فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ
من الطبيعي أن يقع الخلاف بين البشر، والمسلمون جزء من هؤلاء البشر، لكنّ خلافهم ينبغي ألا يخرج عن الأصول، وإذا خرج عنها، فربما تُفضي الخلافات إلى الاقتتال بينهم، وإلى وقوع الفتنة والحرب والصراع بين فئاتهم. يقول الله عزّ وجلّ في مُـحكَم التنزيل:
(وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) (الحجرات:9 و10).
* * *
لنلاحظ أنّ هاتين الآيتين الكريمتين، المذكورتَيْن أعلاه، قد وردتا مباشرةً بعد الآيات التي تتحدّث عن (التثبّت في تلقّي الأنباء وروايتها): (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ) (الحجرات: 6).
فالنبأ الكاذب، قد يقود إلى البغضاء والشحناء، ثم إلى الاقتتال.. فالفاسقون المفسدون، لاسيما المندسّون في الصفوف، يحملون الأنباء الكاذبة، وينقلونها بين الناس، فيوغرون الصدور، ليقعَ الخلافُ والاقتتال والبغي.. ولهذا، فإنّ إهمال أمر الفاسق الكاذب، أو إهمال التعامل حسب ما أمرنا الله عزّ وجلّ، تجاه النبأ أو الأنباء، كما شرحناه في الحلقة السابقة.. قد لا يقتصر سوؤه على مجرّد كلمةٍ كاذبةٍ تُقال، أو نبأٍ كاذبٍ يُنقَل وينتهي الأمر.. بل ربما سيتعدى ذلك، إلى درجاتٍ أكبر، من الخلاف والعداوة والشحناء.. ثم إلى الاقتتال، ووقوع الفتنة والحروب.. فتكون الأنباء الكاذبة كبذور الشرّ والسوء، التي قد تجدُ فرصةً، أو أرضاً خصبةً، عند الذين لا يمتثلون لشرع الله وأوامره.. فيؤدي ذلك إلى شرٍّ وبلاءٍ عظيم.
وقد ذكرنا كيف تكون الوقاية، من ذيول ما يُحدِثه النبأ الكاذب في النفوس.. وقلنا إن الوقاية تتم باتباع أمر الله عزّ وجلّ: (فتبيّنوا)!.. لكن إذا تمكّن الفاسقون من إتمام فتنتهم وجريمتهم، في إيقاع الخلاف بين المسلمين.. فهناك درجة أخرى من العلاج، وهذا ما بحثته الآيتان الكريمتان السابقتان.
* * *
فإذا دَبَّ الخلاف بين جماعَتَيْـن أو فِئتَيْن (أو حتى شخصَيْـن) منكم، أيها المسلمون.. ثم إذا وقع القتال.. فإنه على المؤمنين الصادقين، أن يُـحاصِروا نيران الشقاق، بالسعي إلى الإصلاح بين الطرفين، وهذا لا يُنجَز إلا: بالاستماع إلى الفريقَيْـن بتجرّد، ثم بالعمل على إطفاء النيران، بتقريب وجهات النظر، وتَـليين القلوب، والحكم بالعدل، ومن المهم جداً أن يُرفَعَ الظلم عن المظلومين، وتُزال عوامل الضرر والأذى، سواء بالتعويض أو بغيره، ومن المهم أيضاً، النظر إلى أمور الخلاف، بعينَيْن اثنتَيْن، وليس بعينٍ واحدة.. وهكذا. فالمؤمنون مطالَبون بالإصلاح وإزالة أسباب الخلاف نهائياً، وهذا عندما يكون الخلاف في الرأي، وتكون الخصومة فكرية (قبل استفحالها).. وذلك بالحوار الهادئ، وبالاحتكام إلى شرع الله عزّ وجلّ ومنهجه القويم: (فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا): بالنصح، والتوعية، والتبصير، والتذكير بشرع الله عزّ وجلّ، وبالاحتكام إلى أحكام الإسلام.
* * *
ولا بد من التنويه، أنّ أحكام قول الله عزّ وجلّ في الآيتين السابقتين، تشمل كل الفتن التي يمكن أن تقع بين المسلمين، وفي أي بقعةٍ من بقاع الأرض، وفي أي زمانٍ كان.
