ثقافة الداعية
1- مفهوم الثقافة
لقد دُوّنت كتب كثيرة ومقالات تحت هذا العنوان، أو تحت عنوانات مشابهة، مما يدل على أهمية الموضوع، بحيث تصدى له كتّاب وباحثون. ولنبدأ بتعريف الثقافة.
أحياناً يعرّفون الثقافة بأنها معرفة شيء عن كل شيء.
ويقصدون بذلك أنها سَعَة الاطلاع، وتعدد مجالات المعرفة. فالذي يُكثر القراءة والاستماع، ويحصل معلومات عامة في الدين والأدب والتاريخ والطب والعلوم... يكون مثقفاً.
وهذا التعريف متداول كثيراً، لكنه مؤشر على الثقافة، وليس هو التعريف المعتمد للثقافة.
التعريف المعتمد يدور حول المفهوم الآتي:
الثقافة هي منظومة المفاهيم والقيم والأخلاق والأعراف والآداب والفنون... التي تسود في مجتمع متجانس.
ومما يفيده هذا التعريف:
أن الثقافة قيم ومفاهيم... وليست مجرد علوم ومعارف (بعضهم يضيف كلمة "العلوم" إلى مكونات الثقافة). وأنها "منظومة" أي مجموعة منسجمة، وليست مفردات مبعثرة أو متعارضة. أنها تحمل معنىً اجتماعياً. أي لا بد أن تسود في مجتمع أو تجمع.
وهذه النقاط الثلاث تستدعي البيان:
أولاً: أليس هناك علاقة بين الثقافة والمعرفة؟ أو: ألا يوجد رابط بين التعريف المتداول الذي ذكرناه أولاً، والتعريف الذي اعتمدناه؟!
والجواب: إن التعريفين مختلفان فعلاً لكن بينهما تداخلاً، فالمعلومات والمعارف في شتى شؤون الحياة تنعكس بشكل قوي أحياناً، وضعيف أحياناً، على القيم والمفاهيم، فتكون لها علاقة قوية أو ضعيفة بالثقافة، تبعاً لذلك (وهذا ما دعا بعضهم إلى إدخال كلمة العلوم في تعريف الثقافة).
وحين يُختصر مفهوم الثقافة عند بعض الناس لتكون دلالته هي الشهادة الدراسية، فيكون المثقف عندهم هو من يحمل شهادة البكالوريوس أو الدكتوراة... فهذا مسخ لمفهوم الثقافة.
معظم المعلومات الفيزيائية والكيميائية والجغرافية... لا تدخل في مفهوم الثقافة، بينما معظم المعلومات الاعتقادية والفلسفية والسياسية والأدبية تدخل في جوهر الثقافة.
ثانياً: ماذا لو حمل فرد من الناس قيماً تغاير ما يسود في مجتمعه؟ ثم ماذا لو تضاربت القيم في المجتمع حتى لا تكاد تجد قيمة متفقاً عليها، بل توجد قيم متباينة، يتمحور حول كل منها طائفة من المجتمع؟
أما في الحال الأولى فإن الفرد يحمل ثقافة خاصة، ينتمي بها إلى المجتمع الذي أخذ منه تلك الثقافة، وهذا يحدث مثلاً عندما يعيش الفرد في بلد آخر ويتشرّب قيمه، ثم يعود إلى بلده بتلك القيم الوافدة. كما يحدث – على نحو مغاير – عندما يكون الفرد متميزاً جداً، بحيث يسبق عصره، ويحمل أفكاراً وقيماً متطورة جداً، ويدعو إليها.
وأما في الحال الثانية حيث تضطرب القيم في المجتمع الواحد، فهذا يدل على أن المجتمع في حال تحول غير مستقر. فهناك قيم موروثة أو محافظة، وهناك قيم يحملها الغزو الثقافي الذي يأتي من منافذ شتى، وما يؤمن به فرد أو مجموعة، يكون محل اعتراض من أفراد أو مجموعات أخرى. ومعظم مجتمعاتنا الإسلامية اليوم نماذج لهذه الحال.
ثالثاً: إذا التزمنا بالتعريف، بحرفيّته، فهذا يلغي أن نصِف فرداً معيناً، أو شريحة معينة بأنها مثقفة، بل يلغي أن نصِفَ مجتمعاً أو شعباً بأنه مثقف.
فالتعريف يعني، أو يقتضي، أن يكون كل مجتمع متجانس في قيمه مثقفاً، أي أنه يلتزم كله بمنظومة من القيم والمفاهيم.
هنا لا بد أن نقر بأنه يبقى للكلمة دلالة فردية أو فئوية، لا سيما إذا أدخلنا المعنى اللغوي الصرف لكلمة الثقافة، الذي يعني الحِذْق والفاعلية، فالمثقف بهذا المعنى هو الذي تعمق في فهم الثقافة وحذق فيها، وكان قادراً على التعبير عنها والدعوة إليها...
وإذا أقررنا – فوق ذلك – بالصلة بين الثقافة والمعرفة، أمكن أن نقارب بين وجهات النظر المتباينة حول دلالة الثقافة، ونقبل بوصف فرد ما، بأنه مثقف إذا كان أكثر معرفة وأوسع اطلاعاً... من غير أن نقلل من شأن المعنى الأساس للثقافة. والأمر نفسه يقال عن شريحة من المجتمع، أو عن مجتمع بكامله.
في ضوء ما ذكرنا يجب على الدعاة أن يكوّنوا لأنفسهم ثقافة مشتركة، وأن يعمقوا هذه الثقافة في أنفسهم، وأن يعملوا على تعميمها في المجتمع حتى يصبغوا بها المجتمع، ويجعلوها ثقافة هذا المجتمع.
يتحدث الإمام البنا – رحمه الله رحمة واسعة – عن جهده مع إخوانه في أول مراحل تأسيس الجماعة فيقول: "وكان عهد، وكان مَوْثِق، أن يعمل كل منا لهذه الغاية، حتى يتحول العرف العام في الأمة إلى وجهة إسلامية صالحة". [من رسالة المؤتمر الخامس]
ويتحدث في عدد من رسائله عن تغيير مفاهيم الأمة وعاداتها وأعرافها... بما تقتضيه أحكام الإسلام الحنيف وآدابه.
أي إنه – رحمه الله – حمل على عاتقه مسؤولية تصحيح ثقافة المجتمع!.
وإلى الحلقة الثانية (الأخيرة) قريباً بإذن الله.
وسوم: 642