الخاطرة ١٦٧ : لعبة مريم والعمى الروحي
خواطر من الكون المجاور
قبل أشهر قليلة ظهرت في مواقع التواصل الإجتماعي العربي لعبة إلكترونية تدعى مريم . في البداية اتهمها البعض بأنها لعبة شريرة مؤسسيها هم صهاينة هدفهم محاولة القضاء على الامة العربية وذلك من خلال تدمير أطفالها ، البعض الآخر اتهمها بأنها لعبة من صنع إيراني هدفها القضاء على أطفال المذهب السني ، ولكن بعد البحث والتمحيص تبين أن هذه اللعبة هي من تصميم شاب عربي مسلم سني من المملكة السعودية .
لعبة مريم بشكل مختصر هي تطبيق يُحمّل على أجهزة الهواتف الذكية وتتكون من عدة حلقات، تستهدف بشكل عام الاطفال والمراهقين ، فهي تبدأ بفتاة صغيرة أسمها مريم تاهت عن بيتها وتطلب من مستخدم اللعبة ان يساعدها في إكتشاف طريق العودة إلى بيتها . اللعبة في البداية تبدو بسيطة وسهلة ، فشكل مريم يوحي للمشاهد بأنها طفلة لطيفة ومسكينة ، ولكن مع تقدم خطوات اللعبة تنقلب الأمور وتظهر الطفلة مريم من خلال أسئلتها وتصرفاتها بأنها في الحقيقة شخصية شريرة هدفها بث الرعب والخوف في نفسية اللاعب فهي تطلب منه أن يمارس اللعبة في ساعات الليل وتطلب منه أيضا أن يطفئ نور الغرفة وان يرفع الصوت وهذا ما يعطي اللعبة أجواء مليئة بالغموض والإثارة والتوتر بسبب المؤثرات الصوتية والمرئية فالمشاهد يلعب في الظلام ولا يرى سوى شاشة مظلمة فيها طبيعة موحشة وأشخاص ذوي أشكال مخيفة وتُسمع أصوات غريبة ليس لها علاقة بالحدث ،صرخات أو بكاء أو ضحكات هستيرية أو نوع من الموسيقى المقلقة التي تزيد في توتر اللاعب نفسيا ، وفي النهاية كل هذه الأشياء مع بعضها البعض نراها تعمل كمنوم مغناطيسي لتسيطر على أحاسيس اللاعب لتجعله اثناء اللعبة يخرج نهائيا من عالم الواقع ليعيش في عالم خيالي مخيف فيتهيأ له أن شخص غريب يوجد معه في الغرفة او ان شبح مريم قد خرج من الشاشة وغيرها من الأشياء الخيالية.
طبعا هذا الوصف الذي شرحناه عن لعبة مريم ينطبق على ما يشعر به أولئك الأطفال والمراهقين أثناء ممارستهم اللعبة ، ولكن في الحقيقة لعبة مريم إذا نظرنا إليها من منظار إنسان راشد سنجد أنها لعبة سخيفة جدا وذات مستوى منخفض جدا من جميع النواحي فنوعية الأسئلة التي تطرحها وطريقة استخدام المؤثرات الصوتية والمرئية وكذلك تقنية اللعبة بشكل عام لا تدل سوى على أن صانعها لا يملك أي موهبة في الإبداع في أي شيء على الإطلاق ليستطيع أن يجعل من اللعبة متماسكة في عناصرها ،ولكنه يملك شيء واحد فقط وهو روح تائهة هدفها تدمير التوازن الروحي في عالم الاطفال والمراهقين الذين هم بناة المستقبل ، فهذه اللعبة هي لعبة خبيثة لانها تستخدم طفلة مسكينة تثير فضول اشخاص بمستوى الأطفال والمراهقين فتدفعهم للمشاركة بها والإدمان عليها، ولكن الحقيقة ان وراء هذه الطفلة يوجد شبح مخفي يسيطر على هذه الفتاة الصغيرة وعلى اللعبة بأكملها ( الصورة).
