شيخي ومكاسبنا من غزة ..

محمود القلعاوي

إمام وخطيب بوزارة الأوقاف

[email protected]

ذهبت إلى شيخي بعدما انقطعت عنه شهراً كاملاً  وشيخي لمن لا يعرفه قد جاوز الستين له لحية بيضاء ترى وجهه يتلألأ من النور .. أجد قوة ما أشدها في كلماته .. ما أن دخلت عليه حتى رأيت في وجهه بسمة جعلت وجهه كبدر ليلة تمامه .. فقبّلت يده وجلست بجواره .. فربت على كتفي وسألني عن غيبتي طوال ما مضى .. فأجبته بأنني كنت في حالة إحباط   لا يعلم بها إلا الذي خلقني .. فالصور التي أراها عن غزة تمزق قلبي .. الأطفال قتلت .. والمساجد هدمت .. والأعراض انتهكت ..  رباه ما الذي حل بنا .. أين العروبة ؟ أين النخوة ؟! .. ماذا لو سألني ربي عما قدمته لإخواني في غزة .. نعم كنت محبطاً .. فاقد الكثير من نشاطي وحالي .. أبحث عن البسمة فلا أجدها .. في مرة أخذني الغم  فهمت على وجهي في الطرقات لا أعلم لي  سبيلاً .. فسألته مهموماً مغموماً:-

وماذا بعد كل هذا ؟

فنظر إلىّ شيخي ، فوجد حزناً ما أعظمه !! .. وغضباً ما أشده !!  .. وألماً ما أصعبه !! ..فوضع يده على كتفي بحنان ورفق ، ثم قال :- يا ولدي لابد من وقفات أقفها معك حول مكاسب من أحداث غزة وعلى كثرتها أذكر لك منها بعضاً :-

المكسب الأول :- عزة رأيناها وتعلمناها :- فغزة أرض العزة التي أعزتنا وبثت فينا روح العزة .. يا ولدي ما رأيناه من صمود أهلنا في غزة هاشم .. ما رأيناه من صبر نساء ورجال غزة ، ما رأيناه من احتساب أهل الشهداء وخصوصاً النساء ، كان شيئاً عظيماً .. كل هذا يا ولدي أحيا هذه العزة في الأمة من بعد سنواتٍ عجاف من الذل والإحباط والانكسار ،  تذكرنا أن :- ( وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِين ) َسورة المنافقون: 8  .. كيف لا ونحن نشاهد هذا  الفلسطيني الأعزل من كل سلاح إلا سلاحَ الإيمان والتوكل يقاوم المحتل الصهيوني بكل عزة وشهامة ، وترسم النساء قبل الرجال والأطفال قبل الكبار صورًا من الشهامة والعزة .

المكسب الثاني :-  عودة إلى الله :- يا ولدي شكر الله لنا غزة .. عدنا إلى الله في أيامها .. فقد صام من صام .. وصام من صام .. والله اذكر أنني دعيت لصلاة قيام ليل بالمسجد قبل الفجر بساعة لندعو لغزة الحبيبة .. فخرجت وكلي نشاط وأنا في طريق أخذت أردد شكر الله لك يا غزة أخذت بيدنا إلى ربنا .. فالحمد لله الذي علمنا :- ( وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم ) .. فشكر الله لك يا غزة .

 المكسب الثالث :- عودة لحلمنا الغائب :- نعم يا ولدي عودة للجهاد .. دعك من الأقزام وهم يتحدثون عن الجهاد على أنه إرهاب ..  الجهاد هو الجهاد يا ولدي .. الجهاد أفضل الأعمال ، جهاد مغفرة الذنوب عند أول قطرة .. جهاد اللون لون الدم والريح ريح المسك .. جهاد الزفاف للحور العين .. وسأحكي لك قصة على لسان أحد المجاهدين واسمه أبو العز:- " تسعة أيام عشتها بليلها ونهارها داخل الكمين لرصد تحركات الآليات والدبابات المتمركزة على جبل الريس شرق غزة قبل تنفيذ مهمتي المكلَّف بها، وهي مباغتة الدبابات بقذائف الـ ( آر بي جي ) "، ويضيف :- " كنت ضمن المجموعات الإستشهادية ، وعلى أتم الجاهزية والتواصل مع القيادة ، وبانتظار اللحظات الحاسمة " . ويضيف أبو العز وهو يُقبِّل سلاحه الـ ( آر بي جي ) :- " وكأن الله استجاب لدعائي ؛ حيث بدأت العشرات من الدبابات وناقلات الجند في التقدم تحت ستارٍ من القصف المدفعي الكثيف ، وقنابل دخانية كثيفة للتعمية على رجال الرصد التابعين المنتشرين" الله أكبر على هذا .. اللهم ارزقنا شهادة في سبيلك .

المكسب الرابع :- الأمهات وما أدراك ما الأمهات :- أليس هذا الجيل تربى على يد أمهات تناطح السحاب في تربيتها .. وهذا نموذج لكلمات  كانت تخرج من قلوبهن قبل ألسنتهن :-  الحمد لله الذي أكرم أولادنا بالشهادة " .. " البارحة استشهد أبي واليوم أخي وغداً أبي؟؟ " .. " وكلنا فداءٌ للإسلام ، فداءٌ لفلسطين " .. " الحمد لله اطمئنوا نحن جميعاً بخير".. يا ولدى إنها نفس الأمهات التي تخرج على يدها صلاح الدين ومحمد الفاتح .. يا ولدي نعم نحن بحاجة إلى  أمهات أشباه نساء أهل غزة البواسل ، نحن بحاجة إلى نساء يدفعن أولادهن دفعاً إلى الشهادة ، نحن بحاجة إلى أن نتعلم من أهل غزة ؛العزة والكرامة التي انتهكت من قبل أهلها قبل أعدائها ، متى نترك حبنا للحياة ونتمنى الشهادة في سبيل الله !؟ .. يا ولدى نحن بحاجة إلى أن نربي أولادنا على النضال كما ربى أهل غزة أولادهم ، نحن بحاجة إلى أن نمنع أهلينا وأولادنا من هذه المسلسلات التخريبية المشوهة للإسلام .. نحن بحاجة إلى أن نربي أولادنا تربية الرجال ، تربية الفضيلة تربية العقيدة الحقة ..

المكسب الخامس :- وحدة الأمة :- نعم يا ولدي غزة وحدة أمتنا .. بعد مزقتها الأهواء وشتتها الانتماءات، وعصفت به رياحُ الفرقةِ والتنازع ،  كل هذه الأدواء باتت تنحصر دوائرها ، وتتسع دوائرُ وحدة الأمة ، شكر الله لك يا غزة  جمعت شملنا ، ووحدت صفنا ، قضية فلسطين تشغلنا جميعًا ، والانتصار للمظلومين شعارنا جميعًا ، لقد بتنا نسمع لهجةَ واحدةً وخطابًا مشتركًا بين المسلمين وإن تباعدت الأوطان واختلفت اللغات .. الأمة بكل فصائلها وشرائحها ومستوياتها الفكرية والاقصادية تتحدث عن قضية واحدة ، تتفق فيها على تشخيص المشكلة وتتفق كذلك في حلولها ، ( إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَة ) سورة الأنبياء: 92

يا ولدي المكاسب كثيرة ولكن يكفينا ذلك .. فقمت من عندي شيخي وقد ملأ الأمل قلبي ووجداني وأردد :- وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم ..