تفْسيرُ القُرْآنِ بِالقُرْآَنِ، «المعذورون من الصِّيام»
تفْسيرُ القُرْآنِ بِالقُرْآَنِ
«المعذورون من الصِّيام»
يُعدُّ «الصِّيام» ركنًا أساسيًّا من أركان «الإسلام» في جانبه الدِّينيّ، وفرضه الله سبحانه وتعالى في «القرآن الكريم»، وجعله ميسَّرًا على النَّاس، لا مشقَّة، ولا تَعب، ولا نَصب، بخلاف ما يحاول كثيرٌ من المقلِّدين أن يُظهروه.
لكنَّ هذا الفرض لم يكن ملزمًا لـ«فئة» نصَّ عليها «القرآن الكريم»، وبيَّنها أوضح بيان، لا تشوبها شائبة، إلا من خلال الفهم الخاطئ الذي درج عليه بعض العلماء فغيَّروا وبدَّلوا بحجَّة «التَّأويل» تارة، وبحجَّة «النَّسخ» تارة أخرى، فقيَّدوا الاستثناء من «الصِّيام» في زُمْرَتين، فحجَّروا واسعًا، وألغوا حالاً ثالثةً من الحالات التي تعرض لـ«الصَّائم».
ولتوضيح ذلك لا بدَّ أن نقرأ «الآيات» التي نصَّت على «الصِّيام» في سياقها العام الذي وردتْ فيه، وأن نذكرَ شيئًا ممَّا قاله بعضُ «المفسِّرين» فيها، ودراستها اعتمادًا على منهج «تفسير القرآن بالقرآن».
قال تعالى: ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ? البقرة: 183.
جاءتِ الآية بلفظ «كُتَب» أي: «فُرَض»، و«أوجب»، وله شواهد أُخرى من «القرآن الكريم»، كقوله تعالى: ?فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً? النساء: 77، وقوله تعالى: ?مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً? المائدة: 32. وغيرها من الآيات الكثيرة التي تؤكِّدُ أنَّ معنى «كَتَب»: «فَرَضَ».
وقد وردت هذه الآية في سياق عام يبيِّنُ فيه سبحانه وتعالى الفرائض التي أوجبها على الأمم السَّابقة، فذكرَ «القصَّاص» فقال تعالى: ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى ? البقرة:178، ثمَّ ذكر «الوصية» فقال تعالى: ?كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ? البقرة: 180، ثمَّ ذكر فريضةَ «الصِّيام» في الآية التي نحن بصددِها.
ونصَّتِ الآية على أنَّ هذه الفريضة ليست بالجديدة، ولم تبدأ مع بعثة محمَّد e، وإنَّما هي سابقة له، ولعهده، دلَّ عليها قوله تعالى:?كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ?، وهنا وقع الاختلاف كما يذكرُ «الطَّبريُّ»، أي: «في المعنى الذي وقع فيه التَّشبيه بين فرض صومنا وصوم الذين من قبلنا».
ولما بيَّن سبحانه وتعالى أنَّ «الصِّيام» قد فُرِض على من كان قبلنا وضَّح تفصيل ذلك، فقال: ?أَيَّاماً مَّعْدُودَاتٍ?: البقرة: 184، لكنَّهم اختلفوا في «عدَّة» هذه الأيَّام، فبلغت «خمسين» يومًا عند «النَّصارى» على نحو ما يذكرُه «الطَّبريّ» إذ يقول: «ذلك أنَّ النَّصارى فرض عليهم شهر رمضان كما فُرض علينا فحوَّلوه إلى الفصل، وذلك أنَّهم كانوا ربَّما صاموه في القيظ يعدُّون ثلاثين يومًا، ثم جاء بعدهم قرنٌ فأخذوا بالثِّقة من أنفسهم، فصاموا قبل الثَّلاثين يومًا وبعدها يومًا، ثمَّ لم يزل الآخر يستنُّ سُنَّة القرن الذي قبله حتَّى صارت إلى خمسين».
