الأعمار المباركة
عبد العزيز كحيل
توفي الرسول _ صلّى الله عليه وسلّم _ عن 63 سنة، وهو عمر ليس بالطويل لكنّه أحدث فيه أعظم تغيير في حياة البشريّة، إذ لم يلتحق بربّه إلاّ وقد أخرج الناس من الظلمات إلى النور وأرسى دعائم التوحيد وزلزل صروح الشرك وأزال الخرافة ومكّن للعلم والمعرفة وأطاح بنظريّات الحكم الإلهي وعبادة عناصر الطبيعة وحرر البشر من جور الأديان وأذاقهم حلاوة عدل الإسلام، فانساب النور الّذي جاء به من جزيرة العرب لتلامس أشعّته أقطار المعمورة.. هذا هو العمر المبارك الّذي أشار إليه ابن العطاء في حكمته: "رب عمر اتسعت آماده وقلت أمداده ورب عمر قليلة آماده كثيرة أمداده ، من بورك له في عمره أدرك في يسير الزمن من منن الله تعالى ما لا يدخل تحت دوائر العبارة ولا تلحقه الإشارة "
وقد اقتضت حكمة الخالق عزّ وجلّ أن يكون هذا سنّة في خلقه، فتجد من يطول عمره ويسوء عمله، ومن يعمر ثمانين حولاً وأكثر ثمّ يموت من غير أن يترك خلفه أيّ أثر طيّب فكأنّه لم يولد ولم يعش فوق الأرض، وتجد في المقابل أفذاذاً اصطفاهم الله بحكمته، عاشوا مدداً قصيرةً لكنّهم ملؤوها خيراً وعطاءً وبذلاً وكأنّ يوم أحدهم بألف يوم أو يزيد، وكأنّ سني حياتهم لم يقتطع منها النوم شيئاً ولم تخالجها راحة أو وعكة صحّيّة تحول دون العمل والعطاء.
وأسوق أمثلة من أسماء مشهورة في تاريخنا الإسلامي القديم والحديث ترك أصحابها بصماتهم في ميادين العلم والجهاد والتضحيّة والإصلاح والتجديد رغم قصر أعمارهم:
1. عمر بن عبد العزيز: كان هو أول مجدد في تاريخ الإسلام، فقد رجع بالخلافة ونظام الحكم إلى عهد الراشدين حتّى أجمع المسلمون أو كادوا أنه خامس الخلفاء، وردّ المظالم وبسط سلطان العدل وكسر أنياب الملك العاض وأحيى الأخلاق الربانية وقمع التملق والمحاباة والظلم، وكان معجزة من ناحيتين: فخلافته لم تدم سوى سنتين ونصف سنة، وتوفي وعمره ثمانية وثلاثون عاماً ! هكذا بارك الله في مدة خلافته وفي عمره القصير، في حين امتدّت أعمار حكام وملوك وحكموا عشرات السنين ولا تكاد تجد في حياتهم أو حكمهم إنجازاً مباركاً ولا صفحة ناصعة.
2. الإمام الشافعي: هو مجدد الإسلام في زمانه الّذي أصّل الأصول وقعّد القواعد وأنشأ فلسفة التفكير الإسلامي المنبثقة عن القرآن والسنّة، وألّف سفريه "الأم" و"الرسالة" الّلذين لا يستغني عنهما باحث في أصول الفقه ولا دارس للشريعة، ثم هو مؤسّس المذهب المنسوب إليه كما كان حجّة في العربيّة وإماماً في الشعر، أقام بالعراق فانتهت إليه الإمامة في الدين ثم رحل إلى مصر وأقام بها فأسس مذهبه الجديد وانتهت إليه الإمامة مرة أخرى ،لم يعمر _ رحمه الله ورضي عنه _ سوى 54 سنةً.
3. الإمام مسلم: إليه يعود الفضل _ بعد الإمام البخاري _ في تحرير صحيح الأحاديث النبويّة الشريفة وحفظ السنّة حتّى غدا كتابه "صحيح مسلم" يعتبر أصح كتابين بعد القرآن الكريم، وأعظم بهذا عملا تفنى فيه الأعمار ويرتفع مقام صاحبه، وقد عاش 48 سنةً.
4. الإمام النووي: كان عالماً موسوعيّاً اشتغل بعلوم شرعيّة شتّى فبرع فيها جميعاً وألّف فيها مجلّدات فأتقن في كلّ ما كتب وصار إماماً فيه، ومازال مرجعاً في الأصول والفقه والحديث والرقائق، فكتابه "المجموع" مرجع في علم الأصول كما أن أي دارس للحديث لابدّ له من الرجوع إلى "شرح صحيح مسلم"، وقد كتب الله تعالى الشهرة لثلاثة من كتبه لا تخلو منها مكتبة عامة أو خاصّة وهو مرجع الحلقات المسجديّة ودروس الإرشاد وهي:
§ رياض الصالحين.
§ الأربعون النوويّة.
§ الأذكار.
ثم هو _ رحمه الله _ أحد أعمدة الفقه الشافعي. توفي وعمره 44 سنةً...وذكروا أنه لم يبدأ التأليف إلا بعد بلوغه الثلاثين !!!
