الصَّبر والرِّباط
د . عبد الحكيم حسين الأحمد
أبواب تأييد الله للمؤمنين عديدة ، وهي أبواب لاتغلق أبدا إلى يوم القيامة ، وعلى هذه الأبواب مبشرات يشعر بها المؤمنون ، ويراها الصادقون المخلصون ، فتشد من عزائمهم ، وتخفف من بلوائهم ، وتثبت أقدامهم رغم المحن والنوازل التي تتوالى على المؤمنين ، وعلى الأمة ، ومن أجل هذه الأبواب الصَّبر ... الصَّبر على مكاره الزمان ، الصَّبر على أذى أعداء الله ، الصبر على مقارعة الغزاة في ميادين الجهاد وساحات النزال ، وإن الله سبحانه وتعالى أمرنا بالصبر ، وأمرنا بالمصابرة ، وأمرنا من خلالهما وبهما بالمرابطة ، ودلَّنا على حماية هذا الصبر بالتقوى في الأعمال والأقوال ، ووعد الحقُّ بعدئذ بالفلاح وبالنصر بإذنه ، يقول عزَّ وجلَّ : ( يا أيها الذين آمنوااصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون ) 200/آل عمران .فهذه سُنَّة الله ، وهذا منهج المؤمنين الذين يحملون دعوة الله ، ويتصدون للدفاع عن المقدسات . إذ لابد من المعاناة ، ولا بد من الآلام ، ولا بد من جائزة في الدنيا للصابرين ، ولا بد من جائزة أجل وأكبر في الدار الآخرة ، يقول سبحانه : ( وبشر الصابرين ) 155 / البقرة . ففي الدنيا لأهل الصبر الفلاح والتأييد والنصر من الله ، وفي الآخرة لهم الأجر والمنازل العُليا في جنات الخلود ، يقول الله تعالى : ( إنما يُوفى الصابرون أجرهم بغير حساب ) 10/ الزمر ، ويقول في آية أخرى : ( أولئك يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا ) 54 / القصص .
والتحلِّي بالصبر هبةٌ من الله ، لايُؤتاها إلا الرجال الكرام من أهل التوحيد الخالص ، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ومَن يتصبَّر يصبرْه الله ، وما أُعطي أحدٌ عطاء خيرا وأوسع من الصَّبر ) رواه البخاري ومسلم . وفي حديث آخر عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( مارزق اللهُ عبدا خيرا له ولا أوسع من الصبر ) رواه الحاكم .، ومن حديث آخر : ( والصبر ضياء ) ... ضياء يبدد عن الصابرين ظلمات الشدائد ، ويزيل عن كواهلهم ثِقَل المصائب ، وهو دليل على ثبات الإيمان في القلب ، وعلى قوة اليقين في صدور المؤمنين الصابرين ،عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال : قال المصطفى عليه الصلاة والسلام حين قال : ( الصبرُ نصف الإيمان واليقين الإيمان كله ) رواه الطبراني .
لقد أكرم الله هذه الأمة ، وفضلها على سائر أمم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، وضرب بها المثل الصالح للخلق أجمعين . ولْنستمع لأبي الدرداء رضي الله عنه يقول : سمعتُ أبا القاسم صلى الله عليه وسلم يقول : ( إنَّ الله قال : ياعيسى إني باعث من بعدك أمة إن أصابهم مايحبون حمدوا ، وإن أصابهم مايكرهون احتسبوا وصبروا ولا حلم ولا علم ، قال : يارب كيف يكون هذا ولا حِلمَ ولا علم !! قال : أُعطيهم من حلمي وعلمي ) رواه الحاكم وقال : صحيح على شرط البخاري . فهذه مكانة الأمة المؤمنة الصابرة عند ربها سبحانه وتعالى ، ويحق لها أن تفتخر ، ولا يحق لها أن تتخاذل أمام موجات النوازل مهما كانت ، فقد تقتلع عواصفُ المحنِ الأغصانَ والأوراقَ اليابسة ، ولكنها لن تقتلع الجذور الراسيات ، وسرعان ماتنمو وتكبر ــ تلك الجذور ــ وتمتد وتورق وتزهر ، لتيعد للدوحة نضارتها وربيعها الذي لاتأنس الدنيا وأهلها إلا بظلاله ، وما في ظلاله من خير .