وهذا المعنى ذاتُهُ ذكره «القرطبيُّ» مرويًا عن «الشّعبيّ»، و«قتادة» فقال: «التَّشبيه يرجعُ إلى وقت الصَّوم، وقدر الصَّوم، فإنَّ الله تعالى كتب على قوم موسى وعيسى صوم رمضان، فغيَّروا، وزاد أحبارهم عشرة أيَّام، ثمَّ مرضَ بعض أحبارهم فنذر إن شفاه الله أن يزيد في صومهم عشرة أيَّام ففعل، فصار صوم النَّصارى خمسين يومًا، فصعب عليه فنقلوه إلى الرَّبيع»، قد «اختار هذا القول النَّحاس، وقال: وهو الأشبه بما فيه الآية».
ومثلُه ما ذكره «الرَّازيُّ» في «مفاتيحه» إذ يقول: «أمَّا النَّصارى فإنَّهم صاموا رمضان، فصادفوا فيه الحرَّ الشَّديد، فحوَّلوه إلى وقت لا يتغيَّر، ثم قالوا عند التَّحويل: نزيد فيه، فزادوا عشرًا، ثمَّ بعد زمان اشتكى ملكهم فنذر سبعًا فزادوه، ثم جاء ملك آخر، فقال: ما بال هذه الثَّلاثة فأتمَّه خمسين يومًا»، وهذا القول مرويٌّ عن «الحسن».
وفي هذه الأقوال ونظائرها براهين تبطِلُ رأي من زعم أنَّ «الصِّيام» كان «ثلاثة أيَّام» فقط ثم وقع «النَّسخ» بتحديد شهر «رمضان» كما سيأتي بيانه، وإن كان مرويًّا عن «معاذ»، و«قتادة»، و«عطاء»، وبعضهم نسبه إلى «ابن عبَّاس»، فاختلافهم فيه ظاهر بيِّن، فقالوا: «ثلاثة أيَّام» من كلِّ شهر، ثمَّ أضافوا إليه «عاشوراء»، وقالوا: «كان تطوُّعًا ثم فُّرِض»، وهي مزاعم تردُّها الآية نفسها من «فرضيَّته» على الذين من قبلنا.
بل إنَّ تعيينَ شهر «رمضان» إنَّما جاء ليبيِّن الوقت المحدَّد بــ«شهر» كامل عدَّتُه «ثلاثون» يومًا، وليس «أربعين»، أو«خمسين» نتيجة التَّحريف الذي أصاب هذه الفريضة مع مرور الزَّمن، وهو اختيار «أكثر المحقِّقين كابن عبَّاس، والحسن، وأبي مسلم» من أنَّ «المراد بهذه الأيَّام المعدودات شهر رمضان»، ثمَّ ذكروا تقرير ذلك فقالوا: «أنَّه تعالى قال أوَّلا: كتب عليكم الصِّيام، وهذا محتمل ليوم، ويومين وأيَّام، ثمَّ بيَّنه بقوله تعالى: أيَّاما معدودات، فزال بعض الاحتمال، ثمَّ بيَّنه بقوله: شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن، فعلى هذا التَّرتيب يمكن جعل الأيَّام بعينها شهر رمضان، وإذا أمكن ذلك فلا وجه لحمله على غيره، وإثبات النَّسخ فيه؛ لأنَّ كلَّ زيادة لا يدلُّ عليها اللَّفظ فلا يجوز القول به». وهو المرجَّح الذي يدلُّ عليه السِّياق.
قلتُ: وإذا كان قوم «موسى»، وقوم «عيسى» عليهما السَّلام قدْ حرَّفوا هذه الفريضة وزادوا عليها ما ليس فيها، فنحن جاوزناهم في ذلك، بحيث صرنا نصوم شهرًا آخر غير شهر «رمضان» حقيقة؛ بسبب إلغاء زيادة «الشَّهر المقوِّم»، وليس هذا مجال بحثه.
