الداعية والفهم المقاصدي
- لو أن الدعاة استقاموا على عمود مقاصد الكتاب والسنة لكانت مشاربهم المتباينة، نبع إثراء ومظنة توسعة لساحة الالتزام .
فالمقاصد هي القِبلة التي تيمم التكاليف وجهها شطرها، فلا تتقلب في فضاءات الأبعاد إلا لتحقق العبادة ، والاستخلاف، وعمارة الأرض .
وفي هذه العجالة محاولة لبسط الفهم المقاصدي للدعوة في خطوطه العامة، تنطلق من واقع العمل الدعوي الغربي، الذي هو معني بداية في تثبيت المسلمين على دينهم، ثمّ دعوة غير المسلمين .
فالمقاصد كما عرفها مؤسس علم المقاصد الإمام الشاطبي :
[ المقاصد هي روح الأعمال ] الموافقات 2/344 .
وأولى بدهيات الفهم المقاصدي للدعوة تعريفها، فالبهي الخولي يذكر في تعريف العمل الدعوي :
[ هو نقل من محيط إلى محيط ] تذكرة الدعاة ص 38 .
وعند ابن عاشور أن أصل أصول الشريعة :
{ قوله تعالى :[ فطرة الله التي فطر الناس عليها} الروم 30. وقوله صلى الله عليه وسلم : [ كل مولود يولد على الفطرة] الشيخان، فمنها تصدر كل تصرفاته وبموافقتها تصلح هذه التصرفات أو تفسد، فهي جملة الدين في عقائده وشرائعه} المقاصد الإسلامية ص271 .
ويجب فهم مفهوم المقاصد، ويوضح الريسوني ذلك :
{ ونقطة الانطلاق في هذا: التسليم الجازم بكون الشريعة إنما وضعت- أنزلت- لجلب المصالح للعباد، ودرء المفاسد عنهم في الدنيا والآخرة} نظرية المقاصد عند الشاطبي ص 17 .
والمصالح نوعان :
1- مصالح دينية لا تُعرف إلا ما كان النقل طريقه .
2- مصالح دنيوية تعرف أيضاً بالأعراف والعادات .
وهنا تبرز قضية الأوْلى بالتقديم؛ يقول الإمام الشاطبي :
{ والمصالح الدينية مقدمة على المصالح الدنيوية على الإطلاق} الموافقات 2/648 .
وغالباً ما تكون المصالح الدنيوية مشوبة بمفسدة، ويوضح الإمام الشاطبي الفصل فيها:
[ مصالح الدنيا تفهم على مقتضى ما غلب، فإن كان الغالب جهة المصلحة فهي المصلحة المفهومة عرفاً، وإذا غلبت الجهة الأخرى فهي المفسدة عرفاً، ولذلك كان الفعل ذو الوجهين منسوباً إلى الجهة الراجحة ] الموافقات 2/20. وهنا أيضاً مسألة التخيّر، وكثيراً ما يحتج بحديث أمنا عائشة رضي الله عنها في البخاري: [ ما خُيّر رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمــــــــــــرين إلا اختار أيسرهما ما لم يأثم] ، يقول الإمام ابن حجر في تعليقه على الحديث :
[ المراد التخيّر في أمر الدنيا] الفتح 12/102.
وبنظر العلماء حول تلكم المفاهيم العامة بحثوا عن تأطير له سمة التأصيل بحثاً واتساقاً مع الأدلة، فقال الإمام الغزالي :
{ ومقصود الشارع خمسة: وهو أن يحفظ عليهم دينهم ونفسهم وعقلهم ونسلهم ومالهم، فكل ما يحفظ هذه الأصول الخمسة فهو مصلحة، وكل ما يفوت هذه الأصول الخمسة فهو مفسدة ودفعها مصلحة} المستصفى 1/286 .
وهذه الخمس عند علماء المقاصد تسمى المقاصد العامة أو الكلية أو الأصلية الواجب رعايتها في كل حال وأي زمان، لأنها تخص حياة الناس الدينية والدنيوية .
ثم يفردون لكل مجال مقصده الخاص والمراد الحكمة والغاية من ذلك، مثل : مقاصد العبادات أو المعاملات، أو الجنايات... ، من ثم كانت نظرتهم أكثر تركيزاً فقالوا : مقاصد جزئية لكل حكم شرعي تكليفي( واجب، مندوب، مباح، مكروه، محرم) ، أو وضعي( صحيح ، فاسد ، سبب، شرط ، مانع).
وقبل الإقدام على شيء يأتي مقصد المكلف ومداره على النية، للتفريق بين العبادة والعادة .
والمقاصد أو المصالح عامة قُسمت على ثلاث مراتب :{ الضروري ، والحاجي ، والتحسيني}، و أول من قال به الإمام الجويني .
والإمام الشاطبي أول من أرجع المقاصد إلى الفقه لا إلى أصوله، وحرره من التقعيد .
وعليه فإن الفهم المقاصدي يقوم على استخدام الفقه الملائم لكل مرتبة من المراتب الثلاث:
فعند الضرورة نتبع فقه الضرورات، والضروريات يترتب عليها انتظام أو اختلال الحياة للناس .
وضابطها : أن الإنسان لو اختار خلافها لكان ناقص الأهلية. وتحفظ من جانبين :
أ- الوجود بأن تكون لها الأولية .
ب- العدم أو الخلل الواقع أو المتوقع .
أمثلة الضروريات { أركان الإسلام الخمسة، وتناول الطعام والشراب، والنكاح، وتحريم الربا، حد الخمر، والقصاص، حد السرقة....} .
وعموماً الضرورة مبثوثة في كتب الفقه، وأفرد لها بعض العلماء كتباً مستقلة، وما يجب على الداعية مراعاته الضرورات أولاً، والتفريق بينها وبين الحاجات والتحسينات .
