سورة يس 18

المقال الثامن عشر

ومن عادتي منذ أكثر من أربعين سنة أنني أقرأ كل يوم جزءاً من القرآن الكريم، فقرَّ رأيي أن أقرأ في الشهر التالي نوفمبر، تشرين الثاني الجزء المقرر كل يوم، وأعيِّنُ الآيات التي يَرِدُ فيها إيذاء المشركين واليهودِ وضعافِ الإيمانِ من المسلمين للنبي صلى الله عليه وسلم ، ثم أعود إلى التفاسير أجمع منها صوراً توضح ما أصاب النبي صلى الله عليه وسلم من إرهاق وإيذاء وعنَت صبَّه هؤلاء  على الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم ، فكان القدوةَ في تحمُّل الأذى والتصرف حياله، واللجوءِ أولا ً وأخيرا ً إلى الله تعالى فهو مانع رسول الله وهو عاصمه..

[ الآيتان 7، 8]

 ( لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (7) إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلاَلاً فَهِيَ إِلَى الأَذْقَانِ فَهُم مُّقْمَحُونَ)  .

كلما قرأت قوله تعالى: ( وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ)  (1)   شعرت كأن القلب نَبَضَ سريعاً وتفتحت مساماته، فدخلته النسائم الباردة المنعشة ثم تحرك واضطرب نشوانَ، فلا يهدأ حتى يحسَّ أنه ضم بين جوانحه حبَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، ذلك الداعية القدوة الذي أوذي في الله، ومكرَ أعداءُ الله به فحماه الله تعالى وعصمه من الناس.

نَزَلَت: ( إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلاَلاً) في أبي جهل وصاحبيه المخزوميين- كما قيل- وذلك أن أبا جهل حلف :لئن رأى رسول الله ليرضخنَّ رأسه بحجر، فلما رآه رفعَ حجراً ليرميه، فلما أومأ إليه رجعت يده إلى عنقه،والتصق الحجر بيده(قاله ابن عباس وعكرمة وغيرهما) فهو بمنزلة من غُلت يده إلى عنقه، فلما عاد إلى أصحابه أخبرهم بما جرى له.

فقال الرجل الثاني- الوليد بن المغيرة- أنا أرضخ رأسه، فأتاه وهو يصلي ليرميه، فأعمى الله بصره، فجعل يسمع صوته ولا يراه، فرجع إلى أصحابه ،فلم يرهم حتى نادَوه، فقال: والله ما رأيته ولكن سمعت صوته.

فقال الثالث: والله لأشرخنَّ أنا رأسه، ثم أخذ الحجر وانطلق، فرجع القهقرى ينكص على عقبيه حتى خرَّ على قفاه مغشياً عليه. فقيل له: ما شأنك؟ قال: شأني عظيم، رأيتُ الرجل، فلما دنوت منه، وإذا فَحْلٌ يخطر بذَنَبه، ما رأيت فحلاً قط أعظم منه، حال بيني وبينه، فواللات والعزى لو دنوت منه لأكلني، وكان فعلهم هذا سبباً في ضلالهم في الدنيا وعذابهم في الآخرة.

وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتصم بقراءة القرآن، ومنه

  ( وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ حِجَاباً مَّسْتُوراً) (1) .  

وقد نزلت هذه الآية في "أم جميل " زوجة أبي لهب. روت أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قال: لما

نزلت سورة " تبت يدا أبي لهب وتب.. " أقبلت العوراء أم جميل بنت حرب أخت أبي سفيان بن حرب، ولها ولولة، وفي يدها فهر (حجر) وهي تقول:

مذمَّماً عصينا، وأمرَهُ أبَيْنا، ودينَه قَلَيْنا.