الفضول وحب الإطلاع والرغبة في إكتشاف المجهول وكذلك حب اكتشاف تحديات اللعبة، إضافة إلى العزلة التي يعاني منها الجيل الحديث ، تدفع الأطفال والمراهقين إلى الإدمان على الألعاب الإلكترونية والامتثال لأوامرها وتنفيذها فلا يتوقف عنها إلا بعد اكتشاف واستكمال مراحلها حتى وإن كان فيها إيذاء لأنفسهم قد يؤدي بهم إلى التهلكة والموت، فهناك بعض الألعاب الألكترونية قد قادت عددا كبير من الأطفال إلى الانتحار .
كثير من وسائل الإعلام ومواقع الإتصال الإجتماعي نبهت عن خطورة لعبة مريم وحذرت الآباء لمنع أطفالهم تحميلها والمشاركة بها بسبب أضرارها التي لا تحصى ، ولكن ما لم ينتبه إليه الجميع هو البعد الروحي لهذه اللعبة ومعناها روحيا ، ولهذا السبب بالذات أكتب عن هذه اللعبة في صفحة عين الروح . فلكل نتيجة سبب ، وما يهمنا هنا هو السبب الروحي لظهور هذه اللعبة في العالم العربي او العالم الإسلامي بشكل عام .
كما ذكرت في البداية بأن الكثير ظن أن هذه اللعبة من صنع صهيوني ، لان حسب رأيهم فقط الصهاينة اليهود هم من سيستفيد من تدمير أطفال العرب والمسلمين، ولكن تبين أن صاحب هذه اللعبة هو عربي مسلم سني ، وأنا أعتقد - والله أعلم - بأن هذا الشخص عندما صنع هذه اللعبة ظن بأنه قد أخترع شيئا عظيما للأمة العربية لأن لعبته ستكون أول لعبة من تصميم عربي تثير التشويق وحماس الكبار والصغار العرب لتنافس ألعاب إلكترونية من صناعة دول متقدمة ، فحسب ظنه انه باكتشافه هذه اللعبة سيرفع من شأن الامة العربية في نظر العرب والمسلمين، ولكن الحقيقة هي أنه بسبب إنحطاط مستوى الوعي الروحي لصاحب هذه اللعبة ، لم يفهم أن اكتشافه هذا لا يدل سوى على شدة الإنحطاط الروحي الذي يعيشه ليس مجتمع بلاده فقط ولكن جميع المجتمعات العربية والإسلامية وبشكل عام الإنسانية بأكملها لأن لعبة مريم هي في الحقيقة تقليد لألعاب أخرى ظهرت في الدول الغربية اولا ولكن لعبة مريم أخذت طابعا يمس الدين الإسلامي والدين المسيحي لذلك كان لها معنى روحي يفسر حقيقة ما يحدث في البيئة الروحية لمجتمعات العصر الحديث .
كل التصرفات والأعمال المختلفة التي نقوم بها ليست إلا تعبير عن المستوى الروحي الذي وصلنا اليه ، وهنا سنحاول أن نتكلم بشكل مفصل عن العناصر الروحية في هذه اللعبة لنفهم البعد الروحي لهذه اللعبة ولصاحب هذه اللعبة .
