صور من تأذي النبي في القرآن 14

من المشركين وأهل الكتاب وضعاف الإيمان من المسلمين 

المقال الرابع عشر

  من عادتي منذ أكثر من أربعين سنة أنني أقرأ كل يوم جزءاً من القرآن الكريم، فقرَّ رأيي أن أقرأ في الشهر التالي نوفمبر، تشرين الثاني الجزء المقرر كل يوم، وأعيِّنُ الآيات التي يَرِدُ فيها إيذاء المشركين واليهودِ وضعافِ الإيمانِ من المسلمين للنبي صلى الله عليه وسلم ، ثم أعود إلى التفاسير أجمع منها صوراً توضح ما أصاب النبي صلى الله عليه وسلم من إرهاق وإيذاء وعنَت صبَّه هؤلاء  على الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم ، فكان القدوةَ في تحمُّل الأذى والتصرف حياله، واللجوءِ أولا ً وأخيرا ً إلى الله تعالى فهو مانع رسول الله وهو عاصمه..                                        

سورة الفرقان

                                         [  الآيات 27- 29  ]

( وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً (27) يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَاناً خَلِيلاً (28) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنسَانِ خَذُولاً).

                             

 أخرج مسلم في صحيحه من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إنما مثل الجليس الصالح، والجليس السوء، كحامل المسك ونافخ الكير، فحامل المسك إما أن يحذيك، وإما أن تبتاع منه، وإما أن تجد منه ريحاً طيبة، ونافخ الكير، إما أن يحرق ثيابك، وإما أن تجد منه ريحاً خبيثة".

وذكر أبو بكر البزار عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قيل يا رسول الله أي جلسائنا خير؟ قال: من ذكّرَكم بالله رؤيته، وزاد في علمكم منطقه، وذكركم بالآخرة عملُه.

وقال مالك بن دينار: إنك إن تنقل الأحجار مع الأبرار خير لك من أن تأكل الخبيص مع الفجار.. وأنشد:

وصاحبْ خيار الناس تنجُ مسلَّماً...  وصاحب شرار الناس يوماً فتندَما (1)

إن الإِنسان أليف مألوف كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

ولكن الصاحب ساحب، يسحبك إلى الخير أو إلى الشر.. فإلى أين تحب أن تصير؟!!

وقديماً قيل: قل لي من تصاحب أقل لك من أنت؟.. فالصاحب مرآة صاحبه، ولن ترى رجلاً يصاحب رجلاً يختلف عنه، فالأرواح جنود مجندة ما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف.. ومن أراد الخير صاحب أهل الخير، ومن أراد الشر صاحب أهل الشر.

والعاقل، العاقل من ابتغى الخير لنفسه وحسن الختام

فنفع نفسه وصاحب من يدله على الخير، واتقى جليس السوء ونأى عنه، وفرَّ فراره من الأسد:

اصحب خيار الناس حيث لقيتهم

                 خير الصحابة من يكون عفيفاً

والناس مثل دراهمٍ ميزتُها

                      فوجدتُ منها فضة وزُيوفاً

وهذا عقبة بن أبي معيط نطق بشهادة الإسلام ثم خرجت من قلبه، لأنه أرضى صاحبه أُبيَّ بن خلف أخا أمية فأورده النار، وبئس الورد المورد.

يروى أن عقبة بن أبي معيط صنع وليمة، فدعا إليها قريشاً، ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم إليها، والداعية- ورسول الله أول داعية- اغتنمها فرصة فأبى أن ينال من طعام عقبة

شيئاً إلَّا إذا أسلم، وهو الذي يقول: صلى الله عليه وسلم. "لا تصاحب إلَّا مؤمناً، ولا يأكل طعامك إلَّا تقي"..

وهذا يعني أيضا أن تأكل من طعام المسلم التقي..

وكره عقبةُ أن يتأخر عن طعامه من أشراف قريش أحد..

ورسول الله صلى الله عليه وسلم  أشرف الأشراف- فأسلم ونطق بالشهادتين- فقبِلَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ، وأكل من طعامه..

 وهنا جاء دور الخليل والصاحب.. وصاحب عقبة وخليله أبَيُّ بن خلف، وهو كافر فاجر، وكان غائباً فسمع ما فعل عقبة، فعاتبه، فقال عقبة: رأيت عظيماً أن لا يحضر طعامي رجلٌ من أشراف قريش. فقال له خليله أبَيٌّ: هذا فراق بيني وبينك إلَّا أن ترجع، وتبصق في وجهه، وتطأ عنقه، وتقول كيت وكيت.. ففعل عدو الله ما أمره به خليله، فكتبه الله من التعساء أبد الآبدين بعد أن دخل في الإسلام.. نسال الله حسن الخاتمة.

قال الضحاك: لما بصق عقبة في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، رجع بصاقه في وجهه، وشوى وجهه وشفيته، حتى أثر في وجهه، وأحرق خديه، فلم يزل أثر ذلك في وجهه حتى قتل.. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: لا ألقاك خارج مكة إلَّا علوت رأسك بالسيف.

وفي معركة بدر كان عقبة بن أبي معيط بين الأسرى، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتله قبل دخول المدينة،

فقال: أأقتل دونهم؟ فقال نعم بكفرك وعتوِّك،

 فقال: من للصبية؟

 فقال: النار.