والنبي صلى الله عليه وسلم قاعد في المسجد، ومعه أبو بكر رضي الله عنه، فلما رآها أبو بكر قال: يا رسول الله، لقد أقبَلتْ، وأنا أخاف أن تراك، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إنها لن تراني، وقرأ: "وإذا قرأتَ القرآن..." فوقفتْ على أبي بكر رضي الله عنه، ولم تر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالت:

يا أبا بكر أُخبِرتُ أن صاحبك هجاني! فقال: لا ورب هذا البيت ما هجاك، قال: فولّت وهي تقول: قد علمت قريش أني ابنة سيدها وفي رواية أن أبا بكر رضي الله عنه قال: لو

تنحيت عنها لئلا تُسمعك ما يؤذيك، فإنها امرأة بذيّة. فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "إنه سيحال بيني وبينها " فلم تره.. فقال الصديق: يا رسول الله أما رأتك؟ قال: لا، ما زل ملكٌ

بيني وبينها يسترني حتى ذهبت.

قال كعب رضي الله عنه: كان النبي صلى الله عليه وسلم  يستتر من المشركين بثلاث آيات:

1- الآية التي في الكهف: ( إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ

وَقْراً) (1).

2- والآية التي في النحل: ( أُولَـئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَـئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ) (2) .

 3- والآية التي في الجاثية: ( أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً) (3).

هذا بالإضافة إلى هاتين الآيتين من سورة يس، فقد ذكرت السيرة في هجرة النبي صلى الله عليه وسلم ومقام علي رضي الله عنه في فراشه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج وأخذ يقرأ هاتين الآيتين وأخذ حفنة من تراب ذرَّها في وجوه القوم الذين أحاطوا ببيته صلى الله عليه وسلم يريدون قتله، فلم يدروا بخروجه ولم يبق رجل إلَّاوقد وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم على رأسه تراباً ثم انصرف إلى حيث أراد أن ينصرف .

وقد ذكر القرطبي في تفسيره قال:

ولقد اتفق لي ببلادنا الأندلس بحصن "منثور" من أعمال قرطبة مثل هذا، وذلك أني هربت أمام العدو، وانحزت إلى ناحية عنه، فلم ألبث أن خرج في طلبي فارسان، وأنا في فضاء من الأرض قاعدٌ ليس يسترني عنهما شيء، وأنا أقرأ أول سورة يس، وغير ذلك من القرآن،

فعبرا علي، ثم رجعا من حيث جاءا، وأحدهما يقول للآخر: هذا شيطان!،

 وأعمى الله أبصارهما فلم يرياني، والحمد لله حمداً كثيراً على ذلك.

ما مرَّ تبيان للحفظ عن الرؤية البصرية.. فماذا عن الرؤية القلبية؟

الحقيقة أن الرؤية البصرية إذا ضعفت أو تلاشت فإنما هي نتاج لانعدام الرؤية القلبية.. فالإنسان حين ينعدم النور من قلبه ويتلاشى الإيمان من فؤاده ولا يرى إلَّا أهواءه، وأهواءه فقط، فكأنما صفَّدته أهواؤه في يديه ،وأحاطت عنقه فحصرته في مجال واحد.. الغل يرفع ذقنه

فيرتفع وجهه، فيعشي النور بصره، فيغمض عينيه لا يرى من جمال الحق شيئاً، منظره الخارجي منظر الذي يرفع رأسه استكباراً، وإغماضُ عينيه عن النور تعبيرٌ عن الترفع عن الإيمان والإعراضِ عنه، ثم يوضع أمامه سدٌّ فيمنع عنه الضياء، وخلفه سدٌّ فيمنعه عنه النور.. فإذا هو في ظلام يحوطه من الجهات ،فلا يرى الحقَّ فينكفئ إلى ظلمات جهله، يَهِيْمُ فيها لا يلوي على شيء.

هكذا يعيش الكفار.. لا أمل، لا هدف سامياً، حياة كلها شقاء، وبؤس، إنهم يظنون إنهم على هدى.. لماذا؟ لأن الكبر والعناد يمنع صاحبه التفكير والبحث عن الحقيقة.. فيظن الخير في نفسه وهو في الواقع يتخبط في ضلال الكفر وظلام الشرك..

(1)  سورة الفرقان: الآية 67.

(1)  سورة الِإسراء: الآية 45.

(1) سورة الكهف: الآية 57.

(2) سورة النحل: الآية 108.

(3) سورة الجاثية: الآية 23.

وسوم: 635