صاحب اللعبة اختار اسم " مريم " لبطلته ، فالطفل أثناء ممارسته للعبة يشعر بأنه يتكلم مع طفلة أسمها مريم ، فهذا الاسم من خلال أجواء اللعبة المليئة بالغموض والإثارة والتوتر النفسي تجعل أسم "مريم " شيئا فشيء يدخل في العقل الباطني للاعب بإحساس سلبي وكأنه اسم لفتاة شريرة ، وكون الطفل لا يزال في مرحلة نمو روحي وجسدي يصبح المعنى الروحي لهذا الأسم في العقل الباطني للطفل وكأنه مرتبط بالشر وروح السوء. لتوضيح هذه الفكرة بشكل أفضل سنعطي هذا المثال:
تصوروا ان يشاهد الأطفال مسلسل كرتوني مشوق جدا تدور أحداثه حول شخصية شريرة تقوم بقتل الناس والاطفال بصورة وحشية وتنشر العداوة والكراهية بين الناس، واسم هذه الشخصية الشريرة ( محمد )، في هذه الحالة فإن أسم محمد سيتشوه معناه في العقل الباطني للأطفال ، فأسم (محمد) له معنى مرتبط بصفات المحبة والسلام ولهذا السبب أختاره الله ليكون اسم نبي الإسلام ، فهذا المسلسل الذي تعتمد أحداثه على شخصية شريرة تحمل اسم (محمد) سيجعل الكثير من هؤلاء الأطفال يهجرون الدين الإسلامي عندما يكبرون ، لأنهم لن يستطيعوا الإحساس بسمو معاني صفات شخصية نبي الإسلام والتي من خلالها يرى المسلم عظمة الدين الإسلامي ، والسبب هو او مشاعر الخوف والرعب أقوى بكثير من عاطفة المحبة والسلام لذلك فصفات شخصية المسلسل الكرتوني ستدخل بقوة في العقل الباطني للطفل ولن تسمح لصفات الرسول ان تأخذ مكانا بقربها وستبقى صفات السوء هي التي تسيطر على سلوك الطفل. وطبعا مثل هذا المسلسل الكرتوني لن يسمح له في عرض ولا حلقة واحدة منه في أي قناة تلفزيونية من الدول الإسلامية .
هكذا هو الوضع تماما بالنسبة للعبة مريم، فأسم "مريم" في الحقيقة قد اختاره الله عز وجل ليكون إسم تلك الفتاة التي فضلها الله على نساء العالمين (وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَىٰ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ ) ، الله عز وجل أعطى تلك الفتاة اسم مريم لتكون هي من بين نساء العالمين ليضع فيها روح القدس لتنجب عيسى عليه الصلاة والسلام لتكون هذه الولادة معجزة تتحدى جميع قوانين الطبيعة، فاسم مريم ليس صدفة ولكن له معنى يناسب شخصية هذه الفتاة التي أختارها الله .
من ناحية اخرى أيضا ، في لعبة مريم نجد أن تلك الطفلة التائهة التي إسمها " مريم " هي نفسها التي ستخدع الطفل اللاعب بإيهامه بأنها تائهة وأنها بحاجة للمساعدة لتستطيع العودة إلى البيت ولكن نجد ان هدف هذه الطفلة هو في الحقيقة دفع اللاعب في الإشتراك بحوارات وتصرفات تقوم بعمل مشابه للتنويم المغناطيسي حيث يؤدي في النهاية إلى دخول الطفل في عالم خيالي فظيع يجعل الطفل يتوه ولكن توهانه هنا ليس توهانا ماديا كما هو في مريم اللعبة، اي توهانها عن بيتها ، ولكن توهان روحي يؤثر على سلوك الطفل ومشاعره طوال حياته. فالهدف الحقيقي للعبة ليس صدفة ولكن له علاقة وثيقة بإسم مريم .
اسم " مريم " الذي أختاره الله لتلك المرأة التي ستلد عيسى عليه الصلاة والسلام ليس صدفة، ولكن له معنى رمزي يعبر عن قصة خلق الإنسان وأسباب طرده من الجنة ، فاسم مريم في اللغة العبرية يوجد بشكلين ، الشكل الاول له معنى ( المحبوبة ) والشكل الثاني له معنى ( البحر المر) .
