غربة الإسلام
[هذا مختصر لمقال نُشر في مجلة "الأمة" مطلع عام 1986م، وقد حافظنا قدر المستطاع على عباراته، وحذفنا بعض الفقرات والعبارات بقصد الاختصار. والمقال للعالم الفقيه: عبد الله بن زيد آل محمود، رئيس المحاكم الشرعية والشؤون الدينية بدولة قطر – رحمه الله]
سمّى النبي صلى الله عليه وسلم أيامَ ذهاب العلم، والاختلاف الكثير أيامَ الصبر، وقال: "إن من ورائكم أيامَ الصبر، القابض فيهن على دينه كالقابض على الجمر، للعامل فيهن أجر خمسين منكم"، قالوا: كيف يكون له أجر خمسين منا؟ قال: "إنكم تجدون على الحق أعواناً وهم لا يجدون". رواه الترمذي عن أبي ثعلبة الخشني. إن أكثر الناس في هذا الزمان يتسمّون بالإسلام وهم منه بُعَداء، وينتحلون بأنهم من أهله وهم له أعداء، يعادون بنيه، ويُقوّضون مبانيه، لم يبق معهم منه سوى محض التسمي به، والانتساب إليه، بدون عمل به، ولا انقياد لحكمه، فنرى أكثرهم لا يصلون الصلوات الخمس المفروضة، ولا يؤدون الزكاة الواجبة، ولا يصومون رمضان، ويستحلون الربا وشرب الخمر، فهم في جانب، والإسلام الصحيح في جانب آخر، فهؤلاء أكثر الناس، والله تعالى يقول: (وما أكثرُ الناسِ لو حرصتَ بمؤمنين). {يوسف: 103}. وقد قيل: الركب كثير، والحاج قليل.
ما أكثرَ الناس لا بل ما أقلّهمُ ويـعــلــمُ الله أني لــم أقــلْ فَـنَــدا
إني لأفتح عيني حين أفـتحها على كثير ولكن لا أرى أحدا
ولضعف الدين عوامل عديدة تساعد على ضعف الناس، منها: قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "إنه يُفسد الإسلامَ ثلاثة أشياء: الأئمة المضلون، وزلة العالم، وجدال المنافق بالقرآن". وروى مسلم عن ثوبان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إنما أخاف على أمتي الأئمة المضلين".
والخطر المخوف من زلة العالم هو الاغترار به فيها، ومتابعته عليها، إذ لولا التقليد والاتباع لما خيف على الإسلام وأهله من زلته، وكان ابن عباس رضي الله عنهما يقول: "ويل للأتباع من عثرات العالم". وقد شبهوا زلته بالسفينة يغرق بغرقها الخلق الكثير. كما أن الأئمة المضلين هم أمراء الناس الذين تنكبوا الطريق المستقيم، وتركوا شريعة القرآن الحكيم وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، واستبدلوا بها شريعة القوانين، فتبعهم الناس على ضلالهم، ووافقوهم على فسادهم واستبدادهم. والناس غالباً على طرائق ملوكهم في الخير والشر. ومتى فسد الراعي فسدت الرعية.
ومنها دنيا تقطع أعناق الناس، حتى تجعلهم كالمُنبتّين عن مصالحهم الدينية، وعما يوجب قوتهم واستقامتهم، والاستعداد للجهاد في سبيل الله، لأن شغفهم بلذاتهم المادية قد شغلهم عن الأمور الدينية. فلأجل حبها صارت هي الجيش الغازي بلاد الإسلام في هذا العصر، وكأنها الكافلة لأعداء الإسلام بالفتح والنصر بغير جموع ولا جنود، وبغير دفاع ولا امتناع، طبق ما روى الإمام أحمد في مسنده، وأبو داود في سننه، عن ثوبان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يوشك أن تداعى عليكم الأمم كما تداعى الأكلة على قصعتها"، قالوا: أمِن قلة يومئذ؟ قال: "لا، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ينزع الله مهابة عدوكم منكم، ويسكنكم مهابتهم، ويلقي الله في قلوبكم الوَهَنَ"، قالوا: وما الوهن يا رسول الله؟ قال: "حب الدنيا وكراهية الموت".
وكل ما كان أصلاً للفساد فإنه يكون سبباً لدخول الضعف منه على العباد.
