دخول عبدالرحمن بن عوف الجنة حبواً
إنَّ شخصية الصحابي عبدالرحمن بن عوف (ت: 32هـ) من ألمع شخصيات الصحابة، وله في أيام الإسلام حضورٌ واضحٌ، وذكرٌ بعيدٌ، وأثرٌ محمودٌ.
وقد غصَّت الكتبُ بترجمته أو ذكره[1]، ممَّا لو جُمِعَ لشكَّل مجلدًا ضخمًا، فيه من الحق صورتُه الناصعة، ومن الكرَم والجود وجهُه الرائع، ومن الجهاد والتضحية الدورُ الكبير الفعَّال.
غير أنَّ هذا الصَّحابي قد ابتُلي ببلاءٍ عظيمٍ؛ إذ لم يَعد له في أذهان المسلمين من صورةٍ إلَّا صورة رجل يَحبو كحبو الطِّفل في طريقه إلى الجنَّة، وقد أُلقي على جهاده وجهوده ومكارمه ومآثره حجابٌ ثَقيل، حجَب الرؤيةَ الصادقة، وجعل التصورات تستسلم لضبابٍ كثيف.
لقد تتبعتُ ما كُتب عن عبدالرحمن بن عوف في المصادر والمراجع، فرأيتُ ما سرَّني وما ساءني:
استأتُ إذ رأيتُ علماء أجلَّاء قد تواردوا على سياقة صورة الحبو هذه دون أن يَكشفوا عن تهافُت سندها[2].
وسُررتُ إذ رأيتُ نباهةَ المحدِّثين تلاحِق هذه الصورةَ المشوَّهة، وتطعنها بخَنجر بحثٍ ونقد دقيقين.
وقد كنتُ أرجو أن يتَّسع الوقت فأبسُط القول في ذلك تحت محورين اثنين:
المحور الأول: عن حياة عبدالرحمن بن عوف، أكتبها بأسلوبٍ روائي متسلسل تسلسلًا طبيعيًّا، لا كما جاءَت في المصادر أخبارًا غير متناسقة ولا متساوقة[3].
والمحور الثاني: أناقِش فيه هذه الرواية - وما شابهها - التي نالَت من عبدالرحمن، فطأطأَت من قامته الفارعة[4] لتجعله يَحبو على الأرض، لا لسببٍ، إلَّا لأنَّه من الأغنياء... مع أنَّه كان بشهادة الجميع من الأغنياء الصَّالحين الذين وضعوا المالَ في مواضعه، فكان أحد مَن أسهموا في تشييد البِناء الإسلامي الخالد.
وإذ كان الوقت ضيِّقًا، فسأوجِز القولَ الآن على أمَل العودة إلى الموضوع عودةً متأنِّية؛ تكشف الأمرَ، وتجلي الصورةَ تجلية تامَّة.
لقد كان الذين تناولوا حياةَ عبدالرحمن ثلاث مجاميع:
الأولى: وتشمل:
1- البخاري (ت: 256هـ): في التاريخ الكبير (5/ 240).
2- الطبري (ت: 310هـ): في تاريخ الرسل والملوك (4/ 307)، في وفَيَات سنة (32هـ).
3- ابن حجر (ت: 852هـ): في الإصابة (6/ 311).
4- الصفوري (ت: 896هـ): في نزهة المجالس ومنتخب النفائس (2/ 220).
وهؤلاء لم يتطرَّقوا إلى قصة الحبو أصلًا.
الثانية: وتشمل:
1- الذهبي (ت: 748هـ): في سير أعلام النبلاء (1/ 68 - 92).
2- ابن كثير (ت: 774هـ): في البداية والنهاية (7/ 163، 164).
3- ابن العماد (ت: 1067): في شذرات الذهب (1/ 194، 195).
وقد ناقش هؤلاء القصَّةَ، وبيَّنوا آراءهم المعارضة لها تمامَ المعارضة.
الثالثة: وتشمل:
1- الغزالي (ت: 505هـ): في إحياء علوم الدين (3/ 266).
2- الطبري (ت: 694هـ): في الرياض النضرة في مناقب العشرة (2/ 376 - 390).
3- الذهبي (ت: 748هـ): في تاريخ الإسلام (3/ 392).
4- خالد محمد خالد - الكاتب المعاصر - في كتابه: رجال حول الرسول صـ (584، 585).
وهؤلاء ذكروا القصةَ في معرض التأييد والاستدلال أو السكوت.