ثم وضَّحت الآيات المستثنين من فريضة «الصِّيام» وهم على ثلاثة أنواع:
الأوَّل: المريض، كما نصَّ عليه قوله تعالى: ? فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً?.
الثَّاني: المسافر ودلَّ عليه قوله تعالى: ? أَوْ عَلَى سَفَرٍ?.
ونصَّت الآية على «كفَّارة» هاتين الحالين، وهو «القضاء»، فقال تعالى: ? فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ?.
ولا إشكال في هاتين الحالين، ولا في «الكفَّارة» المترتِّبة عليهما، لكنَّ الخلاف وقع في الحال الثَّالثة في قوله تعالى: ? وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ?، حيث أرجع بعضهم هذه الحال إلى الأوَلَيْن فقال: «إنَّ هذا راجع إلى المسافر والمريض، وذلك لأنَّ المسافر والمريض قد يكون منهما مَن لا يطيق الصَّوم، ومنهما من يطيق الصَّوم». أي: أنَّ الله تعالى أثبتَ لـ«المريض»، و«المسافر» حالتين:
إحداهما يلزمه أن يفطر وعليه «القضاء» وهي حال الجهد الشَّديد لو «صام».
والثَّانية: أن يكون مطيقًا للصَّوم لا يثقل عليه فحينئذ يكون مخيَّرًا بين أن يصوم وبين أن يُفطر مع وجوب «الفدية».
قلتُ: وهذا القول لا يصحُّ، وينبو اللَّفظ عنه؛ لأنَّه ألزمَ «المسافر»، و«المريض» بواجبين إن «أفطر»، وهو يتعارض مع «اليُسر» الذي نصَّ عليه تعالى في نهاية الآيات بقوله:? يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ? البقرة: 185.
بينما ذهب آخرون وهم أكثرُ «المفسِّرين» إلى أنَّ المراد من لفظ «يطيقونه»: المقيم الصَّحيح، «فخيَّره الله تعالى أولا بين هذين، ثمَّ نسخ بعد ذلك وأوجب الصَّوم عليه مضيقًا معينًا».
قلتُ: والذي دعاهم إلى هذا المذهب - والله تعالى أعلم - أنَّهم جعلوا فرضيَّة «الصَّوم» على «الصَّحيح المقيم»، فإن كان «مريضًا»، أو«مسافرًا» فله التَّأخير إلى «أيَّام أُخَر»، وهو مذهب يخرجُ الآيات من سياقها، ويؤِّدي إلى إلغاء حال ثالثة نصَّت عليها، إضافة إلى ما فيه من القول بـ«نسخ» الآيات بعضها بعضًا، وقد بيَّنا موقفنا سابقًا أن «لا نسخَ في القرآن»، وكلُّه مثبتٌ محكَم.
فإن قلتَ: فإنَّ «النَّسخ» ثابت فيها، وهو مرويٌّ عن «سعيد بن الأكوع» في صحيح «البخاريِّ» برقم /1948/، و/4507/! قلتُ: الرِّواية عن «سعيد» اجتهاد منه، ولم يرفعها إلى رسول الله e، واجتهاده يحتمل الصِّحَّة والخطأ، ويدحضُه ويُبطلُهُ ما ثبتَ عن «ابن عبَّاس» كما يرويه «البخاريُّ» نفسه برقم /4505/ حيث جاء: «قال ابن عبَّاس: ليست بمنسوخة»، ثمَّ بيَّن أنَّ المقصود منها «الشِّيخ الكبير، والمرأة الكبيرة لا يستطيعان أن يصوما فُيطعمان مكان كلِّ يومٍ مسكينًا».