أجل ... وبشِّر الصابرين الذين يريد ربُّهم جلَّ وعلا أن يصافيهم ، والمصافاة دليل المحبة والاصطفاء ، وهذا الاصطفاء ــ بهذه الطريقة ــ دليل على أن الحياة الدنيا لاقيمة لها في ميزان الله ... عن أنس رضي الله عنه قال : قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم : ( إذا أحبًَّ الله عبدا ، أو أرد أن يصافيه صبَّ عليه البلاء صبًّا ، وثجَّه عليه ثجًّا فإذا دعا العبدً قال : ياربَّاهُ . قال الله : لبيك عبدي لاتسألني شيئا إلا أعطيتُك إما أن أُعجله لك وإما أن أدخره لك ) لا أعلم مكانة أعلى من هذه المكانة ، ولا منزلا يتبوَّأه مؤمن يوم القيامة أعزَّ من هذا المنزلة ، فلا جزع ولا نكوص من مصيبة أو نازلة ،والابتلاء مدرسة ربانية للنجاح وللرقي على مدارج الرضوان الإلهي ، فعن محمود بن لبيد رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إذا أحبَّ الله قوما ابتلاهم ، فمن صبر فله الصبر ، ومن جزع فله الجزع ) رواه أحمد ، ومحمود في صحبته خلاف والله أعلم . وهكذا يكون الجزاء على قدر عظم البلاء . وقد يختار الله لهذه المنازل الفردوسية العالية أناسا من خلقه ، فيبتليهم بما شاء من أنواع البلاء ، ويُصبِّرُهم بفضله وكرمه ، ثم يبلغهم تلك المنازل ، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إنَّ الرجل ليكونُ له عند الله المنزلة ، فما يبلغها بعمل ، فما يزال يبتليه بما يكره حتى يبلغه إياها ) رواه أبو يعلى وابن حبان . ولقد اختار المؤمنون والمؤمنات الصبر على المكاره طمعا برحمة الله ومغفرته ، وما أعد للصابرين و للصابرات من تلك المنازل ، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : جاءت امرأة بها لَمَمٌ ( شيء من الجنون ) إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : يارسول الله ادعُ الله لي . فقال : ( إن شئتِ دعوتُ الله فشفاك ، وإن شئتِ صيرتِ ولا حساب عليك ) . قالت : بل أصبرُ ولا حساب عليَّ . رواه البزار وابن حبان . وهكذا يكون للصبر هذه المكانة ، بل إن النبيَّ صلى الله عليه وسلم ضرب المثل الحسيَّ للناس ‘ فقد أتى على شجرة ومعه بعض أصحابه رضي الله عنهم أجمعين فهزَّ الشجرة حتى تساقط ورقها ماشاء الله أن يتساقط . ثم قال صلى الله عليه وسلم : ( لَلْمصيباتُ والأوجاعُ أسرعُ في ذنوب ابن آدم مني في هذه الشجرة ) خرَّجه أبو يعلى وابن أبي الدنيا بإسنادهما عن أنس بن مالك رضي الله عنه . وحسب الصَّبر يوم القيامة أن يأتي ووجهه أبيض في يوم تسود فيه الوجوه ، فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( المصيبةُ تبيِّضُ وجهَ صاحبِها يوم تسود الوجوه ) رواه الطبراني . وما أجمل وأكمل وأسمى تلك المداعبة بين العبد وربه حيث يكون العبد محبوبا عند مولاه ، عن أبي أُمامة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إن الله عز وجل ليقولُ للملائكة : انطلقوا إلى عبدي فصبوا عليه البلاء صبا ، فيحمد الله ، فيرجعون فيقولون : ياربنا صببنا عليه البلاء صبا كما أمرتنا ، فيقول : ارجعوا فإني أحب أن أسمع صوتَه ) رواه الطبراني .
في الصبر تكفير للسيئات ، وعُلو في المنازل والدرجات ، وتبييض للوجوه في ظلمة المحشر ، والصبر عند أهل الحق من أهل الدعوة من العلماء والمجاهدين ينفي خواطر الوهم والتصورات الخاطئة ، لأنه نابع من حقائق الإيمان والتوحيد ، ولا يجعلهم في حيرة من أمرهم ، فالمصائب مقدرة من الله عليهم لاصطفائهم في حمل القيم الإسلامية لأمتهم ولسائر الناس ، والصبر من ضوابط الإيمان في منهج الله القدير ، وهو دليل على الثبات في مواجهة المحن ، وفي مقارعة أعداء الأمة ، وفي ذلك تحقيق لكرامة المؤمن ، وكرامة الأمة المسلمة ، وهذا هو الاستعلاء على الشر والأذى ، استعلاء بالإيمان والصبر ، وبالتجرد لله وحده ، حيث صفاء النفس وسُمُو الروح ، وحيث بذل الطاقات في سبيل الله رب العالمين .
إن المؤمنين بالله وبمنهج الله من أبناء الأمة لجدير بهم أن يتحلوا بقيم الصبر ، ليثبتوا معنى اعتدادهم بالله عز وجل ، وليجددوا النظرة الإيجابية لحملة الدعوة وهم يواجهون الحياة ، ويواجهون ضعاف الإيمان من المسلمين ، ولكي يعيدوا الوجه المشرق لإسلامنا في زمن المكاره . يقول الله تعالى : ( ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشِّر الصابرين ) 155/ البقرة ، ويقول المصطفى صلى الله عليه وسلم : ( مايصيب المسلمَ من نصب ولا وصب ولا هم ولا حزن ولا أذى ولا غم حتى الشوكة يشاكها إلا كفَّر اللهُ بها خطاياه ) متفق عليه .