ولما كان كتاب "إحياء علوم الدين" مرجعَ الكثير من طبقات الأمَّة من علماء ووعَّاظ ومرشِدين، فضلًا عن غيرهم من أهل الاختصاصات الأُخر؛ فقد شاع هذا الحديث شيوعًا كبيرًا، وبَنى عليه الوعَّاظُ أحكامًا واستنتاجات، فلا يُذكر الغنى إلَّا ويُؤتى بعبدالرحمن بن عوف وهو يحبو!
إلَّا أنَّ هذه الرواية لم تَثبتْ أمام نباهة المحدِّثين؛ كالإمام أحمد بن حنبل (ت: 241هـ)، والإمام ابن الجوزي (ت: 597هـ)، فقد أشار الأولُ إلى نكارتها، وأشبعها الثَّاني بحثًا وتمحيصًا من الناحيتين النقليَّة والعقليَّة، وذلك في كتابه "الموضوعات من الأحاديث المرفوعات".
لكن الأمر العجيب هنا أنَّ المؤلِّفِينَ تغافلوا أو غفلوا عن هذا النَّقد المتين، وظلَّتْ هذه الرواية تشقُّ طريقَها بين جماهير المسلمين، لتحذِّر من الغِنى وتخوِّف منه، ولتفتحَ للأموال طريقًا واسعًا إلى أيدي أعداء الأمَّة يتصرَّفون بها كيفما شاؤوا في الكَيد لها والتخطيطِ للقضاء عليها.
والآن أسوقُ هذه الروايات، وأعقِّب بنقدها:
1- قال الإمام أحمد بن حنبل:
حدَّثنا عبدالصمد بن حسان، أنبأنا عمارة - هو ابن زاذان - عن ثابت - البناني - عن أنس - بن مالك - قال:
بينما عائشة في بَيتها سمعَتْ صوتًا في المدينة، فقالت: ما هذا؟ فقالوا: عِير لعبدالرحمن بن عوف قدِمَت من الشام، تحمل من كلِّ شيء - قال: وكانت سبعمائة بَعير، فارتجَّت المدينة من الصوت - فقالت عائشة: سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((قد رأيتُ عبدالرحمن بن عوف يدخل الجنَّةَ حبوًا))[5].
فبلغ ذلك عبدالرحمن فقال: إن استطعتُ لأَدخلنَّها قائمًا؛ فجعلها بأقتابها وأحمالها في سبيل الله عزَّ وجل.
قال الإمام أحمد:
هذا الحديث كذب منكر، وعمارة بن زاذان يَروي أحاديث مناكير.
وقال أبو حاتم الرَّازي: عمارة بن زاذان لا يُحتجُّ به[6].
2- وروى الجراح بن منهال بإسنادٍ له عن عبدالرحمن بن عوف، أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال له:
((يا بنَ عوف؛ إنَّك من الأغنياء، وإنَّك لا تدخل الجنةَ إلَّا زحفًا، فأقرض ربَّك يطلق قدميك)).
قال الإمامُ ابن الجوزي:
"قال النسائي: هذا حديث موضوع، والجرَّاح: متروك الحديث.
وقال يحيى: ليس حديث الجراح بشيء.
وقال ابن المديني: لا يُكتب حديثه.
وقال ابن حبان: كان يكذب.
وقال الدارقطني: روى عنه ابنُ إسحاق، فقلب اسمَه فقال: منهال بن الجراح، وهو متروك".
قلت:
وبعد أنْ نقَد ابنُ الجوزي السندَ التفتَ إلى نقد المتن، فقال:
"وبمثل هذا الحديث الباطل يتعلَّقُ جهلةُ المتزهِّدين، ويرون أنَّ المال مانِع من السَّبق إلى الخير، ويقولون: إذا كان ابن عوف يَدخل الجنَّةَ زحفًا لأجل مالِه؛ كفى ذلك في ذمِّ المال.
والحديث لا يصح، وحُوشِيَ عبدالرحمن المشهود له بالجنَّة أن يمنعه مالُه من السَّبق؛ لأنَّ جمع المال مباح، وإنَّما المذموم كسبُه من غير وجهه، ومنعُ[7] الحقِّ الواجبِ فيه، وعبدالرحمن منزَّه عن الحالين، وقد خلَّف طلحة ثلاثمائة حمل من الذَّهب، وخلف الزبير وغيرُه، ولو علموا أنَّ ذلك مذموم لأخرجوا الكلَّ.