ثمَّ إنَّ القولين ثابتان مرويَّان في «البخاريّ» فلمَ تريدُ إلزامنا بواحد دون الآخر؟ أليس الواجب ترجيح أحدِهما؟ ألا تدلُّ الآيات على صحَّة أحدهما وخطأ الآخر؟ أم أنَّ القبول بمتناقضين أمر مستساغ معهود؟!
والرَّاجح عندنا أنَّ ثمَّة حالًا ثالثة إضافة إلى «المريض»، و«المسافر» يجوز فيها للصّائم أن يُفطر، وهي «المشقَّة»، أي: الصِّيام مع عدم القدرة على تحمُّلِه، ولصاحبها أن يُفطر، وعليه «فدية» وهي إطعام مسكين، يدلُّنا على ذلك أمران:
الأوَّل: ما ذهب إليه «ابن عبَّاس» من أنَّ المراد منها «الشَّيخ الهرم»، و«المرأة الكبيرة»، ويدخل ضمنها «المرأة الحامل»، ولا شكَّ أنَّ هؤلاء ليسوا بمرضى، ولا مسافرين، فثبتَ أنَّ «المشقَّة» سبب في الإفطار.
قلتُ: ولعمري إذا كان هذا حالهم في «المشقَّة» و«رمضان» في موعده، بحيث يتساوى «الليل» و«النَّهار»، فما بالنا اليوم وهو في غير موعده، وبعض النَّاس يصوم «اثنتين وعشرين ساعة»! ألا يتعارض ذلك مع «اليسر» الذي أراده ربُنا جلَّ وعلا؟ّ
فإن قلتَ: قد رفضتُم ذهابهم إلى أنَّ المراد منها «الصَّحيح»، وأنَّ اللَّفظ لا يحتمله، فمن أين أدخلتم معنى «المشقَّة»؟ وما هو اللَّفظ الذي يدلُّ عليه؟
قلت: المعنى ليس مقحمًا؛ بل هو منصوص عليه في الآية في لفظ «يطيقونه»؛ لأنَّ «الطَّاقة» تدلُّ على وجود «مشقَّة»، وقد أشار«الرَّاغب» في «مفرداته» أنَّها: «اسم لمقدار ما يفعله الإنسان بمشقَّة؛ لأنَّه بمنزلة «الطّوق»، ويؤيِّدُ ذلك قراءة «ابن عبَّاس»: «يُطَّوِّقونه»، «ومعلوم أنَّ هذا لا يصحُّ إلا في حقِّ من قدر على الشَّيء مع ضربٍ من المشقَّة» التي نسأل الله عزَّ وجلَّ أن لا يلزمنا بها كما في قوله تعالى: ?وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ? البقرة: 286.
وهذا من بدائع «القرآن الكريم»، إذ استخدم كلمة «يطوقونه» لتدلَّ على المعنى الذي تحملُه في نفسها وهو: «المشقَّة» ولم يستخدم كلمة أخرى، بينما نجده في مواضع أُخرى قد استخدم كلمة مغايرةً، نحو:«يستطع» كما في قوله تعالى: ?فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا فَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ? المجادلة: 4، ونحو كلمة «يجد» كما في قوله تعالى: ?وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةً فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِّنَ اللّهِ وَكَانَ اللّهُ عَلِيماً حَكِيماً? النساء: 92.
وثمَّة لطيفة أخرى من استخدام لفظة «يطوقونه» وهي أنَّ فيها احترازً من دخول «الصَّحيح» مع القدرة، فلا يجوز للغنيّ المقتدر أن يدفع «فدية» مقابل أن يُفطر؛ بل لا بدَّ أن يتحقَّق شرطُ «الفدية» وهو «المشقَّة»، والله تعالى أعلم.
الثَّاني: أنَّ تتمَّة الآيات تشير إلى ما فيه معنى «التَّخيير» في قوله تعالى: ? وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ?، ولا يُمكن بحال حمل ذلك على «المريض»، أو «المسافر» كما ذهب إلى ذلك كثيرٌ من «المفسِّرين»، إذ بيَّن سبحانه وتعالى ما يلزمها إن أفطرا وهو «القضاء» ليتمُّوا «عدَّة» الأيَّام.
