ميلاد للبشرية بميلاد خير البرية
الحمد لله الخبير البصير، والصلاة والسلام على البشير النذير، وعلى آله وصحبه أجمعين.
لا شك أن ميلاد النبي –صلى الله عليه وسلم- كان حدثًا عظيمًا في تاريخ الإنسانية، وحدثًا فارقًا في تاريخ الرسالات والدعوات، وكأن البشرية ببعثة النبي محمد – صلى الله عليه وسلم- الرسول الفريد قد وُلدت من جديد، فقد جاء بأملٍ جديد، وخير عديد، وعطاءٍ مديد، يقول الله تعالى :]وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ[[الأنبياء:107].
كان العالم قبل مجيء رسول الإسلام النبي – صلى الله عليه وسلم - يعيش حالة من الفوضى منتشرة في جميع الميادين الأخلاقية والعلمية والأسرية، ووصلت إلى مرحلة لا تطاق، وبلغ السيل الزبى، ووصل العالم أجمع في ذلك العصر إلى وضع هو دون مستوى الحيوانات، من وأدٍ للبنات، وانتهاكٍ للحرمات، وفعل للمنكرات، وتغلبٍ القوي على الضعيف، وحروبٍ وقتل لأبسط التفاهات، وانتشرت العصبيات وحب النفس والذات، كما قال الشاعر:
ونشرب إن وردنا الماء صفوا *** ويشرب غيرنا كدرًا وطينا
و الله يذكرنا بذلك، فيقول:]وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ[[آل عمران:103]
كما انتشر الإشراك بالله، وحُرفت الكتب السماوية والشرائع التي جاء بها الأنبياء، وعاد الناس إلى عبادة الأوثان والأحجار، وادعاءِ أن لله ولدًا وله صاحبة، وحاشاه – جل جلاله- ] قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4)[.
ولما وُلد الرسول المصطفى – صلى الله عليه وسلم - وقَرَت به عيونُ أهل الوفا والصفا، وظهر إلى الوجود رحمةً إلى جميع الناس، وكُسِيَ من أجله الوجودُ بأفخرِ لباس، وفُتحت أبوابُ الجنان وتزخرفت لقدومه استبشارا، وخمدت النيرانُ وأُغلقت منها الأبواب منَّةً وإشعارا، وغاضت بحيرة ساوة، وحُرست السماء بالشهب، ومُنع منها كل شيطان، وتكسرت تعظيمًا له الأصنام والصلبان.
فسبحان من حباه الهداية والعناية والبر والإكرام، وقال في حقه إظهارًا لعلو فضله وتذكيرا] يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا[(الأحزاب:46،45).
حتى أعداؤه استفادوا بمولده – صلى الله عليه وسلم - :فعن الحافظ شمس الدين ابن الجزري قال في كتابه المسمى (عرف التعريف بالمولد الشريف) ما نصه: "قد رؤي أبو لهب بعد موته في النوم فقيل له: ما حالك؟ فقال: في النار إلا أنه يخفف عني كل ليلة اثنين، وأمُص من بين أصبعَيَّ ماءً بقدر هذا، وأشار لرأس أصبعه، وأن ذلك باعتاقي لثُويبة عندما بشرتني بولادة النبي صلى الله عليه وسلم وبإرضاعها له، وأنشدوا:
إذا كان هذا كافرا جاء ذمه *** وتبت يداه في الجحيم مخلدا
أتى أنه في الاثنين دائما *** يخفف عنه للسرور بأحمدا
فما الظن بالعبد الذي عاش عمره***بأحمد مسرورا ومات موحدا
فالرسول - صلى الله عليه وسلم- رجل إنساني من طراز فريد كأنه ما خلق في الأرض إلا ليمسح دموع البائسين، وليضمد جراح المجروحين، وليذهب آلام البائسين المتألمين، فكان الزوج الصالح، والحاكم العادل، والأب الرؤوف، والصديق الوفي.
فهو رجل عبادة، قام بين يدي الله حتى تورمت قدماه، فلما قيل له: أولم يغفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال قولته الجميلة: «أفلا أكونُ عبدًا شَكورًا». أخرجه الشيخان.
وهو رجل دعوة أخذت عرقه ووقته وفكره وروحه، قال له ربه: ]يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ[[المدثر:1-2]، فقام ولم يذق طعم الراحة حتى لقي ربه جل وعلا، فرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما تعلقت به قلوب أصحابه إلا لأنه قدوة، ما أمرهم بأمر إلا وكان أول المنفذين له، وما نهاهم عن نهي إلا وكان أول المنتهين عنه، وما حد لهم حداً إلا وكان أول الوقافين عنده.
كان يحول الأعداء إلى أصدقاء، كما فعل مع ثمامة سيد اليمامة الذى جاء لقتله، كيف حول خلق النبي صلى الله عليه وسلم وأدبه ورحمته وتواضعه البغض في قلب ثمامة إلى حب مشرق ورفق ولين. وكان يبدل الأخلاق الرذيلة بالفضيلة، كما فعل مع الشاب الذي جاء يستأذنه في الزنا.
أما طريقة دعوة النبي- صلى الله عليه وسلم- وتعامله مع الخلق، فقد كانت بالحكمة والموعظة الحسنة، كما قال رب العزة – جل وعلا- لنبيه - صلى الله عليه وسلم- : {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف:108]، {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ } [النحل:125]، {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:159]. فقدَّم النبي -صلى الله عليه وسلم- الإسلامَ كمنهجِ لحياةٍ بشريةٍ واقعية، فأرسى دعائم التسامح بين البشر، ودافع عن حقوق الإنسان قبل إنشاء منظمة حقوق الإنسان بقرون، وأرسى حضارة إسلامية متكاملة لما قدمه المسلمون الأوائل للعالم من أرقى حضارة وأعظم نموذج لها؛ وذلك بتفوقهم ونبوغهم العلمي والأخلاقي والديني، حضارة تجمع بين العلوم الشرعية والعلوم الحياتية، تجمع بين بناء المصانع والمادة وبين بناء الإنسان، فكان هو النموذج البشري المتكامل.
أسأل الله جل وعلا أن يردنا إلى الحق رداً جميلاً، وأن يجعلنا من الذين يتأسون برسوله -صلى الله عليه وسلم- وممن يكون في صحبته في الجنة، وممن يقدمون الخير للبشرية دائما.
وسوم: العدد 698