وكم قاص يتشدَّقُ[8] بمثل هذا الحديث، يحثُّ على الفقر، ويذمُّ الغنى، فيا لله در العلماء الذين يَعرفون الصحيحَ، ويفهمون الأصول"[9].
3- وعن عبيدالله بن زحر عن علي بن يزيد عن القاسم عن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
((دخلتُ الجنَّةَ فسمعتُ فيها خشفة[10] بين يدي، فقلتُ: ما هذا؟ قيل: بلال، فمضيتُ، فإذا أكثر أهل الجنَّة فقراء المهاجرين وذراري المسلمين، ولم أرَ فيها أحدًا أقل من الأغنياء والنساء.
قيل لي: أمَّا الأغنياء، فهم بالباب يحاسَبون ويمحَّصون.
وأمَّا النساء، فألهاهنَّ الأحمران؛ الذهب والحرير.
ثمَّ خرجنا من أحد أبواب الجنة الثمانية، فلمَّا كنتُ عند الباب أُتيتُ بكفةٍ فوُضِعتُ فيها، ووضعَتْ أمَّتي في كفة، فرجحتُ بها، ثمَّ أُتي بأبي بكر فوُضِعَ في كفَّة، وجيء بجميع أمَّتي فوُضعوا في كفَّة، فرجح أبو بكر، ثمَّ أُتي بعمر فوُضِعَ في كفة، وجيء بجميع أمتي فوُضعوا في كفَّة فرجح عمر.
وعُرضَت عليَّ أمتي رجلًا رجلًا، فجعلوا يمرون، فاستبطأتُ عبدَالرحمن بن عوف، ثمَّ جاء بعد الإياس، فقلت: عبدالرحمن؟!
فقال: بأبي وأمي يا رسول الله، والذي بعثك بالحقِّ ما خلصتُ إليك حتى ظننتُ أنِّي لا أنظر إليك أبدًا إلَّا بعد المشيبات، قال: وما ذاك؟ قال: مِن كثرة مالي، أحاسَب، وأمحَّص))[11].
قال ابن الجوزي:
" هذا حديث لا يصح:
أما عبيدالله بن زحر فقال يحيى: ليس بشيء، وعلي بن يزيد: متروك.
وقال ابنُ حبان[12]: عبيدالله يَروي الموضوعات عن الأثبات، فإذا روى عن علي بن يزيد أتى بالطامات، وإذا اجتمع في إسناد خبرٍ عبيدُالله بن زحر وعلي بن يزيد والقاسم أبو عبدالرحمن، لم يكن متن ذلك الخبر إلَّا ممَّا عملَته أيديهم"[13].
وقال عنه الذهبي: "إسناده واهٍ"[14].
ويجبُ أن نلاحظ هنا اختلافَ هذه المتون:
ففي الرواية الأولى: نُسِبَ الحديث إلى عائشة أنَّها هي التي سمعَتْ هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحين سمع عبدالرحمن به بدا أنَّه لا يعرفه.
وفي الرواية الثانية: نُسِبَ الحديث إلى عبدالرحمن نفسه، وليس فيه ذِكر القافلة.
وأما الرواية الثالثة: فليس فيها ذكر الحبو والزَّحف، وإنَّما فيها تأخُّر عبدالرحمن في الحساب، والتأخُّر في الحساب شيء، ودخول الجنَّة حبوًا شيء آخر، إلَّا أن يُقال: إنَّ دخوله حبوًا هو على سبيل الاستعارة.
وللإمام المنذري كلامٌ جيِّدٌ بهذا الشأن، قاله في كتابه "الترغيب والترهيب"[15]، ونصه:
"قد ورد من غير وجهٍ، ومن حديث جماعة من الصَّحابة عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّ عبدالرحمن بن عوف يَدخل الجنةَ حبوًا لكثرة ماله، ولا يَسلم أجودُها من مقالٍ، ولا يَبلغ منها شيءٌ بانفراده درجةَ الحسن، ولقد كان مالُه بالصفة التي ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((نِعم المال الصَّالح للرجلِ الصالح))، فأنَّى تنقص درجاته في الآخرة، أو يقصر به دون غيره من أغنياء هذه الأمَّة؟! فإنَّه لم يَرِدْ هذا في حقِّ غيره، وإنَّما صحَّ سبق فقراء هذه الأمَّة أغنياءَهم على الإطلاق".
