خواطر حول فضائل الأعمال في ذي الحجة

خواطر حول فضائل الأعمال في ذي الحجة

نبيلة الخطيب

يحسن أن نقف في الأيام المباركات "العشر الأول من ذي الحجة" مع الحديث الشريف الخاص بها، لما تضمنه من معان جليلة.

عن ابن عباس رضي الله عنهما قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

"ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله عز وجل من هذه الأيام، قالوا، يا رسول الله، ولا الجهاد في سبيل الله؟! قال: ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجل خرج بنفسه وماله ثم لا يرجع من ذلك بشيء" رواه البخاري وغيره.

إن أول ما يلفت الانتباه في هذا الحديث الشريف قول الصحابة: "ولا الجهاد في سبيل الله؟!" بصيغة الاستفهام التعجبي، حيث إن الجهاد عند المسلمين لا يعدله شيء فهو ذروة سنام الإسلام، به الدين يحفظ والأرض تحرس والعرض يصان، فهو الحصن والسياج وبه تنال إحدى الحسنيين: الأجر والمغنم، ويتخذ الله به من عباده الشهداء حيث الرتبة التي لا تسابقها سوى رتبة النبوة... وبه يرهب جانب الأمة من أعدائها وأعداء الله وآخرين من دونهم يعلمهم الله، إلى آخر ما هنالك من معان أدركها الصحابة وكذلك المسلمون في كل زمان فحق لهم أن يسألوا متعجبين هذا السؤال.

ونحن بدورنا نحاول أن نعمل عقولنا في فهم الحديث، وهذه مزية انفرد بها الإسلام أنه دين الفهم العميق والفقه الدقيق، لا يحجر على العقول، ولا يعطلها بل يأمرها بالتفكر والتدبر والتفهم.. وهذا سر عظمة الإسلام وتجدده وخلوده.

ونعود إلى حديثنا ونسأل بدورنا: كيف يكون العمل الصالح الوارد في رواية أخرى "فأكثروا فيهن من التسبيح والتحميد والتهليل والتكبير" أحبَّ إلى الله تعالى من الجهاد؟ فنقول:

أولاً- إن الحديث قيد الحكم وحدده "في هذه الأيام".

ثانياً- إن الله يخلق ما يشاء ويختار لحكم ندركها ولا ندركها، وفي هذا نسلم تسليماً، فالله تعالى خلق الكون واختار الأرض مسكن خليفته الإنسان، وكرم هذا الإنسان وأسجد له ملائكته، واختار من الإنسان سيد ولد آدم محمداً صلى الله عليه وسلم، واختار من الزمان شهر رمضان، ومن رمضان لياليه ومن لياليه ليلة القدر، ومن الليالي والأيام للعمل الصالح اختار سبحانه العشر الأوائل من ذي الحجة، ومنها يوم عرفة، وختامها عيد الأضحى وما يتقرب فيه العبد من هدي "لا ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم"، جعل الله سبحانه العمل الصالح أحبَّ الأعمال إليه، وأقسم بلياليها العشر، وحسبها تشريفاً وتعظيماً وتميزاً" والفجر وليال عشر" وهذه نماذج من الاختيارات الإلهية نكتفي بها.

ثالثاً-  إن هذه الأعمال الصالحة – مع تحديدها في هذه الأيام وليس على إطلاقها – مقدمة على الجهاد في حالين: أولاهما حال السعة والتمكين والقوة والغلبة للمسلمين، وأخراهما إذا كان المسلمون مبادئين أعداءهم بالغزو والفتوح، وبيان ذلك أمر النبي عليه السلام لرجل جاءه ليأذن له في الخروج للغزو مع المجاهدين أن يرجع إلى والديه ليجاهد فيهما.

أما إذا غزي المسلمون واعتدي على أوطانهم ودينهم فعندها يتعين الجهاد، فيخرج الابن بغير إذن أبيه والمرأة بغير إذن زوجها والعبد بغير إذن سيده...، فأي عمل بعدئذ يقدم على الجهاد؟! يصبح الجهاد أفضل الأعمال حتى في هذه الأيام العشرة.

يقول تعالى:

)يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير وصدٌّ عن سبيل الله وكفرٌ به والمسجد الحرام وإخراجُ أهله منه أكبرُ عند الله والفتنة أكبر من القتل(.

فيحرم القتال في المسجد الحرام والأشهر الحرم ولكن الصد عن دين الله وفتنة الناس عن دينهم ورد العدوان أكبر.. )اقتلوهم حيث ثقفتموهم وأخرجوهم من حيث أخرجوكم والفتنة أشد من القتل ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه فإن قاتلوكم فاقتلوهم كذلك جزاء الكافرين(.

وقد أمر النبي عليه السلام بقتل نفر من المشركين ولو تعلقوا بأستار الكعبة لشناعة جرمهم!!

إن هذا الاستطراد في هذه المسألة نراه ضرورياً حتى لا نمر على النصوص مرور الكرام من غير وقوف وفهم وخاصة في زماننا هذا الذي نحن أحوج ما نكون فيه إلى فهم وفقه نصوصه.

