نبيّ التوحيد بحكمته يصون التوحيد، صلى الله عليه وسلم
مِن بدهيّات الإسلام، ومما يعرفه الكبير والصغير أن نبيّنا صلى الله عليه وسلم دعا، أول ما دعا، إلى قول "لا إله إلا الله"، وبقي، عبر كتاب الله، وعبر متابعته، عليه الصلاة والسلام، يؤكد هذه الدعوة ويدفع عنها. وهذا كان دأب الأنبياء أجمعين، عليهم أفضل الصلاة والتسليم، فكان كلٌّ منهم يقول لقومه: (اعبدوا اللهَ ما لكم مِن إلهٍ غيره).
كانت قريش قبل الإسلام تُقِرّ أن الله هو الخالق الرازق... وقد حكى القرآن الكريم ذلك عن مشركي مكة: (ولئن سألتهم: مَن خَلَقَ السموات والأرض وسخّر الشمس والقمر؟ ليقولُنّ: الله). {سورة العنكبوت: 10}. (ولئن سألتهم: مَن نزّلَ من السماء ماءً فأحيا به الأرض من بعد موتها؟ ليقولُنّ: الله). {سورة العنكبوت: 63}.
وكذلك شأن البشرية، في معظم بلادها، وفي معظم عصورها.
فكان القرآن الكريم يقول لهم: إذا كان الله تعالى وحدَه هو الخالق الرازق القوي القادر المنعم... المتفرّد بجميع صفات الربوبية، فمن ذا الذي يستحق أن يكون المحبوب المرهوب المشرّع، المتفرد بصفات الألوهية؟!.
والناس يختلفون في الاستجابة لدعوة الحق بعدما تربّوا في بيئة تلبس الحق بالباطل. فمنهم من يكون سريع الاستجابة، كأبي بكر وخديجة وعليّ... رضي الله عنهم، ومنهم من يستجيب في محاولة ثانية أو ثالثة، أو بعد سنة أو أكثر... ومنهم مَن يبقى على ضلالة ويقول: (إنّا وجدنا آباءنا على أمّة وإنا على آثارهم مقتدون). كما حكتْ عنهم سورة الزخرف، الآية 23.
وقضية توحيد الألوهية التي تعني أن لله وحده الحكم والأمر، وأن ليس لغيره أن يشرع للناس ما لم يأذنْ به الله، هي قضية الإسلام الأولى. لذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم حريصاً على تعميقها في نفوس أصحابه، وعلى حمايتها من كل شائبة، وكان يفعل ذلك بكل الدقّة والحساسية، وبكل الحكمة والرحمة كذلك، فلم يكن يغض الطرف عمن تصدر عنه عبارة تشي بالشرك، ولكنه لم يكن ليحكم على القائل بأنه أشرك، إذا كان قد نطق العبارة ذاهلاً أو غافلاً أو مخطئاً غير متعمّد. ويحسن هنا أن نضرب أمثلة مما جاء في الحديث الصحيح:
1- في صحيح مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "للهُ أشدُّ فرحاً بتوبة عبده حين يتوب عليه، من أحدكم كان على راحلته بأرض فلاة، فانفلتت منه، وعليها طعامه وشرابه، فأيِسَ منها، فأتى شجرةً فاضطجع في ظلها، وقد أيس من راحلته. فينما هو كذلك، إذ هو بها قائمة عنده، فأخذ بخطامها ثم قال من شدة الفرح: اللهم أنت عبدي وأنا ربك. أخطأ من شدة الفرح".
النبي صلى الله عليه وسلم لم يقل: إن هذا الرجل أصاب فيما قال، بل قال: أخطأ. لكنه لم يقل: إنه كفر. مع أن ظاهر العبارة كفر. وبهذا يشير الحديث إلى أن الله سبحانه لا يحاسب العبد على الألفاظ التي تصدر عنه من دون قصد. وهذا مصداق لقوله تعالى: (وليس عليكم جُناح فيما أخطأتم به، ولكنْ ما تعمّدتْ قلوبُكم). {سورة الأحزاب: 5}.
قال الشيخ محمد صالح بن عثيمين: وهذا بخلاف المستهزئ، فإن المستهزئ يكفر إذا قال كلمة الكفر، ولو كان مستهزئاً، لقوله تعالى: (ولئن سألتهم ليقولُنّ: إنما كنا نخوض ونلعب. قل: أباللهِ وآياته ورسوله كنتم تستهزئون؟ لا تعتذروا. قد كفرتم بعد إيمانكم). {سورة التوبة: 65، 66}.
2- في صحيح البخاري: عن الرُّبيِّع بنت معوِّذ بن عفراء قالت: جاء النبي صلى الله عليه وسلم فدخل حين بُني عليّ [أي صبيحة عرسي] فجعلت جويرياتٌ يضربْنَ بالدُّف... إذ قالت إحداهنّ: وفينا نبيّ يعلم ما في غد. فقال صلى الله عليه وسلم: "دعي هذه وقولي بالذي كنتِ تقولين".
قال شرّاح الحديث: "دعي هذه": أي اتركي ما يتعلق بمدحي الذي فيه الإطراء المنهيّ عنه. "وقولي بالذي كنتِ تقولين": فيه إشارة إلى جواز سماع المدح مما ليس فيه مبالغة تفضي إلى الغُلوّ. وإنما أنكر عليها ما ذكر من الإطراء حيث نسبت إليه علم الغيب، وهو صفة تختص بالله تعالى. والمهم أنه، صلى الله عليه وسلم، لم يُقرّها على الغلوّ، ولم يحكم عليها بالكفر، لأنها قالت ما قالت من غير تثبّت، بل جهلاً، فصحّح لها القول.
3- روى النسائي أن رجلاً قال للنبيّ صلى الله عليه وسلم: ما شاء الله وشئت، فقال: "أجعلتَني لله ندّاً؟ ما شاء الله وحده". ورواه البخاري في الأدب المفرد.
ولأبي داود، بسند صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تقولوا: ما شاء الله وشاء فلان، ولكن قولوا: ما شاء الله ثم شاء فلان".
وفي الحديثين منعٌ من أي قول يُشعر بمضاهاة مشيئة الله بمشيئة العبد. فمن اعتقد مساواة المخلوق للخالق فهو شرك أكبر، ومن قال مثل هذه العبارات من غير أن يعتقد ذلك فهو شرك أصغر، أي خطأ يجب أن يُصحّح. وهذا ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يسكت عن الخطأ بل صحّحه ولم يعنّف صاحبه، فضلاً عن أن يكفّره.
إن صيانة عقيدة التوحيد واجبة على المسلم، لكنّ الاندفاع والتعجّل بالحكم بالكفر على من ندّت منه كلمة ظاهرها الكفر، وهو لا يقصد ذلك، هذا الموقف قد يؤدي إلى مفسدة عظيمة، فما أحرانا أن نلتمس الحكمة والهدى من قول النبي صلى الله عليه وسلم ومن فِعله ومن هديه ومن أخلاقه!!.
وسوم: العدد 754