هذا شيءٌ، والشيء الآخر - وهو مهم - هو أنَّ هذه القصَّة قد يكون مردُّها إلى منام، ثمَّ حالفها الذُّيوع، وانتشرَتْ على ألسنَة الرواةِ بصِيغ متعدِّدة، وأساليب متنوعة حسب ما أملاه حرمانُ المحرومين أو كيدُ الكائدين.
فقد روى الذهبيُّ عن خالد بن الحارث وغيره قالا: حدثنا محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبيه - عبدالرحمن بن عوف - قال:
"رأيتُ الجنَّةَ، وأنِّي دخلتُها حبوًا، ورأيتُ أنَّه لا يدخلها إلَّا الفقراء".
ثمَّ علَّق الذهبيُّ - وهو المؤرِّخ البصير، والمحدِّث الناقد الكبير - بقوله:
"إسناده حسن، فهو وغيره منام، والمنام له تأويل، وقد انتفع ابنُ عوف رضي الله عنه بما رأى، وبما بلغه، حتى تصدَّق بأموال عظيمة، أطلقَ له - ولله الحمد - قدميه، وصار من ورثَة الفردوس، فلا ضير"[16].
ولكن يجب أن نتوقَّف قليلًا عند هذه العبارة: "ورأيتُ أنَّه لا يدخلها إلَّا الفقراء"، فهذا الحصر غير صحيح، ولا بدَّ أنَّ لتصرف الرواة دخلًا في ذلك.
ونستطيعُ أن نَخرج بنتيجة بعد هذه الجولة؛ هي أنَّ رواية الحبو هذه لا تتماسَك أمام البحث، ولا تقوَى على النهوض أمام الرِّوايات الصحيحة التي تبشِّرُ عبدالرحمن بالجنة، ولمَّا كانت هذه البشارة من باب التكريم، فليس من التكريم أن يَدخل حبوًا، وهذا شيء لا يرضاه أحدُ الكرماء من البشَر لضيفه، فكيف بخالِق البشر، وهو أَكرم الكرماء؟! لا سيما وقد كانت لعبدالرحمن مواقف لا تُنسى؛ منها ما نقله ابنُ كثير عن الزهري أنَّه "تصدَّق على عهد النبي صلى الله عليه وسلم بشطر ماله؛ أربعة آلاف، ثمَّ تصدَّق بأربعين ألفًا، ثم تصدَّق بأربعين ألف دينار، ثمَّ حمَل على خمسمائة فرس في سبيل الله، ثمَّ حمل على خمسمائة راحلة في سبيل الله"[17].
وبعد:
فأرجو أن يكفَّ أصحابُ المنابِر وأربابُ المحاريب عن تَرديد هذه الرِّواية التي لا تتناسَب أبدًا مع "أحد العشرةِ المشهود لهم بالجنَّة، وأحدِ الثَّمانية الذين سَبقوا إلى الإسلام، وأحد الستَّة أصحاب الشورى"[18].
والذي كان محدِّثًا فقيهًا، له رأيٌ في الحوادث، وبُعْدُ نظَر، ومعرفةٌ بالعواقب، ومثلُه يأتيه المالُ من طريقِه المشروع، ويضَعه في موضعه اللَّائقِ به.
فأمَّا كونه محدِّثًا، فقد ذكر له المزِّي (ت: 742هـ) في كتابه "تحفة الأشراف بمعرفة الأطراف"[19] (23) حديثًا، فضلًا عمَّن سواه[20].
ومن فضائله أنَّه قُبِلَت روايتُه وحده[21].
وأمَّا كونه فقيهًا، فإنَّ آراءه مَبثوثة هنا وهناك، وانظرْ منها ما أوردَه ابنُ القيم (ت: 751هـ) في "زاد المعاد في هدي خير العباد"[22]، وقد أُخِذَ بما رواه في مواقف عدة[23].
وكونه صاحب رأي في الحوادث: دلَّ عليه ما ذكره الحافظُ السَّخاوي (ت: 902هـ) في كتابه "الإعلان بالتوبيخ لمن ذمَّ أهل التوريخ"[24] من إبداء رأيه حين تداول الصحابةُ في ابتداء التاريخ.
وكونه بعيد النَّظَر، صاحب مَعرفة بالعواقب: يدلُّ عليه تصرُّفه السَّليم حين المؤاخاة بَين المهاجرين والأنصار، فعن أنس بن مالك قال:
"قَدِم عبدالرحمن المدينةَ فآخى النبيُّ صلى الله عليه وسلم بينه وبين سعد بن الرَّبيع الخزرجي، فقال: إنَّ لي زوجتين، فانظر أيهما شئتَ حتى أطلِّقها لتتزوَّجها، وأشاطرك نِصف مالي.
