بشروا ولا تنفروا
محمود القلعاوي
إمام وخطيب بوزارة الأوقاف
بُعث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بشيراً لأتباعه ، نذيراً لأعدائه ، بل كانت مهمة الرسل لا تعدو هذين الوصفين : ( وما نرسل المرسلين إلا مبشرين ومنذرين ) سورة الأنعام: 48 ، وقد أمر الله عز وجل في كتابه بتبشير المؤمنين والصابرين والمحسنين والمخبتين .. في آيات كثيرة.
والمقصود بخلق التبشير:- التخلق بالصفات التي تستدعي الاستئناس والارتياح والتحبب وبث الأمل في القلوب ، والبعد عن أساليب التنفير ودواعي الانقباض ، حتى في التخويف من الله والترهيب من النار .
أساليب تبشير الحبيب
وكان من أساليب تبشير رسول الله صلى الله علي وسلم أنه يختار الوقت المناسب والقدر المناسب لأداء الموعظة والعلم كي لا ينفر الصحابة ، وفي ذلك يقول صلى الله عليه وسلم :- ( يسروا ولا تعسروا ، وبشروا ولا تنفروا ) رواه البخاري ، وعلق عليه ابن حجر بقوله :- ( المراد تأليف من قرب إسلامه ، وترك التشديد عليه في الابتداء ، وكذلك الزجر عن المعاصي ينبغي أن يكون بتلطف ليقبل ، وكذا تعليم العلم ينبغي أن يكون بالتدرج ؛ لأن الشيء إذا كان في ابتدائه سهلاً حبب إلى من يدخل فيه ، وتلقاه بانبساط ، وكانت عاقبته غالباً الازدياد )
ومن حكمته صلى الله علي وسلم أنه استعمل أساليب التبشير في إيقاظ الهمم والتنشيط للطاعة ، ومن ذلك قوله :- ( بشر المشائين في الظلم إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة ) رواه ماجه ، وصلى العشاء صلى الله علي وسلم مرة بأصحابه ، وقبل أن ينصرفوا قال لهم :- ( على رسلكم ، أبشروا ، إن من نعمة الله عليكم أنه ليس أحد من الناس يصلي هذه الساعة غيركم ) رواه البخاري ، قال أبو موسى الأشعري : فرجعنا ففرحنا بما سمعنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم .
حاجتنا للتبشير لا للتنفير
ويحتاج الإنسان في حالات الاضطراب إلى التبشير بما يزيل عنه دواعي الاضطراب ، فبعد نزول الوحي على رسول صلى الله عليه وسلم ذكر لخديجة رضي الله عنها ما جرى له ، وأخبرها بخوفه على نفسه من هذه الظاهرة الجديدة، فبشرته بأن له من سابقة الخير ما يستبعد معها مكافأة بمكروه، فقالت :- ( كلا ، فو الله لا يخزيك الله أبداً ، فو الله إنك لتصل الرحم ، وتصدق الحديث ، وتحمل الكل ، وتكسب المعدوم ، وتعين على نوائب الحق ) ، وكان هذا شأن رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أمته ليزيل عنها دواعي القلق على مستقبل هذا الدين :( بشر هذه الأمة بالسناء والرفعة والدين والنصر والتمكين في الأرض ) رواه الإمام أحمد
وحتى في حالات الضعف البشري لم يكن صلى الله عليه وسلم ليعنف أصحابه بفظاظة وغلظة ، وهم الذين سمعوا بقدوم أبي عبيدة بجزية البحرين ، فاجتمعوا على صلاة الفجر، وتبعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الصلاة ، ففهم ماذا يريدون ، قال :- ( فأبشروا وأملوا ما يسركم ، فوالله ما الفقر أخشى عليكم ، ولكن أخشى أن تبسط عليكم الدنيا ) رواه البخاري.
