صورة الإسلام والمسلمين
نعم، إنني أدعو المسلمين حيثما كانوا مِنْ شرقٍ أو غربٍ إلى التفوّق في مختلف الاختصاصات، والتقدّم في مختلف مجالات الحياة، ليكون لهم وجودهم الفاعل الملموس، وأثرهم النافع المحمود، وصورتهم الحقيقية الجميلة، وليكونوا أقدر على خدمة أوطانهم ومجتمعاتهم، وخدمة الإنسانية والإنسان حيثما كان
ولكنني لا أُغْفِل أبداً دورَ المسلم العاديّ البسيط، ولا أنتقِص من قيمته وأثره؛ بل ربّما كان في بعضِ الأحيان أبلغَ أثَراً من سواه من الأدوار
فالمسلم الذي يحسن المعاملة مع نفسه، ومع أسرته، ومع مجتمعه، يُؤَدّي لإسلامه، ويُؤَدّي لأسرته ومجتمعه بالإسلام أجلَّ الخدمات
وليس الأمر في أصله وجوهره بالغ التعقيد؛ وإن كان الكمال فيه وفي سواه ليس له حَدّ
ويكفي المسلمَ الصالحَ في الْبَدْء، أن يأخذ بتعاليم دينه الواضحة في علاقاتِه المختلفة، ليكونَ ناصحاً نافعاً لنفسه وأهله ولسائر الناس، ولتكون صورتُه وصورة الإسلام من خلاله أجملَ الصور.
آيةٌ واحدةٌ في بعض الأحيان من القرآن الكريم أو آيات، وجُمْلَةٌ من القرآن الكريم أو جُمَلٌ معدودات.. وإذا المسلمُ على أوَّلِ الطريق القويم في هذا المَجال أو ذاك المَجال
وكثيراً ما تذكرت وأنا أمُرّ ببعض هذه الآيات والجمل قول أحمد شوقي في نهج البردة:
جاءَ النبيّونَ بالآياتِ فانْصَرَمَتْ... وجئتَنا بحكيـمٍ غيرِ مُنْصَرِمِ
آياتُه كلّما طالَ المَدى جُـدُدٌ... يَزينُهُنَّ جلالُ العِتْقِ والقِدَمِ
يكادُ في لَفْظَـةٍ مِنه مُشَـرَّفَةٍ... يُوصِيكَ بالحقِّ والتقوى وبالرّحمِ
ولْنَأْخُذْ في الأمر الذي نحن بصدده -على سبيل المثال- هذه الآية الكريمة من كتاب الله عزَّ وجلَّ:
„وَاعْبُدُوا اللَّـهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّـهَ لَا يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا ﴿٣٦﴾“ سورة النساء
ولْنَكْتَفِ من هذه الآية الكريمة بجزء صغير منها في هذا الحديث، حتى لا تَتَّسِعَ مجالات الكلام، وتتعدّد جوانبُه ومَناحيه، مِمّا يحتاج كتاباً كاملاً، لا مقالاً صغيراً سريعاً، يشير إشارةً ولا يستقصي، ويقتصر على جانب محدود لمجرد المثال
لِنَكْتَفِ مِنَ الآية الكريمة بقول الله عزَّ وجلَّ فيها:
„ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ“ أي بما أمر الله به فيها من الإحسان إلى الجار
ولكن مَنْ هُوَ الجارُ ذو القُرْبَى والجارُ الْجُنُبُ والصاحبُ بالجَنْب المقصودون بالكلام، والذين يستوجبون ما أمرَ الله تعالى به من الإحسان؟
قال نوفٌ الشاميُّ(1) في تفسيرِ „وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُب“:
“الجارُ ذو القُرْبَى: المسلم، والجارُ الجُنُبُ: اليهوديُّ والنصْرانيّ“.