فقال: بارَك الله لك في أهلك ومالك، ولكن دُلُّوني على السوق.
فذهب ورجع وقد حصَّل شيئًا"[25].
فهو لم يَقبل الحَلَّ المؤقَّت، ولم يَعتمد على غيره، وقد آتَت هذه المقولةُ الرَّائعة "دلوني على السوق" ثِمارَها، حين كان يَأتي بالآلاف المؤلَّفة ليضعها في خِدمة الدَّعوة في وقتٍ هي أحوج ما تكون إليها، فهل يُعقل أن يقول له النبيُّ: إنَّك ستدخل الجنَّةَ حبوًا يا عبدالرحمن؟!
وأخيرًا، فلا بدَّ من هذا السؤال:
هل كان عبدالرحمن الغني الوحيد؟
الجواب: لا، فالأغنياء كثيرون.
فلماذا يَدخل الجنَّةَ وحده حبوًا، ولا يكون معه أبو بكر وعثمان مثلًا؟!
وأختم هذا البحث بما بَدأ به الإمام أبو نُعيم ترجمة عبدالرحمن، إذ قال[26]:
"وأمَّا عبدالرحمن بن عوف، فكان حاله فيما بُسِط له حال الأمناء والخزَّان، يفرِّقه في سبيل المنعِم المنَّان، ويستجيرُ بالله من التفتين فيه والطغيان، وتتَّصل منه المناحة والأحزان، خوف الانقِطاع عن إخوته والأخدان، أدرك الودق، وسَبَقَ الرنق[27]، كثير الأموال، متين الحال، تجود يدُه بالعطيات، وعينُه وقلبُه بالعَبَرات، وهو قدوةُ ذي الثروة والجدات، في الإنفاق على المتقشفين من ذَوي الفاقات"[28].
[1] انظر قائمة مسهبة بمصادر ترجمته في هامش "تاريخ الإسلام" (3/ 390 - 391).
[2] ولعل لبعضهم عذرًا بأنَّ الحديث ليس من اختصاصهم، وإنما يؤخذ كلُّ علم عن أهله؛ وانظر: "تلبيس إبليس"؛ لابن الجوزي صـ 114.
[3] إن أغلب كتب التراجم سارَت على هذا المنهج؛ مِن حشر ما يتعلَّق بالمترجم من أخبار دون ترتيبها حسب تسلسلها، فباتت الصورة غيرَ واضحة ولا مشوقة.
[4] وُصِف عبدالرحمن بأنه كان طُوالًا؛ انظر: "تاريخ الإسلام"؛ للذهبي (3/ 392).
[5] في القاموس صـ 1642: "حبا الرجل: مشى على يديه وبطنه".
[6] الموضوعات (2/ 13) من ط1، و(2/ 246 - 247) من الطبعة المحققة. وانظر: "سير أعلام النبلاء" (1/ 76 - 77)، و"شذرات الذهب" (1/ 194 - 195)، وفيه: "وما يُذكر أنه يدخل الجنة حبوًا لِغِناه، فلا أصل له، ويا ليتَ شعري إذا كان هذا يَدخلها حبوًا ويتأخَّر دخوله لأجل غِناه، فمَنْ سيدخلها سابقًا مستقيمًا؟".
[7] في الطبعة المحققة: أو، والصواب: و، كما جاء في الأولى.
[8] في الطبعة الأولى: يتشوق، وفي المحققة: متسوق، وقال المحقق: "وفي ب، ح: يتسوق"؛ وأرى أنَّ الصواب ما أثبتُّ.
[9] الموضوعات (2/ 247 - 248). واقرأ - إن شئت -: "كتاب القصَّاص والمذكِّرين"؛ لابن الجوزي.
[10] في القاموس صـ 1039: "الخشفة - ويحرك -: الصوت والحركة، أو الحس الخفي".
[11] رواه الإمام أحمد في "المسند" (5/ 259)، ومن طريقه الخطيب البغدادي في "تاريخ بغداد" (14/ 78)، ومن طريقه ابن الجوزي في "الموضوعات" (2/ 248).
[12] أي: في "المجروحين" (2/ 62 - 63).
[13] في الموضوعات (2/ 249).
