحكمة في ذلك : أولاً التذكير بالثواب والعقاب ليظل الإنسان حريصاً على نيل المثوبة واتقاء العقوبة . وثانياً أن من لا يؤثر فيه الترغيب وثوابه يؤثر فيه الترهيب وعقابه .

  ومثال هذين الأسلوبين في هذه السورة الكريمة قوله تعالى " فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيّاً " فبدأ بالترهيب مبينا السبب ( إضاعة الصلاة واتباع الشهوات ) ثم النتيجة ( فسوف يلقون غياً ) فاختزل التهديد في هذه الآية التي فجأت السامع فارتجف لها قلبه،  وتزلزل لها كيانه فأصبح مهيأ لأن يميل نحو الثواب الذي جاء بعد صيغة الاستثناء في الآيات 59- 64 فأراحت القلب وهدّأت الأعصاب بعد تلك الفجأة المخيفة ... فمن تاب وآمن وعمل صالحاً نال حقه كاملاً ودخل الجنة التي وعده الله بها في الحياة الدنيا وفي هذه الجنة الطمأنينة والسلام والرزق الهنيئ ا لرغيد الدائم الذي لا ينقطع ، يناله العبد التقي الصالح . جعلنا الله أتقياء صالحين

3-       الحجة المنطقية  : ينكر الكافر أن يبعث بعد الموت مرة أخرى :" ويقول الإنسان أإذا ما مت لسوف أبعث حيّاً؟! " .. إنه سؤال استنكاري لا يريد صاحبه جواباً لاقتناعه أنْ لا بعث ولا نشور بعد الموت . فيأتي التحدي المنطقي : الذي يدمغ بالحجة البينة والمنطق الساطع : إن الله خلقك ابتداء من لا شيء أفلا يستطيع إعادتك من شيء؟!! فإذا كان المولى سبحانه قد أوجدنا من العدم ولم نك شيئا ؟ أفلا يستطيع سبحانه أن يعيدنا إلى الحياة من وجود؟.. .. بلى إنه قادر على كل شيء بقوله : كن فيكون . والتحدي يجْبَهُ المنكِر،  فيخرسه ويوقفه عند حده  ، ويكسر حدته ويجرده من قوته الكاذبة .  أو قلْ يعريه مما يدّعيه ، ويظهر ضعفه ، ويعيده إلى حجمه الحقيقي . ثم انظر معي إلى مقولة الكافر الجاهل الذي ليس له من الأمر شيء يدعي أنه سيُؤتى من الأولاد والبنين والأموال ما يشاء ، وكأن له قدرة على ذلك،  فيهرف بما لا يعرف " أفرأيت الذي كفر بآياتنا وقال : لأوتين مالاً وولداً " فهنا يسأله العليم القدير مَن بيده مقاليد الأمور : " أطلع الغيب أم اتخذ عند الرحمن عهداً " فلا هو اطلع على الغيب فعرف ، ولا هو أخذ من الله سبحانه الوعد والعهد على ذلك . فكيف يدعي من لا يقدر أنه يقدر ومن لا يعلم أنه يعلم؟! حجة منطقية تعلمنا أن على الإنسان أن يلزم حده ، فيقف عنده .

4-       التهويل : اسلوب تربوي مخيف ، يزلزل النفوس ، ويحرق الأعصاب ، ويخضد شوكة الخصم، ويزرع الرعب في أوصاله ، فيستسلم صاغراً ذليلاً ، منكسر الفؤاد مستسلما ,وهو أسلوب إذا تمكن منه من يستعمله كما استعمله القرأن فقد كسب الجولة بكل تأكيد . ومثاله قوله تعالى : " وقالوا اتخذ الرحمن ولداً ، لقد جئتم شيئاً إدّاً ( عظيماً ) تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض و وتخر الجبال هداً أن دعوا للرحمن ولداً وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولداً، " فالله واحد أحد ، فرد صمد ،  ليس له زوجة  ، ولا شريك  ، ولا ولد .