قال القُرْطُبيّ:
- „وعلى هذا فالوَصَاةُ بالجارِ مأمورٌ بها، مندوبٌ إليها مسلماً كان أو كافراً، وهذا هو الصّحيح“
وقال في موضعٍ آخر:
- „قال العلماء: الأحاديث في إكرام الجار جاءتْ مُطْلَقَةً غَيْرَ مُقَيَّدَة فهي تشمَل حتى الكافر كما بَيّنّا“ [تفسير القرطبي 183:5]
وقال الحافظ ابن حَجَر في فتح الباري:
- „واسمُ الجارِ يشمَلُ المسلمَ والكافر، والعابدَ والفاسِق، والصديقَ والعدو، والغريبَ والبَلَدِيّ، والنافِعَ والضار، والقريب والأجنبيّ، والأقرَب والأبعد.. وله مراتب بعضُها أعلى من بعض، فأعْلاها مَنِ اجتمعتْ فيه الصفاتُ الأُوَلُ كلُّها، ثمّ أكثرُها، وهَلُمَّ جَرّاً إلى الواحد، وعكسُه مَنِ اجتمعت فيه الصفاتُ الأُخرى كذلك، فَيُعْطَى كلٌّ حَقَّهُ بحَسَبِ حالِه. وقد وردت الإشارةُ إلى ما ذكرتُه (ما يزال الكلام هنا للحافظ ابن حجر) في حديثٍ مرفوع أخرجه الطّبَراني مِنْ حَديث جابر رَفَعَهُ:
„الْجِيرَانُ ثَلاَثَةٌ: جَارٌ لَهُ حَقٌّ وَهُوَ المُشْرِكُ لَهُ حَقُّ الْجِوَارِ، وَجَارٌ لَهُ حَقَّانِ، وَهُوَ الْمُسْلِمُ لَهُ حَقُّ الْجِوَارِ وَحَقُّ الإِسْلاَمِ، وَجَارٌ لَهُ ثَلاَثَةُ حُقُوقٍ: مُسْلِمٌ لَهُ رَحِمٌ، لَهُ حَقُّ الْجِوَارِ وَالإِسْلاَمِ وَالرَحِم“ [فتح الباري ج10- ص241-242] في شرح حديث: ما زال جبريل يوصيني بالجار..
وكما أوصَى الإسلام بإكرامِ الجارِ مؤمناً كان أو كافراً، مسلماً كان أو غيرَ مسلم، نَهَى أشدَّ النّهْيِ، وقَبَّحَ أشدَّ التقبيح، وحَذّرَ أشدَّ التحذير مِنْ إيذائِه، وبيّنَ مُنَافاةَ ذلك للإيمان، وأنذَرَ عليه بالحرمانِ مِنَ الجنة
رَوَى البخاريّ ومسلم في صحيحيهما عن أبي هريرة رضيَ اللهُ عنهُ أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلم قال:
- „وَاللَّهِ لاَ يُؤْمِنُ، وَاللَّهِ لاَ يُؤْمِنُ، وَاللَّهِ لاَ يُؤْمِنُ!“
قِيلَ: مَنْ يَا رَسُولَ اللَّه؟
قَالَ:
- „الْذِي لاَ يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ“ أيْ لا يأمَنُ كَيْدَهُ وشَرّه وأذاه
وفي رواية لمسلم:
- „لاَ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ لاَ يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ“
قال القرطبي:
- وهذا عامٌّ في كلّ جار
والرسول صَلّى الله عليه وسلم يُكَرّرُ في غير ما تقدّم من الحديث الصلة الوثيقة بين الإيمان وإكرام الجار، وأنَّ إكرام الجار مِنْ مقتضيات الإيمان:
روى البخاريُّ ومسلم في صحيحيهما عن أبي هريرة رضيَ اللهُ عنهُ أنّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال:
- „ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ باللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ باللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلْيُكْرِمْ جَارَهُ (2)، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ باللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ“
وقد بلغ مِنْ حرصِ الإسلام على رعايةِ الجار، ومِنْ إلحاحِهِ في ذلك، ومبالغتِه فيه، ما يكشِفُه لنا حَديثُ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم الذي رواه البخاريُّ ومسلم في صحيحيهما:
- „مَا زَالَ جِبْرِيلُ يُوصِينِي بِالْجَارِ حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ سَيُوَرِّثُهُ“
أما ما هي حُدود الجوار؟ فقد تعدّدت في ذلك الأقوال:
قال القرطبي :
