صَفحَةٌ في الحُبّ
مصطفى حمزة
قدْ يُسيء إنسانٌ صالحٌ لصاحبِهِ عن غير قصدٍ أو سابقِ نيّة ، إنّما هي غضبة تتحكّمه لدقائق، أو حِدّةٌ تعتريهِ للحظات ، ثمّ يعودُ لأصلِ خُلُقِهِ وصلاحِهِ؛ فيعتذر لصاحبِهِ ويُصلحُ ما بينهما، ثم تنتهي هذه الحادثةُ ، وتغوص في النسيان .
لكنّها هي ذاتَها تحدثُ في زمن النبوّة، فتتحوّل إلى صفحةٍ في الحُبّ يُسجلّها التاريخ ، للتأمّل والتفكّر والتأسّي ! ذلك أنّ أيّامَ النبيّ مع صحابته مدرسة في الحُبّ ، حُبِّه لهم وحُبِّهم له ، مدرسةٌ سيبقى المسلمون – والناس - يتعلّمون ويتخرّجونَ فيها حتى قيامِ الساعة .
وهذه صفحةٌ من ذلكم السِّجلّ :
أبو بكرٍ رضي الله عنه – وكانَ فيه حِدّةٌ تعتريهِ أحيانًا - يقولُ لرجلٍ كلمةً يكرهها، فيهبُّ ضميرُهُ اليَقِظُ للحظتِها ولا يرضى إلاّ أن يقتصَّ منه الرجل . فيأبى الصحابيُّ الكريمُ أن يَردّ على حبيب الحبيب ، ولو بكلمة !
فماذا فعلَ بعدَها الصِّدِّيقُ ؟ سعى إلى الرسول ( يستعديهِ ) على الرجل ! يستعديه ؟ نعم بهذه الكلمة خوّفه حينَ لم يقتصَّ منه !وحكى للرسول عليه الصلاة والسلام ما جرى بينه وبين الرجل .
وحينَ يعجبُ نفرٌ من عشيرة الرجل سمعوا ما قال أبو بكرٍ له، ثمّ رأوه يُسرع إلى الرسول ليستعديَه عليه ؛ وَجِلَ قلبُه من أن يلتفتَ أبو بكرٍ فيراهم ينصرونه عليه ، فيغضب ويغضب رسول الله لِغَضَبِهِ ، فأين يذهب هو عندَها من غضبِ اللهِ عليهِ ؟!
كانوا يعرفونَ قَدْرَ أبي بكرٍ ، ومكانته في الإسلام ، وكانوا يُدركون مقامه عند صاحبِهِ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ، وكانوا يُوقِنون أنّهما كما يغضبان للهِ ، فإنّ اللهَ يغضبُ لغضبِهما !
ويسمعُ المُصطفى العادلُ للرجلِ كما استمعَ لأبي بكر . وهنا تهبُّ نسائمُ الحبّ النبويّ الكبير لِصاحبِهِ الصدّيق ، نسائمُ حُبٍ لاتقف في وجهِها هوجاءُ الكراهية له ، ولو تجمّعتْ في قلوب ملايين الموتورين الحاقدين ، من مئاتِ السنين .. حُبّ نَبَويّ فاضَ حتى ملأ قلوبَ المُسلمين أجمعين، فأحبّوه ويُحبونه بملء قلوبهم إلى يومِ الدّين ، ولو لم يكن ذلكَ إلاّ لأنه حبيبُ الحبيبِ لكفى ذلك سببًا ..
( قالَ ربيعةُ الأسلميُّ :" جَرى بيني وبينَ أبي بَكْرٍ كلامٌ فقالَ لي كلمةً كرِهتُها ونَدِمَ ، فقالَ : يا ربيعةُ رُدَّ عليّ مِثْلَها حتّى يكونَ قِصاصًا . قلتُ : لا أفعلُ . قالَ : لَتَقولَنَّ أو لأسْتَعْدِيَنَّ عليكَ رسولَ اللهِ صلّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ . فقلتُ : ما أنا بِفاعلٍ . فانطلَقَ أبو بكرٍ . وجاءَ أناسٌ من أسْلَمَ فقالوا لي : رَحِمَ اللهُ أبا بكرٍ، في أيّ شيءٍ يستعدي عليكَ وهو الذي قالَ لكَ ما قالَ ؟! فقلتُ : أتدرونَ مَنْ هذا أبو بكرٍ الصِّدِّيقُ ؟ هذا ثاني اثنين ، وهذا ذو شيبةٍ في الإسلام . إيّاكُمْ لا يلتفتُ فيراكم تنصروني عليه فيغضب ، فيأتي رسولُ اللهِ صلّى اللهُ عليهِ وسلّمَ فيغضب لِغَضبِهِ ، فيغضبُ اللهُ لِغَضَبِهما فيهلكُ ربيعة!
وانطَلقَ أبو بكرٍ وتَبِعتُهُ وحدي حتى أتى رسولَ اللهِ صلّى اللهُ عليهِ وسلّمَ ، فحدّثَهُ الحديثَ كما كانَ فرفعَ إليّ رأسَهُ فقالَ : " يا ربيعةُ ، مالكَ والصِّدِّيق ؟ " فقلتُ: يا رسولَ اللهِ كانَ كذا وكَذا ، فقالَ لي كلمةً كرهتُها ، فقالَ : قُلْ كما قلتُ حتى يكونَ قِصاصًا فأبَيْتُ . فقالَ رسولُ اللهِ صلّى اللهُ عليهِ وسلّمَ : " أجَلْ لا تردَّ عليهِ ، ولكنْ قُلْ : قدْ غفَرَ اللهُ لكَ يا أبا بكرٍ " ... )