[14] سير أعلام النبلاء (1/ 77)، وقد حاول الذهبيُّ - بعد نقدِ السند - تأويلَ ما رُوِي وتوجيهَه، فقال (1/ 77 - 78): "وبكل حالٍ فلو تأخَّر عبدالرحمن عن رِفاقه للحساب، ودخل الجنَّةَ حبوًا على سبيل الاستعارة وضربِ المثَل؛ فإن منزلته في الجنَّة ليسَت بدون منزلة علي والزبير؛ رضي الله عن الكل".
[15] في كتاب التوبة والزهد (4/ 137).
[16] سير أعلام النبلاء (1/ 81 - 82).
[17] البداية والنهاية (7/ 164).
[18] تاريخ الإسلام؛ للذهبي (3/ 391).
[19] (7/ 205 - 216).
[20] وله في مسند بقي بن مخلد خمسة وستون حديثًا؛ انظر: "بقي بن مخلد ومقدمة مسنده"؛ للدكتور أكرم العمري صـ 84.
[21] انظر في ذلك حديث السهو في الصلاة؛ أخرجه أحمد (1/ 190)، والترمذي (398) في الصلاة: باب ما جاء في الرجل يصلي فيشك في الزيادة والنقصان، وفيه أنَّ عمر قنع بخبر عبدالرحمن وحده. ويعلِّق الإمامُ الذهبي على هذا فيقول في "السير" (1/ 73): "فأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن كانوا عدولًا، فبعضهم أعدَل من بعض وأَثْبت، فهنا عمر قنَع بخبر عبدالرحمن، وفي قصَّة الاستئذان يقول: ائت بمن يشهد معك، وعلي بن أبي طالب يقول: كان إذا حدَّثني رجلٌ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم استحلفتُه، وحدَّثني أبو بكر، وصدَق أبو بكر؛ فلم يَحتج علي أن يَستحلِف الصدِّيق، والله أعلم".
[22] (2/ 244).
[23] ومن ذلك روايتُهُ الفاصلة في البلد الذي يحلُّ فيه الطاعون، وقد اختلف في دخوله عمر بن الخطاب وأبو عبيدة، ومنه أخذ الجزية من مجوس هجر...
[24] انظر صـ 511.
[25] انظر: "تاريخ الإسلام"؛ للذهبي (3/ 392)، ونصُّ الحديث - كما في رواية البخاري في كتاب البيوع: باب قوله تعالى: ﴿ فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ ﴾ [الجمعة: 10] برقم (2048)، وفي مناقب الأنصار: باب إخاء النبي بين المهاجرين والأنصار برقم (3780) -: قال عبدالرحمن بن عوف رضي الله عنه: "لمَّا قدِمنا المدينة آخى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بيني وبين سعد بن الربيع. فقال سعد بن الرَّبيع: إنِّي أكثر الأنصار مالًا، فأقسم لك نصف مالي، وانظر أي زَوجتَيَّ هَوِيتَ نزلتُ لك عنها، فإذا حلَّتْ تزوجتَها. قال: فقال له عبدالرحمن: لا حاجة لي في ذلك، هل من سوقٍ فيه تجارة؟ قال: سوق قينقاع. قال: فغدا إليه عبدالرحمن فأتى بأقط وسمن. قال: ثمَّ تابَعَ الغُدُوَّ، فما لبث أن جاء عبدالرحمن عليه أثر صفرة، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((تزوجتَ؟))، قال: نعم. قال: ((ومَنْ؟)). قال: امرأة من الأنصار. قال: ((كم سقتَ؟))، قال: زِنَة نواة من ذهب - أو نواة من ذهب -. فقال له النبيُّ صلى الله عليه وسلم: ((أَولِمْ ولو بِشاة)).
[26] حلية الأولياء (1/ 98).
[27] الودق: المطر، والمقصود: الصفو، والرنق: الكدر، وأصل هذه الكلمة لعلي رضي الله عنه، فعن إبراهيم بن عبدالرحمن أنَّه سمع عليًّا يقول يوم مات عبدالرحمن بن عوف: "اذهب يا بن عوف، فقد أدركتَ صفوَها، وسبقت رنقها"؛ أخرجه الطبراني في "المعجم الكبير" (263)، وأبو نعيم في "حلية الأولياء" (1/ 100)، وابن سعد في "الطبقات" (3/ 1/ 16)، كما في "السِّير" (1/ 90). قلتُ: وفي "البداية والنهاية" (7/ 114) تحرف "رنقها" إلى "زيفها".
[28] فُرِغَ من هذا البحث في 12/ 5/ 1992م.
وسوم: العدد 647