5. حجة الإسلام الغزالي: كان حقّاً وحيد زمانه وفريد أوانه وهو من معجزات هذا الدين، فقد برع في فنون شتّى حتّى نال فيها الإمامة، و ملأ الدنيا وشغل الناس حيّاً وميّتاً، درس الفلسفة الإغريقية حتّى نبغ فيها ثم كرّ عليها وعلى أعلامها بحججها وانتصر للإسلام ومازال كتابه "تهافت الفلسفة" مرجعاً يشفي الغليل، واشتغل بعلم الأصول فسبق فيه سبقاً بعيداً وكتبه فيه مازالت شواهد حق – وعلى رأسها المستصفى - وكان إماماً في الفقه الشافعي ، ثم كان أشهر أستاذ في المدرسة النظامية الّتي أسّسها أهل السنة ببغداد بعدما أسّس الفاطميون الجامع الأزهر بالقاهرة، وقد ذكروا أن درسه فيها يحضره 400 عمامة (أي عالماً)، ثم اعتزل الناس واختار حياة الزهد والعزلة ورجع منها بموسوعته الفذّة "إحياء علوم الدين" الّتي درج العلماء على الاقتباس منها وخدمتها والإشادة بها. وقد عدّه العلماء مجدد المائة الخامسة.. لم يعش رحمه الله سوى 52 سنة.
6. الإمام ابن باديس: قيضه الله تعالى ليكون رائد النهضة وقائد الإصلاح الديني والاجتماعي في الجزائر، قضى حياته منذ شبابه الباكر وتخرّجه من جامع الزيتونة في نشر العلم وتحصين الأمة بالأخلاق الإسلامية ثم أسّس جمعيّة العلماء المسلمين ليخوض من خلالها معركة تربويّةً ثقافيّةً محكمة الآليات والأهداف يواجه بها الاحتلال الفرنسي، فأنشأ المدارس في طول البلاد وعرضها يتعلّم فيها الذكور والإناث وفق مناهج مستقلّة عن برامج الاستعمار ترتكز على اللغة العربية والدين الإسلامي، كما أسّس عدداً من الجرائد والمجلاّت الدوريّة لبث الوعي ومحاربة الخرافة والبدع وتحسيس الجزائريين بشخصيتهم، وكان يلقي يومياً ما لا يقلّ عن 12 درساً في شتّى العلوم من بينها تفسير القرآن الكريم الّذي أتمّه في مدة 25 سنةً وسمّاه "مجالس التذكير من كلام العليم الخبير"، وشرح الأحاديث النبوية وسمّاه "مجالس التذكير من كلام البشير النذير" إلى جانب الإفتاء وغيره من الأنشطة العلمية، وبذلك حفظ للجزائر دينها ولغتها وشخصيتها الّتي كانت فرنسا تستهدفها لإلغائها ومحوها، مات ولم يكمل 51 من العمر.
7. الإمام الشهيد حسن البنا: أسّس جماعة الإخوان المسلمين بعد سقوط الخلافة الإسلامية لتتولّى الدعوة إلى الإسلام ومقاومة الهجمة التغريبيّة الشرسة، وطاف مصر مدينةً مدينة وقريةً قرية وألقى آلاف الخطب وكتب ما لا يحصى من الرسائل يعرض محاسن الإسلام ويرد شبهات الأعداء والمغرضين، وانتشرت شعب الجماعة وفروعها في مصر كلّها ثم في العالمين العربي والإسلامي ثم لم يكد يخلو منها بلد في القارات الخمس، ومهما اتّفق الناس مع حسن البنا أو اختلفوا فلا يسعهم إلاّ أن يعترفوا بتأثيره الواضع في ميادين الدعوة والسياسة على الصعيد المحلّي والإقليمي والعالمي من خلال شخصه وجماعته الّتي أصبح لها من التأثير ما لا يخفى على أحد... كان الملك فاروق يعتبره أكبر تهديد لعرشه، وكان الإنجليز الّذين يحتلّون مصر يعدّونه خطراً على وجودهم ومصالحهم، أمّا اليهود فيكفي أن نعلم أن كتائب الإخوان ألحقت بهم من الأذى والخسائر والرعب ما لم تفعله الجيوش العربية السبعة الّتي دخلت الحرب في فلسطين.
وقد ترك _ رحمه الله _ تراثاً كبيراً يتمثّل في تفسير القرآن والفتاوى والكتابات الدعوية والتربوية والفكريّة... و كان يشتغل معلما بإحدى المدارس طول مشواره الدعوي إلى أن استقال في السنين الأخيرة من حياته فلم يسجل عنه غياب واحد ولا تأخر عن الدوام وكأن أوقاته ليست كأوقات الناس ...مع كل هذا العطاء الفكري والعملي مات وليس له من العمر سوى 43 سنةً.
وبعد، فهذه مجرّد أمثلة لأفذاذ أحسنوا اغتنام الأوقات وانتهاز الفرص واستفراغ الجهد فحوّلوا أعمارهم القصيرة إلى مصدر لأنواع من الخير، فعلوّ مقامهم نالوه بصالح أعمالهم، وقد برهنوا _ بفضل الله _ أن العبرة بالبركة في العمر لا بطوله، فكأنّما كلّ ليلة من أعمارهم ليلة القدر كما قال أبو العباس المرسي..." وفي ذلك فليتنافس المتنافسون " – سورة المطففون 26