رمضان وتنمية حاسة التذوق الإيماني والروحي
جمال زواري أحمد ـ الجزائر
لعل من المقاصد الكبرى لفريضة الصيام هو تنمية حاسة التذوق الروحي والإيماني لدى المؤمن الصائم، بحيث تتربى هذه الحاسة لديه من خلال تفاعله الإيجابي مع الأجواء الروحية والإيمانية التي يوفرها شهر رمضان، حتى أن معظم النصوص الشرعية التي تتحدث عن المقاصد الكلية للصيام تدور حول هذا المعنى، منها قوله تعالى:(( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ))( البقرة183)، وقوله صلى الله عليه وسلم:(( من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه))(رواه البخاري ومسلم).
لذلك فإن توفر حاسة التذوق هذه من عدمه لدى الصائم هو الحد الفاصل بين صيام العبادة وصيام العادة.
لأنه كلما تمتع العبد بحاسة تذوق روحي وإيماني قوية كلما زادت شراهته للطاعات في هذا الشهر الفضيل، وفتحت شهيته للقربات والأعمال الصالحة ، والعكس كلما فقد حاسته التذوقية وكانت ضعيفة الحضور لديه كلما قلّت شراهته تلك وانسدّت شهيته مهما كان إغراء الأطعمة الروحية المتوفرة على موائد الرحمن في شهر رمضان، كالتعامل مع الطعام تماما وهو ما يشير إليه المتنبي بقوله:
ومن يكُ ذا فمٍ مرٍّ مريض ***يجد مرًّا به الماء الزُلالا
ومن الدلائل العملية على وجود هذه الحاسة قوية لدى العبد المؤمن الصائم:
1 ــ كثرة الإقبال على الطاعات والمسارعة إلى الخيرات والحرص على الصالحات، وعدم التهاون في تحصيل أيّ نوع منها مهما كان صغيرا.
2 ـ اليقظة والحذر الدائم من لصوص الصيام الذين يصرفونه عن نفحاته، ويلهونه عن قرباته، ويحرمونه من ثوابه وحسناته.
3 ــ انفتاح الشهية على آخرها للقرآن الكريم تلاوة وسماعا وتدبرا وفهما وإدراكا وتأثرا.
4 ــ الحساسية المفرطة من التقصير، وسرعة التنبه والاستدراك والانتقال إلى حالة التشمير.
5 ــ الحزم في لجم اللسان ومنعه من التورط في حوالق الصيام المختلفة، وإلزامه برجيم أخلاقي قاسي لا تسامح فيه.
6 ــ تطهير القلب وتخليصه من أمراضه الحاجبة، والحفاظ عليه سليما معافى خالص البياض والنقاء ، مؤهلا لاستقبال أنوار الإيمان ونفحات الرحمن.
7 ــ التخلص من كل العادات السيئة ـ وإن كانت مباحة ـ التي تعوّد عليها المرء قبل رمضان، ونجاحه في التحكم فيها، وتغلبه عليها، والانقلاب على سلطتها عليه.
8 ـ زيادة جرعة اهتمامه بقضايا المسلمين ومعاناتهم: الجوعى منهم والمظلومين والمسجونين والمشرّدين والمهجّرين، وإشراكهم في البرنامج الرمضاني دعاء وعطاء.
9 ــ انطلاق ماء العينين وسخائها به في أجواء رمضان الإيمانية والروحية، وفكّ عقدة جفافها وعصيّها على الدمع، والتمتع بلذة البكاء من خشية الله.
10 ــ الحرص على نقل العدوى إلى الآخرين من أهل وخلاّن وإخوان وجيران ليعيشوا ما تعيش من لذائد روحية ومتع إيمانية وفيوضات ربانية، ليتمتعوا بدورهم بحاسة التذوق الروحي والإيماني كما تمتعت بها، وينالهم من الكرم الإلهي ما نالك.
فهذه الدلائل العملية العشرة يستطيع العبد أن يعرض نفسه عليها، ويزن درجات إقباله بها ، ويقيّم مستوى أعماله من خلالها، ليتأكد هل يملك فعلا حاسة التذوق الروحي والإيماني، ومن ثم يكون قد انخرط حقيقة في مدرسة الثلاثين يوما، ودخل سباق المنافسة الجادة على التتويج.
وإلا مازال من أهل الحرمان وقوافل البطالين، وغارق في بحور غفلته، لفقدانه حاسة التذوق هذه، رغم ملاءمة الظروف، وتوفر كل وسائل الإغراء ليكون تذوقه الروحي والإيماني راقيا وعاليا يدفعه دفعا إلى زيادة درجة عبّه واغترافه مما هو متوفر بسخاء على موائد رمضان الروحية والإيمانية المتنوعة والمزينة بأشهى أنواع الغذاء الإيماني لمن كان له ذوق، لأنه كما قال العارفون: من ذاق عرف، ومن عرف اغترف.