- اختلف الناس في حَدِّ الْجيرة؛ فكان الإمام الأوزاعي يقول: أربعونَ داراً مِنْ كُلِّ ناحية
وقال علي بن أبي طالب رضيَ اللهُ عنهُ: „من سمع النداء ( الأذان ) فهو جار“
وقال آخرون: „من ساكَنَ رجلاً في مَحَلَّةٍ أو مَدينةٍ فهو جار“ تفسير القُرْطُبي باختصار
ومِنْ حقوقِ الجارِ التي فصّلت لنا بعضَها بعضُ الأحاديث والآثار.. حديث مُعاذ بن جبل رضي الله عنه قال:
قلنا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا حَقُّ الْجَارِ؟
قال:
- „إنِ اسْتَقْرَضَكَ أقرَضْتَه، وإنِ استعانَك أعنتَه، وإن احْتاجَ أعطيتَه، وإن مرضَ عُدْتَه، وإن مات تبعْتَ جنازتَه، وإن أصابَه خيرٌ سَرّكَ وهَنَّيْتَه، وإن أصابتْه مُصيبة ساءتْكَ وعَزَّيْتَه، ولا تُؤْذِهِ بقُتارِ(3) قِدْرِك إلاّ أنْ تغرِفَ لهُ منها، ولا تَسْتَطِلْ عليه بالبناء لتشرفَ عليه وتَسُدَّ عليه الريح إلاّ بإذنِه، وإنِ اشتريتَ فاكهةَ فأهْدِ لهُ مِنْها وإلاّ فأدخِلْها سِرّاً لا يخرُجُ ولدُك بشيءٍ مِنْها يَغيظون بهِ وَلَدَه
فَهَلْ تفقهونَ ما أقولُ لكم؟
لن يُؤَدِّيَ حَقَّ الجارِ إلاّ القليل مِمَّنْ رَحِمَ الله“ الجامع لأحكام القرآن 5/188
وأما الصاحبُ بالجَنْب، الذي أمرَ اللهُ بإحْسانِ صحبتِه والإحسانِ إليه، فهو مَنْ يكون بجوارِك وصُحْبتِك في مدرستِك أو جامعتِك إذا كنتَ طالباً، وفي معملِكَ أو ورْشَتِكَ إذا كنتَ عامِلاً، وفي قطارِك أو طائرتِك إن كنت مسافِراً، وفي أيّ مكانٍ أو نشاطٍ جامعٍ دائِمٍ كانَ ذلكَ أو مُوَقَّتٍ طارئٍ أو عابر
وقولوا لي الآن أيها القراء الأعزاء:
- لو أنَّنا توجَّهْنا في هذا المَجال بما وَجَّهَنا به دينُنا، وأمرَنا بهِ أو أوصانا به رَبُّنا ورسولُنا، أَلا يكونُ لنا في المُجْتمعات التي نعيش فيها، أو نَمُرّ بها أجملُ صورَة وأكرَمُ أثر
ألا يَنْغَرِسُ لنا بذلكَ في قلوبِ مَنْ نُجاورُهُم أو نصاحبُهم أو نلتقي لقاءً عابراً بهم المَحَبَّةُ والاحْتِرام
إنَّ الصورةَ القبيحةَ للمسلمينَ بأعمالِهم أو افتراءِ أعدائِهم لا تنمَحِي بيومٍ أو أيّام
وإنَّ الصورة الجميلة لا تظهر وتَثْبُتْ وتَغْلِب بيومٍ أو أيّام
فلا بُدَّ مِنَ الصبرِ والثباتِ والعملِ الدائِبِ المستمِر لتنكشفَ للقريبِ والبَعيد حَقيقةُ الإسْلام، وحَقيقةُ المسلم، ولِيَحِقَّ الحَقُّ ويَزْهَقَ الباطِل
وعملُنا هذا الذي نَعْمَلُه، وصبرُنا هذا الذي نصبرُه، إنما هو دينُنا الذي نؤمِن به، وعبادةٌ لربنا بما كلَّفَنا به وأمَرَنا، بصَرْفِ النظر عن الفوائِد والنتائِج المرتقبة
في الغرب الآن ملايين وملايين من المسلمين.. لو أنَّهُم وَفَوْا لدينِهم، وعملوا بإسلامِهم، كيف كانتْ تكونُ حالُهم، وحالُ مجتمعاتِهم بهم؟
هل تكونُ ثَمّةَ صورةٌ أجمل، وتقدّمٌ أفضل، وخيرٌ أجْزَل؟
أيها المسلمون
إستمعوا إلى نداءِ إسلامِكم، وتعاليمِ دينِكم، وواجباتِكم الخُلُقِيّة والاجتماعِيّة والإنسانِيّة، ففي ذلك خيرُ الدنيا والآخرة
_____________
(1) إمام أهل دمشق في عصره. توفّي نحو سنة 95ﻫ ، وقد ذكره البخاري في فضل من مات ما بين التسعين إلى المائة.
(2) وفي الرواية الأخرى -كما ذكر الإمام النَّوويّ في شرحه لصحيح مسلم 20:2- „فلا يُؤذي جاره“ قال: وروينا في غير مسلم: „فلا يؤذ“ بحذف الياء وهما صحيحان، فَحَذْفُها للنهي، وإثباتُها على أنه خبر يُراد به النهي فيكون أبلغ.
(3) القُتار: الدخان من المطبوخ، وريح اللحم المشوي، وأمثال ذلك
وسوم: العدد 694