 فقام عليٌّ رضي الله عنه فقتله.

ويوم القيامة تكون الحسرة والندامة الأبدية، الحسرة على نعيم ضاع، والندم على فعل أورده النار، فهو يعض على يديه.. فلا تكفيه يد واحدة يعض عليها وإنما هو يداول بين هذه وتلك، أو يجمع بينهما لشدة ما يعانيه من ندمٍ أكل قلبه، وحسرة فتّتته. فهو ظالم.. وأولُ ما ظلم نفسُه التي بين جنبيه، يتمنى.. ولا ينفع التمني، لو سلك طريق الإيمان، وكان جندياً من جنود الإسلام، يمشي في ظل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يقتبس من أنواره، يؤمن برسالته..

ولكن هيهات لقد سبق السيف العذل.

ويأكل الندم فؤاده " ليتني لم أتخذ فلاناً خليلاً " هل نسي اسمه فلم يذكره، أو تجاهله، فلا حاجة إلى تسميته؟

- فهي لا تفيد ولا تنفع- أم إن التنكير يشمل كل صاحب سوء يصدّ عن سبيل الله ويضل عن ذكره؟! نعم كل صاحب سوء، يجر صاحبه إلى النار وبئس المصير..

 ويرتفع صوته بالويل والبثور، وعظائم الأمور فهو في نار جهنم يتلظى.. لقد أضله صاحبه، فسلك طريق الظلام، وعشش في قلبه الديجور، وكان النور قاب قوسين منه أو أدنى.. بل إنه

دخله.. دخله حقاً.. ولكن سرعان ما انسحب منه إلى كهوف الظلام وغسق الكفر.. استمع إلى شيطان الإنس أبَيِّ بن خلف.. صاحبه الذي يَصْـلى معه لهيب جهنم، وتلفحه زفراتها، واستمع إلى وسواس شيطان الجن.. الذي التقم قلبه، فما يصدر إلَّا عن أمره.. وأين الشيطان الآن؟!.. لقد تخليا عنه.. فكل منهما مشغول بمصابه الذي لا يقل بؤساً عن مصابه.. لقد تخليا عنه وخذلاه..

خذله شيطان الإنس وخذله الشيطان الخناس.. الأول يقول: أنا معك هنا أذوق عاقبة الكفر، والثاني يقول: إن الله وعدك وعد الحق، ووعدتك فأخلفتك.. ومن عادتي إخلاف الوعود.. وأنت تعلم ذلك.. ليس لي عليك سلطان، لا تحدق بي، ولا تلمني.. إني دعوتك إلى

الكفر فأجبتني.. فذق مرارة كفرك وعنادك، لا أستطيع مساعدتك كما أنك لا تستطيع مساعدتي.. فهما في النار سواء.

هل تقف القصة عند هذا الحد؟! إن العاقل اللبيب يتخذ منها عبرة وعظة، ودرساً يلتزمه خيراً ويبعد عنه شراً.

ويوم القيامة يقف رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقول بملء فيه:

 ( يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً  ) (1) ، كيف نكون من أتباعه ونهجره؟!!! إنه لأمر يستحق الوقوف أمامه والتفكر فيه.

إنها شكوى من رسول الله صلى الله عليه وسلم.. ومن يشكوه صلى الله عليه وسلم؟؟!

أهم المشركون، قد يكون.. ولكن دون شكواه صلى الله عليه وسلم  سيدخل هؤلاء النار ويعذبون، أم المسلمون الذين آمنوا بالقرآن نظرياً، وكذبوه عملياً.. والتكذيب العملي أن نترك

أحكامه وشريعته فنعطلها.. ونستبدل بها شرعاً أرضياً

آخر..

 لعمري إنها الثانية.. إنه صلى الله عليه وسلم يشكو الذين تعلموا القرآن وما عَمِلُوا به، وحفظوه في كتبهم وبيوتهم، ولم يُحَكِّموه في حياتهم، وقرأوه في حفلاتهم واجتماعاتهم، ونسوه في تصرفاتهم وسلوكهم.. فالقرآن ما نزل ليتلى فقط، إنما أنزله الله ليكون نوراً يهدي البشرية في حياتها،وضياءً يسطع فينير دربها، يهتدي بهديه المسلمون، ويعمل بشرعته الحاكمون!! فيطرحون كل دخيل ويتمسكون بكل أصيل..

إن لم نعد لله نرفعُ راية    

                          للحق، تُبذلُ عندها الأعمار

ونصول في ساح العقيدة جحفلاً

                              رُوّاده، ووقوده الأبرار

فالنصر لا يأتي بغير عقيدة

                            وبغير عزم ضربه بتار

والنصر غال ليس يخطب وده  

                                 إلَّا الشباب المؤمن الثوار

والنصر للإيمان، يزجيه الفدا

                            في درب عزٍ حظَّهُ المختار (1)

(1)  تفسير القرطبي 27/ 13.

(1)  سورة الفرقان: الآية 30.

(1) الأبيات للمؤلف من ديوانه (نبضات قلب !، قصيدة: (مولد

المختار"، ص 46.

وسوم: العدد 632