وكثيراً ما يدخل في التهويل :

5- التصوير الحسي المتسلسل  :

                        "  فوربك لنحشرنهم والشياطين "

                        " ثم لنحضرنهم حول جهنم جثياً "

                        " ثم لننزِعَنّ من كل شيعة أيهم أشد على الرحمن عتيّا "

                        " ثم لنحن أعلم بالذين هم أولى بها صليّاً "

                        " وإن منكم إلا واردها ، كان على ربك حتماً مقضيّاً "

                        " ثم ننجي الذي اتقوا ونذر الظالمين فيها جثيّاً "

فتصور معي كيف يُحشَر العتاولة والمجرمون مع الشياطين أذلاء صاغرين ، ومقيدين يسحبهم الزبانية إلى جهنم ، ثم هم يجثون على ركبهم ، لا يملكون من أمرهم شيئاً ، ولا ينتظرون عوناً من أحد . وقد أيقنوا بالهلاك فنكسوا رؤوسهم خوفاً ورعباً . ثم ترى العتاة المتجبرين المتكبرين ُينزعون من بينهم ويُلقَون في جهنم دون حساب ، فليس لهم عند الله تعالى قيمة ، وكان تجبرُهم في الدنيا وبالاً عليهم في الآخرة . فهم أهلها الذين يخلدون في النار أبد الآبدين .

وهناك حقيقة لا بد منها .. فالجميع - صالحين وطالحين -  يردون جهنم والعياذ بالله " وإن منكم إلا واردها" . قال أهل العربية : ليس من شرط ورودها الدخول فيها . إن أهل الجنة يجوزونها على الصراط دون أن يشعروا بها بإذن الله وفضله . .. اللهم اجعلنا منهم بفضلك وكرمك ورحمتك ...أما أهلها فيسقطون فيها ، نعوذ بالله منها ومن مصير أهلها ... لقوله تعالى " ثم ننجي الذين اتقوا ، ونذر الظالمين فيها جثيّاً " .. والسورة مليئة بالصور المتحركة التي تخلع القلوب وتزلزل الأوصال

6--.الجمل الموسيقية : انقسمت الفاصلة القرآنية في هذه السورة إلى قسمين :

                من أول السورة إلى الآية 74 نجد - غالباً - الياء المشددة بعدها ألف ممدودة تمد الأنفاس راحة  وتمنح الصدر والروح هدوءاً  في الحديث عن الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم . فهناك مناجاة ودعاء ورحمَات ( خفياً ولياً رضياً سمياً سوياً عشياً نبياً علياً ...) موسيقا تفتح القلوب وتنشط الأعصاب وتنشر الأنس ونسمات الاسترواح .. ثم هي نفسها تنقلب إلى إصرار وعزم  وتهديد حين تتحدث عن مصير المجرمين في جهنم ( جثياً عتياً صلياً مقضياً ) ، فتجد التهديد والوعيد القويين .

               ومن الآية 75 إلى آخر السور نجد  - غالباً - حرف الدال المشدد الذي يناسب التهديد والوعيد والعقاب أو السكون قبل حرف الدال..( مدّاً مردّاً إدّاً هدّاً ودّاً لدّاً ضدّاً.. عهداً عبداً فرداً )

               ونجد الزاي المشددة الدالة على الغضب الشديد ( أزّا عزّا ) .. هذه الفواصل أسلوب تربوي لما فيها من إيحاءات معبرة عن العاطفة الهادئة حينا والمائجة حينا آخر ، العاطفة مرة والعاصفة مرة ثانية . تؤثر في القارئ والسامع على حد سواء . فتراه يلين مع الأنبياء في الحديث عنهم ، وينشط لحديث الجنة ، ويرتجف لذكر النار وأهلها . ويجتهد ليكون ممن يحشر في وفد الرحمن ويهفو لذلك . ويخاف أن يساق مع العصاة العتاة فينأى عنهم . ويرضى لرضاء الله . ويغضب لغضبه سبحانه .

7-  مخاطبة الناس بما يناسبهم  : لو دعاك أحدهم بلغة جميلة وصوت عذب ، لكنك لا تعرف هذه اللغة فهل تستجيب ؟  طبعا لن تكون هناك استجابة لانك لم تفهم ما يقول ، ولم تتفاعل معه : " ولو نزلناه على بعض الأعجمين فقرأه عليهم ما كانوا به مؤمنين " ... أما إذا خاطبك بلغتك ، بل بلهجتك التي اعتدت عليها ، بل بدقائق هذه اللهجة ومفرداتها فسوف تُشد إليه ، وتنزع إلى ما يقول بلهفة .. وهكذا نزل القرآن " فإنما يسرناه بلسانك لتبشر به المتقين ، وتنذر به قوما لدّاً " . فتُـفهم هؤلاء وتقيم الحجة على هؤلاء . وعلى هذا أمر الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم الصحابي الشاب  زيد بن ثابت أن يتعلم لغة يهود ، وقال :  " من تعلم لغة قوم أمن مكرهم "  ولن يدخل أحد قلوب الآخرين إذا لم يملك مقاليد اللسان الذي يترجم أحاسيسه وأفكاره .