أما الحاجيات فهي المساحة الأوسع في حياة الناس، المقصد منها [ رفع الحرج والمشقة عن المكلفين وحماية الضروريات] الموافقات 2/11 .
وهي تتبع فقه الموازنات، وهي ميدان العمل الدعوي، فكثير من المسلمين ربما وقع في مخالفة نتيجة جهله بفقه الموازنات، وهو فقه استثنائي لأن الأصل هو تحصيل كل المصالح، ودرء كل المفاسد، بيد أن الواقع يقول: أن البشر متفاوتو الفهم والقدرة والظرف...، ولأن الشريعة تصلح لكل زمان ومكان وحال، أصل العلماء لفقه الموازنات، ويحذر الإمام القرضاوي من الجهل بفقه الموازنات بقوله :
[ وإذا غاب عنا فقه الموازنات، فقد سددنا على أنفسنا كثيراً من أبواب السعة والرحمة، واتخذنا فلسفة الرفض أساساً لكل تعامل] أولويات الحركة الإسلامية ص 32.
ومن أمثلتها { رخص العبادات، والتمتع بالطيبات، والطلاق، والإجارة، ورفع الحرج عن المكره، ورخص المرض، والدية، والشركات....} .
ومظنة مكانها الأصلي عند ابن عاشور: [ ويظهر أن معظم المباح في المعاملات راجع إلى الحاجي] مقاصد الشريعة الإسلامية ص 241 .
ولأهمية الحاجيات عاملها الشارع معاملة قد تشابه الضرورات أحياناً في إباحة المحظورات .
وبخلاصة بسيطة:
المصالح الحقيقية أو المنافع لا يعدو حكمها عن واجب أو مندوب أو مباح.
أما المفاسد، فلا يعدو حكمها المكروه أو المحرم ، إن لم تدرأ .
أما التحسينات سمّاها الإمام الغزالي التزينيات، وبينها البوطي بقوله :
[ وأما التحسينات فإن تركها لا يؤدي إلى ضيق، ولكن مراعاتها متفقة مع مبدأ الأخذ بما يليق، وتجنب ما لا يليق، ومتمشية مع مكارم الأخلاق ومحاسن العادات] ضوابط المصلحة ص111 .
ويزيد ابن عاشور نظرة مقاصدية دعوية بقوله عن التحسينات :
[ والمصالح التحسينية هي عندي ما كان بها كمال حال الأمة في نظامها حتى تعيش آمنة مطمئنة] مقاصد الشريعة ص243 .
ومن أمثلتها{ النوافل ، والطهارات، ، تجنب القليل المسكر، والبذل للمحتاج، إمساك الزوج بالمعروف أو التسريح بإحسان، النهي عن الغدر، النهي عن إحراق الحي أو الميت...} .
وهي تخضع لفقهين أولهما فقه الأولويات، وثانيهما فقه المآلات .
والأولويات كما تدل لغوياً، وهي ميزة للعاقل عند الإمام ابن تيمية :
[ ليس العاقل الذي يعلم الخير من الشر، وإنما العاقل الذي يعلم خير الخيرين، وشر الشرين] الفتاوى 20/54 .
وهي ميزان ترجيح لقواعد البدهيات من مثل [ تقديم الدائم على المنقطع، والمتعدي على القاصر، والأصل على الفرع، والفرض على المندوب، والفرض العيني على الكفائي ...] .
أما فقه المآلات فعلينا أن ندرك أن لكل فعل مآلاً، وهو أثره أو نتيجته في الواقع، ويعرفها فريد الأنصاري :
[ أصل كلي يقتضي اعتبار تنزيل الحكم على الفعل بما يتناسب وعاقبته المتوقعة استقبالاً ] المصطلح الأصولي عند الإمام الشاطبي ص362 .
ويقوم فقه المآلات أساساً على دعامتين هما :
أولاً: الذرائع سداً وهو المنع ، أو فتحاً والمعنى رفع الحرج والمشقة.
وثانياً: على الاستحسان ويعني الاستثناء من أصل غالباً ، وعرفه الباحسين :
[ العدول في مسألة عن مثل ما حكم به في نظائرها إلى خلافه، لوجه يقتضي التخفيف، ويكشف عن وجود حرج عند إلحاق تلك الجزئية بنظائرها] رفع الحرج في الشريعة الإسلامية ص 288 .
مثال على المراتب الثلاث مجتمعة: صلاة الفرض ضرورة، واستقبال القبلة فيها حاجة، وستر العورة فيها تحسين .
ولكل مرتبة من الثلاث مراتب( الضروري، والحاجي، والتحسيني) تكميل، والمقصود جعل كل مرتبة تامة، والمكملات لها شرط واحد : أن لا يعود على أصل بالإبطال، وتعد كل مرتبة مكملة لما قبلها فالحاجي مكمل للضروري، والتحسيني مكمل للحاجي، وتخضع جميعها لقاعدة { ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، وما أدى إلى محظور فهو محظور} .
من أمثلتها {البيع ضرورة ومنع الغرر والجهالة فيه مكمل} .
والفهم المقاصدي للدعوة يُعنى أولاً بالنظرة الكلية؛ لأن المقاصد هي [ المصالح التي قصدها الشارع بتشريع الأحكام] قواعد الوسائل في الشريعة مصطفى بن كرامة الله ص 34 . مقدماً المقاصد الخمسة العامة لأن في تقديمها قاسماً مشتركاً إنساني لأصحاب العقول السليمة، ثم ينزل إلى حاجات الناس، ويُحسن دعوته بإضافة كل ما شأنه قوة وزيادة لحياة آمنة رغد، فمن لم يتفطـن للمقاصد فليس على بصيرة .
وسوم: العدد 694