رابعاً: إن ما سبق من بيان لا ينقص أبداً من قيمة العبادة أو يهمشها –كيف والحديث يجعل العمل الصالح في هذه الأيام أحب إلى الله من كل عمل- فالمطلوب من المسلم أن يتزود في أيام مخصوصة معينة ويجتهد فيها أكثر من غيرها لما لذلك من أثر على مجمل حياته وعمله منها الجهاد والدعوة والمعاملة.

فالمسلم  في مسيرته بحاجة إلى زاد أو جرعات منشطة أكثر من اعتيادية، ولنضرب لذلك مثلاً: إن الإنسان يمكن أن يعيش بأي طعام وغذاء ولكنه لا يلبث أن يهزل وتخور قواه إذا لم يراع في غذائه المكونات الأساسية لبناء الجسم والذي له تأثير أكيد في البناء العقلي والنفسي والعاطفي،وهذه قضية لا ينبغي أن يغفلها المربون إذا أرادوا جيلاً متكاملاً في وعيه وعقله ونفسه وسلوكه وصحته، وقد ثبت أن للغذاء المتوازن للمرأة حاملاً ومرضعاً أكبر النتائج في صحة تكوين الأبناء وصحتها هي.

ونعود لنقول: إن الأمة المجاهدة والناهضة والبانية أحوج إلى زاد متواصل يدفع بها إلى الأمام وينهض بها إلى معارج الفلاح.. ونحن أمة تحمل على عاتقها أعظم رسالة وأرقى حضارة إلى "العالمين" لتخرج البشر بها من الظلمات إلى النور ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة.. إنه زاد التقوى والعمل الصالح ودوام الصلة بالله تعالى، فالذي يعجز عن قيام ليلة في صلاة ودعاء مثلاً لهو أعجز عن أن يقوم ليلاً مرابطاً في سبيل الله، والذي يعجز عن صيام يوم لن يقوى على ملاقاة العدو والصبر على مجالدته..

وهذا ملمح وفهم نستفيده من هذا الحديث الشريف وقد ورد ما يشبهه عندما سئل الحبيب عليه السلام عن أحب الأعمال إلى الله تعالى: فقال: الصلاة على وقتها.. ثم بر الوالدين.. ثم الجهاد في سبيل الله، فمن كانت بالله صلته مقطوعة وبوالديه مبتوتة هل يرجى منه خير في جهاد أو غيره؟ إنه البناء والتربية التي تبدأ بالنفس وتنتهي بالأمة رحمة للعالمين.

خامساً- يقول الحديث "العمل الصالح" وإن أي عمل لا يكون صالحاً إلا بأمرين: أولهما الموافقة للشرع "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد".

وثانيهما الإخلاص "إنما الأعمال بالنيات" وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين".

وعندما ذكر الحديث العمل لم يشترط إلا الصلاح، أما العمل فهو باب مفتوح على مصراعيه صغر العمل أم كبر، وهذا يدخلنا إلى موضوع مهم جدير بالوقوف عليه والاعتناء به حتى يتجلى للكثيرين، ألا وهو مفهوم العبادة ونحن نعيش أجواءها في الأيام المباركات، فالعبادة باختصار هي كل عمل صالح يعود نفعه وأثره الإيجابي على النفس والأسرة والمجتمع والأمة والكون، فكل عمل صالح عبادة في كل الأيام وعلى الأخص في الأيام العشرة المباركة لورود النص فيها، حتى يعرف المسلم أن كل حركة وسكنة مع التوجه إلى الله عمل صالح "عبادة"، فلا ينصرف الذهن عن سماع كلمة عبادة إلى العبادات المخصوصة التي يعرفها الجميع من صلاة وصيام وزكاة وحج.. فقط

والآية المحكمة الجامعة في هذا الشأن ولم تستثن نفساًَ أو نبضة أو ثانية من الزمان إلا ودخل فيها مفهوم العبادة العام.

)قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين(.

فالصلاة والنسك بالمعنى الخاص والحياة والممات بالمعنى الأعم الأشمل الأوسع.. الحياة بحركتها والموت بسكونه، والنوم من معاني الموت.

وقد ذكر النبي الكريم أمثلة على سبيل البيان والتمثيل لا الحصر:" في كل تسبيحة صدقة.. وأمر بالمعروف صدقة ونهي عن المنكر صدقة.. وفي بضع أحدكم صدقة.. واللقمة تضعها في في زوجك لك بها أجر.. وإماطة الأذى عن الطريق صدقة.. والحياء من الإيمان.. ودخل رجل الجنة بكلب سقاه.. ودخلت النار امرأة في هرة حبستها حتى ماتت.. وتبسمك في وجه أخيك صدقة.. "والمسلم يتوجه بالدعاء إذا دخل منزله وإذا خرج منه وعند النوم وفي الأرق وعند القيام من نومه وعند دخول المسجد والخروج منه وعند دخول الحمام والخروج منه وإذا لبس أو أكل أو شرب أو دخل السوق.. إلخ

وهكذا نرى أن العبادة والعمل الصالح هي حياة المسلم بكل تفاصيلها )أومن كان ميتاً فأحييناه وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها( )استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم( هذا ما جال في الخاطر سريعاً وقت قراءة الحديث الشريف وبالله التوفيق.