وهكذا.. فالآيتان تبحثان في قاعدةٍ تشريعيةٍ عملية، لصيانة الأمة المسلمة، والمجتمع المسلم، والجماعة المسلمة.. من التفكّك والخصام. وقد صنّف علماء الإسلام، بناءً على ذلك، ما سُمِّي بأحكام (البُغاة)، ومن هذه الأحكام والقواعد ما يأتي:
1- مَصلحةُ الأمة العامة فوق أية مصلحة.. فلا بد من صيانة الأمة المسلمة من التفكّك والخصام، بالحق، والعدل، والحزم، والاحتكام إلى شرع الله عزّ وجلّ ومنهج الإسلام العظيم.
2- وَصْفُ الإيمان، يبقى للفئتين أو الطرفين المقتتلين، مع اقتتالهما.. إلا إذا أعلن أحدُهُما خروجَه عن شرع الله ومنهج الإسلام، وكَفَرَ به، فعندئذٍ يُسمى هذا الطرف، بالطرف الخارج عن الإسلام.
3- البغي يمكن أن يكون من أحد الطرفين المقتتلين، أو من كليهما معاً.. وهذا يتطلّب وجود قوّةٍ من المسلمين، قادرةٍ على حصر الخلاف، بالحكمة والموعظة الحسنة، أو بالقتال، وذلك إن لم يكن بدٌ منه.
4- القتال هو الحل الأخير لإنهاء الخلاف (آخر الدواء الكيّ).. فإذا كان السلام والحب والوئام بين المسلمين هو القاعدة.. فإنّ الخلاف والشقاق والخصومة والفتن.. هي الاستثناء، وإن وقع هذا الاستثناء، فيباح في سبيل القضاء عليه.. كل الوسائل، بما فيها قتال الفئة الباغية، لإجبارها على العودة إلى الصف المسلم.. وهو إجراء صارم حازم، يأمرنا به الله عزّ وجلّ، للحفاظ على وحدة الأمة المسلمة.
5- قتال البُغاة المسلمين، ليس بهدف القضاء عليهم، ولكن بهدف ردّهم إلى الصواب، وإلى شرع الله عزّ وجلّ، وإلى صفّهم الإسلاميّ، وإلى الانضواء تحت لواء (الأخوّة) في الله سبحانه وتعالى وحده.
6- الإصلاح لا ينجح، إلا بعودة الباغي، أو إعادته، إلى شرع الله، وإلى مَنهج الإسلام ودستوره وأحكامه.
7- واجب القيام بالإصلاح، يقع على جميع المسلمين المؤمنين، لصيانة وحدة الأمة، ولمنع تفتّتها وتفكّكها، الذي يجعلها فريسةً سهلةً، لعدوّها وللطامعين بها.
8- يرى الإمام البخاري وبعض الأئمة.. أنّ المؤمن، لا يخرج عن الإيمان بالمعصية، مهما عظمت.
9- البغي على الإمام العادل المسلم الذي يحكم بما أنزل الله.. لا يُخرِج عن المِلَّة، إلا إذا كان هدفُ الباغي، نزعَ السلطان الحاكم بالإسلام، وتعطيل الحكم بشرع الله عزّ وجلّ، وبمنهج الإسلام ودستوره، وذلك للتحوّل بالأمّة، إلى الحكم بالمناهج الوضعية الظالمة الطاغية.. فالبغي هنا هو الكفر الصريح.
* * *
وماذا بعد محاولات الإصلاح بالتي هي أحسن، وبالحوار الهادئ الهادف؟!..
إنْ رفض أحد الطرفين، أو كلاهما، الرجوع إلى الحق والعدل والعقل والصواب.. واستمرَّ في الخصام، ولم يقبل بجهود الإصلاح العادل، وبالرجوع إلى شرع الله عزّ وجلّ، لحلّ الخصومة.. وأصرّ على الاقتتال وخوض الحروب.. فعندئذٍ لا يبقى أمام المؤمنين، إلا قتال البُغاة، لإجبارهم على العودة إلى حكم الله عزّ وجلّ وشرعه، وذلك قبل أن تعمَّ الفتن في كل ركنٍ من أركان الأمة، فلا يسلم منها أحد، حتى الذين لم يشتركوا فيها.. لأنّ النيران التي ستشتعل، يمكن أن تمتدّ، لتحرق كل شيءٍ، فيذوق وَبَالها وشرّها وآثارها كلُ الناس في الأمة.