والمؤمن محتاج في حال البلاء إلى من يكشف همه ، ويبشره بما يسره ، إما بفرج عاجل ، أو بأجر آجل ، ولقد وجد رسول صلى الله عليه وسلم أم العلاء مريضة فقال لها :- ( أبشري يا أم العلاء ، فإن مرض المسلم يذهب خطاياه ، كما تذهب النار خبث الحديد ) .
من صفات المؤمنين
والمؤمن بشير في مواقف الأسى يسري عن الناس أحزانهم ؛ بما يدخل البهجة إلى قلوبهم ، ويبعد الكآبة عنهم ، كتب زيد بن أرقم إلى أنس بن مالك يعزيه فيمن قتل من ولده وقومه ، فقال : أبشرك ببشرى من الله عز وجل ، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :- ( اللهم اغفر للأنصار، ولأبناء الأنصار ، ولأبناء أبناء الأنصار) .
ولقد بشر رسول الله صلى الله عليه وسلم الموحدين بالجنة جزاء التزامهم بكلمة التوحيد قولاً واعتقاداً وعملاً رحمة من الله سبحانه :- ( أبشروا ، وبشروا من وراءكم ؛ أنه من شهد أن لا إله إلا الله صادقاً من قلبه ، دخل الجنة ) ، وقال جبريل عليه السلام لرسول الله صلى الله عليه وسلم مبشراً المؤمنين الحذرين من صور الشرك كبيرها وصغيرها :- ( بشر أمتك أنه من مات لا يشرك بالله شيئاً ، دخل الجنة ) رواه البخاري
وفي توبة كعب بن مالك صورة عملية من صور التعاطف الاجتماعي والتهنئة بقول التوبة ، حيث ذهب إليه عدد من المبشرين ، فناداه أحدهم قبل أن يصل إليه :- ( يا كعب بن مالك ! أبشر ، يقول كعب :- فخررت ساجداً، وعرفت أن قد جاء فرج ) ، وتلقاه الناس فوجاً يهنئونه بالتوبة ويقولون له : ( لتهنك توبة الله عليك ) ، ولما سلم على رسول الله قال صلى الله عليه وسلم، وهو يبرق وجهه من السرور : ( أبشر بخير يوم مر عليك منذ ولدتك أمك ) .
وقد وعد الله الذين آمنوا وكانوا يتقون بأن : ( لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخر ) سورة يونس : 64
إلى إخواني الدعاة ..
( بشِّروا ولا تنفِّروا ويسِّروا ولا تعسِّروا ) ، هذا كلام الرسول المعصوم فيه إعلان صريح وخطاب واضح موجّه لحملة الإسلام ، معناه التبشير بالدِّين الجديد والتّيسير على الناس وعدم تنفيرهم بالغلظة والفظاظة ، بل دعوتهم بالحكمة والموعظة الحسنة وتذكيرهم برحمة أرحم الراحمين ، إن العلماء والدعاة وحملة الهم الإسلامي هم رسل سلام ورحمة في الحقيقة ، فإذا خالف أحدهم هذا المنهج وأصبح ينفِّر الناس بشدّته وقسوته ويقنّطهم من رحمة الله فإنما لخلل في نفسه هو ، وإلا فإن رسالة الإسلام رسالة حب وسلام ورحمة وهداية ، يقول الله تعالى ( وما أرسلناك إلا رحمةً للعالمين من كلمات الدكتور عائض القرنى .
وبعد ..
أفبعد كل هذه الإشارات يقبل أحدنا لنفسه أن يكون مصدر شؤم ، ومظنة تخذيل ، وإحباط أو تنفير ، أو قتل للقدرات ؟ أم نشيع البشرى ، وننشر التفاؤل ، ونحيي النفوس ونحرض على الخير، ونعين على المعروف ، ونستنهض الهمم إلى أن يكون كل منا بشيراً لإخوانه يحيي فيهم الأمل ويدفعهم إلى مزيد من العمل ..