وكل كسر فإنّ الدين يجبره وما لكسرِ قناة الدين جُبرانُ
فهذا الضعف الحاصل بالمسلمين ليس من الدين، وإنما حصل بسبب ما ضيّعوه من تعاليمه.
قد يُنعم الله بالبلوى وإن عظمت ويبتلي اللهُ بعض القوم بالنعمِ
فقد تعُود إلى الإسلام قوته ويفيء من غربته، كما اشتد ضعفه وغربته زمن وفاة النبي صلى الله عليه وسلم حتى ارتدت العرب عنه، ولم يبق مسجد يصلّى فيه إلا مسجد مكة، ومسجد المدينة، ومسجد عبد القيس بالأحساء. وعلى إثر هذا الضعف وهذه الغربة جاهد الصحابة في الله حق جهاده حتى استعادوا قوة الدين ونشاطه.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: "بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ، فطوبى للغرباء". رواه مسلم من حديث أبي هريرة، ورواه الإمام أحمد، وابن ماجه من حديث ابن مسعود، وفيه قالوا: يا رسول الله مَن الغرباء؟ قال: "النُزّاع من القبائل". وفي رواية قال: "الذين يَصْلُحون إذا فسد الناس". وفي رواية قال: "هم الذين يُصلِحون ما أفسد الناس من سنّتي".
وقد اتخذ الناس هذا الحديث ما يُشبه التخدير للهمم، والتخذيل للأمم، إذ اعتبروه عذراً لهم عن القيام بما أوجب الله عليهم من الجهاد في سبيله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والنصيحة لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم، حتى كأنّ الرسول صلى الله عليه وسلم بزعمهم قصد بهذا الحديث الاستسلام لهذا الضعف المفاجئ للمسلمين، وهذه الغربة في الدين، وأن هذه الغربة تقع في مكان دون مكان، وفي زمان دون زمان. فمثل الرسول صلى الله عليه وسلم في الإخبار بها كمثل خبير الطرق في الأسفار، يخبر قومه بمفاوز الأقطار، ومواضع الأخطار، ليتأهبوا بالحزم، وفعل أولي العزم لوسائل التعويق، ويحترسوا بالدفاع لقُطّاع الطريق، كما في صحيح مسلم من حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إنه ما من نبي إلا كان حقاً عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم، وينذرهم شر ما يعلمه لهم، وإن هذه الأمة جُعِل عافيتُها في أولها، وسيصيب آخرَها بلاء وأمور تنكرونها، تجيء الفتن يرقق بعضها بعضاً". يعني الآخرة شر من الأولى.
فالعاقل لا يستوحش طريق الهدى من قلة السالكين، ولا يغتر بكثرة الهالكين التاركين للدين، فإن الله تعالى يقول: (وما أكثرُ الناسِ لو حرصتَ بمؤمنين). {يوسف: 103}. وقد ثبت في الصحيح أنه: "لا تزال طائفة من هذه الأمة على الحق منصورة لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى تقوم الساعة". وأن الله سبحانه لا يزال يغرس لهذا الدين غرساً يستعملهم في طاعته.. "ينفون عن الدين تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين". و"أنّ الله يبعث لهذه الأمة في رأس كل مئة سنة من يجدد لها دينها". ومنها ما روى الترمذي عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مثل أمتي مثل المطر لا يُدرَى أوّلُه خير أم آخره".
فالآثار كلها تدل دلالة واضحة على تقلب الأحوال، وأن الدين محفوظ عن الزوال، لا يزال باقياً دائماً حتى تقوم الساعة، فمن ظن أن الله يديل الباطل على الحق إدالة مستمرة فقد ظن بالله السوء، ولكن المصارعة لا تزال قائمة بين الحق والباطل، والعاقبة للمتقين.
والدين منصورٌ وممتحن فلا تعجب فهذي سنة الرحمنِ
(ذلك لو يشاء الله لانتصر منهم ولكن ليبلوَ بعضكم ببعضٍ). {محمد: 4}.
(ولنبلونّكم حتى نعلمَ المجاهدين منكم والصابرين ونبلوَ أخباركم). {محمد: 31}.
سبحان ربك رب العزّة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
وسوم: العدد 625