فإن قلتَ: بل إنَّ التَّخيير مختصٌّ بالمريض والمسافر؟ قلتُ: هذا كلام باطل، وإن قال به كثيرون؛ لأنَّ في ذلك تكليفًا مضاعفًا عليهما، إذ يترتَّب عليهما «القضاء» و«الفدية» وهو مخالف لصريح وظاهر نصَّ الآية، معارضٌ لما دلَّ عليه من التَّيسير، وعدم تكلُّف «العُسر».
فإن قلتَ: فما الفائدة من تكرار استثناء «المريض»، و«المسافر» في آيتين، واقتصار «المشقَّة» على واحدة، وعدم تكرارها؟
قلتُ: فيه فائدة عظيمة، ولطيفة عجيبة منه سبحانه وتعالى في تبيان حقيقة «الصَّيام» وجوهره، وفضائله.
إذ نصَّت الآية الأولى على فرضيَّة «الصَّيام» فيمن كان قبلنا، في قوله تعالى: ?كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ?، ثمَّ بيَّن الاختلاف الذي وقعوا فيه لعدم التزامهم بعدَّة أيَّامه، فنبَّه عليه في قوله تعالى: ??أَيَّاماً مَّعْدُودَاتٍ?، والتي ثبتَ عند المحقِّقين أنَّه «رمضان»، ثمَّ بيَّن حالات الاستثناء الثَّلاثة، وهي: «المريض»، و«المسافر»، و«القادر مع المشقَّة»، وما يترتَّبُ على هذه الأحوال من «كفَّارة»، و«فدية»، ثم بيَّن لـ«القادر مع المشقَّة» أنَّ الأفضل له «الصَّيام» في قوله تعالى: ?وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ?.
أي: أنَّ الآية بيَّنت حال المعذورين، وهم على قسمين: الأوَّل: لا يطيق الصَّوم أصلا، بسبب مرضه أو سفره. والثَّاني: يطيقه مع شدَّة ومشقَّة، ثم ذكر سبحانه وتعالى حكمهما متتابعين.
أمَّا الآية الثَّانية فقد وضَّحت عدَّة «الأيَّام» التي اختلفوا فيها، ليبيَّن الله لهم حقيقة ما اختلفوا فيه، وأنَّ «الصَّيام» شهرٌ كامل، لا يزيد ولا ينقُص، ثمَّ نصَّت على حقيقة جديدة، ومعنًى لم يكن معهودًا من قبل للأمم السَّابقة، ومزية تزيد هذا الشَّهر العظيم فضلاً ورفعة ومكانة وهو نزول «القرآن الكريم» فيه، وكرَّر بعدها حالتي «المريض» و«المسافر» لئلا تظنُّ الأمَّة التي شرَّع لها «الصِّيام» بعد أن أنزل «القرآن» أنَّ لهما حكمًا جديدًا، أو تشريعًا مختلفًا.
بالمحصِّلة: فإنَّ هذه الآيات قد بيَّنت جميع الأحوال التي تعرض للصَّائم، من «مرض»، أو«سفر»، أو «مشقَّة»، ووضَّحتِ الواجب المترتِّب على كلِّ حال، ولو التزم «المفسِّرون»، و«الفقهاء» بما نصَّت عليه لوفَّروا على أنفسهم كثيرًا من «الخلافات» التي وقعوا فيها بناء على فهم خاطئ، من حيث الواجبات المترتِّبة على ما لم تنصُّ عليها الآيات - بزعمهم - كـ«المرأة الحامل»، و«المرضع»، و«العجوز»، و«الكادح»، و«المنصوب» وغيرها التي يظهرُ أنَّها داخلة في الحال الثَّالثة وهي «المشقَّة»، والله تعالى أجلُّ وأعلم.