لا بد إذن، من قتال البُغاة الـمُصِرّين على الاقتتال، حتى يعودوا إلى شرع الله عزّ وجلّ، وإلى الامتثال لأحكامه، ويقتنعوا بأنه لا حلّ إلا بهذا الرجوع، إلى مَنهج الله سبحانه ودستوره. فإن عادت الفئة الباغية إلى الحق وإلى رشدها.. فعندئذٍ تُتابَعُ وسيلة الإصلاح، بعد وقف الاقتتال، وذلك بالحق والعدل والدقة في طاعة الله عزّ وجلّ.. لإحقاق الحق وإبطال الباطل!..
لنلاحظ، كيف وردت كلمة: (وَأَقْسِطُوا)، مُـجَرَّدةً، بلا مفعول به.. ليكون المعنى مشرعاً، أي: اعدلوا في كل أموركم (وليس في الخلاف الذي وقع وكان سبباً لنزول الآية الكريمة).. فالله عزّ وجلّ يحبّ: (الْمُقْسِطِينَ): أي العادلين، فالعدل يستجلب محبة الله تبارك وتعالى، ما يبارك كل خطوةٍ يقوم بها العادلون أو الحريصون على تحقيق العدل.
* * *
المؤمنون إخوة، وأخوّة الإيمان والإسلام، أقوى من أخوّة النسب، فلا معنى لأخوّة النسب إذا خلت من أخوّة الإيمان.. (فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ)، وهو فعل أمر، أي أمرٌ منه سبحانه وتعالى، يفهم منه وجوب الالتزام بواجب الإصلاح.. والأخَوَان، هما أقل عددٍ من المسلمين، يمكن أن يقع بينهما خلاف وشقاق، فالقاعدة في الإصلاح، تسري على أي عددٍ من المؤمنين يقع بينهم خلاف وشقاق، أقلّه اثنان!.. و(اتَّقُوا اللَّهَ) عزّ وجلّ في خصوماتكم –أيها المسلمون- إنْ وقعت، واحذروا عقابه، وافعلوا ما يستجلب رضاه.. وكذلك (اتَّقُوا اللَّهَ) سبحانه في إصلاحكم حين تَسعون إليه، واحذروا إهمال أمره عزّ وجلّ، بالعودة إلى حكمه وشرعه في المتخاصمين، وبالسعي إلى الإصلاح بين المؤمنين الإخوة في الله.. (لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ)، فاطلبوا رحمة الله عزّ وجلّ، بعد الإقرار بالحق، والحكم بالعدل، والركون إليه سبحانه وتعالى وحده، والتخلّي عن الهوى والركون إلى الدنيا.. فلعلّ الله -بعد ذلك كله- يرحمكم، ويغفر لكم، ويعفو عنكم بعد خصومتكم.. ولعلّه يقبل توبتكم ورجوعكم إليه، فلا تحاسَبون على شقاقكم في الآخرة.. ولعلّه يرحمكم، فلا يستفحل الشقاق بينكم في الدنيا، فتأكل نيرانه الأخضر واليابس، مما يخصّكم ويخصّ الأمة، فيقع البلاء عليكم جميعاً، ويعمّ.
لنلاحظ أخيراً، كلمةَ (إنّما)، التي وردت في قوله عزّ وجلّ: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ)!.. فهي استُخدِمَت للحصر، أي: لا أخوّة بين المسلمين، إلا أخوّة الإسلام والإيمان!..
* * *
هَمْسَتان مُهِمَّتان
1- تَقوى الله عزّ وجلّ، مطلوبة من الفريقين المختَلِفَيْن.. قبل وقوع الخلاف، وفي أثنائه، وبعده.. وهي مطلوبة من الـمُصلِحين الـمُـحَكِّمين أيضاً.. وفي هذا كله، مَجْلَبَة لرحمة الله سبحانه وتعالى، التي لا تتنزّل إلا على المتّقين من عباده، الراجين رضاه وحده لا شريك له.
2- لا يمكن أن ينتهيَ أيُّ خلاف، بين اثنين أو فئتين أو جماعَتَيْن أو طرفين.. إلا بإنهاء الظلم الذي يقع من أحدهما على الآخر، وبعد إحقاق الحق بشكلٍ كامل، أكان هذا الحق صغيراً أم كبيراً.. ومن غير ذلك، ستبقى بذور الخلاف، وستبقى النار تحت الرماد.. التي يمكن لها أن تتأجّج وتستعر من جديد، كلما سنحت الظروف، أو توافرت الفرصة الشيطانية.. فإنهاء الظلم بشكلٍ كامل، هو وحده الذي يُنهي الخلاف أو الصراع، بين أي طرفَيْن مُـختَلِفَيْن.
وسوم: العدد 725