كلا المعنيان في الحقيقة هما رمزان اثنان يفسران سلوك حواء ، فاسم مريم بمعنى ( البحر المر ) يرمز لحواء التي أرتكبت الخطيئة وكان نتيجتها طرد الإنسان من الجنة لأن هذه الخطيئة ستؤدي إلى ولادة قابيل الذي يحمل في تكوينه غريزة القتل لذلك سيقوم بقتل أخيه هابيل ، فالبحر هو منبع الحياة ،أما المرارة (مر) فهو رمز الفساد والسوء.
أما إسم مريم الذي يحمل معنى (محبوبة) فهو رمز لحواء التي ستنجب هابيل الذي عندما رأى أخاه قابيل يريد قتله قال (لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ ۖ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ)، فهذا الأسم هو رمز العفة والسلام لذلك نجد أن تعاليم عيسى عليه الصلاة والسلام تعتمد على العفة والسلام.
ف سبب طرد الإنسان من الجنة هي تلك الخطيئة التي أدت إلى تشويه تكوين الإنسان، ومريم هنا هو رمز حواء التي ستحاول تصحيح هذا التشويه ليستطيع الإنسان العودة إلى الجنة ، لذلك تذكر الآية ان الله (طهرها واصطفاها) ، فتصحيح تكوين الإنسان يتم عن طريق سيره في الصراط المستقيم الذي رسمه الله له، ولكن في اللعبة نجد ان مريم بطلة اللعبة تقوم بدور مريم بمعناه السلبي ( البحر المر ) فهي تدعي بأنها تائهة وتحتاج المساعدة لتستطيع العودة الى بيتها ولكن في الحقيقة هي تحاول ان تجعل الآخرين يخرجون من الطريق الصحيح ليتوهوا روحيا لكي لا يعودوا أبدا إلى بيتهم ثانية وهو الجنة، فبدل ان تساعد " مريم " الأطفال لينموا ضمن بيئة روحية مناسبة لأرواحهم البريئة التي تبحث عن عالم يسوده النور والمحبة والسلام ، نجدها تجعلهم يعيشون في عالم مناقض تماما ،عالم مظلم سكانه لها أشكال بشعة ومرعبة .
كما لاحظنا أن طبيعة اللعبة وإختيار إسم "مريم " لهذه اللعبة ليس صدفة فهناك علاقة محكمة تماما بين أحداث اللعبة ومعنى إسم مريم وكذلك لها علاقة بدور حواء في طرد الأنسان من الجنة وإعادته إليها ثانية كما يقول الحديث الشريف ( الجنة تحت أقدام الامهات ) ، ولكن للأسف نجد أن لعبة مريم لها تأثير روحي خفي على ارواح الأطفال حيث نراها تساعد في دفعهم في طريق يقود نحو الضياع والدمار .
وكما ذكرت قبل أسطر قليلة أن صاحب لعبة مريم ، لم يصمم هذه اللعبة ليحقق المعنى الروحي الذي شرحته ، لانه لو كان يعلم بمعاني الرموز الروحية لعناصر اللعبة كما شرحتها ، لكانت معرفته هذه قد هذبت روحه وقادته الى تصميم لعبة مفيدة للأطفال تحقق المعنى الحقيقي لإسم مريم ، ولكن للأسف معلوماته عن قصص القرآن كما تعلمها في المدارس مستواها سطحي ببغائي لا تفيد في شيء على الإطلاق لذلك ذهب وقلد الألعاب الغربية كما هي ، فالمشكلة ليست في صاحب هذه اللعبة ولكن في طريقة تعليم قصص القرآن وطريقة تفسيرها للصغار والكبار ، المشكلة ليست فقط في علوم الدين ولكنها في مختلف العلوم الإنسانية سواء كان في دور التعليم أو في البرامج الثقافية المختلفة ، والمشكلة أيضا ليست عند المسلمين فقط ولكن في جميع الأمم ، فعصرنا الحديث رغم تقدمه الفائق في التكنولوجيا لكنه في الحقيقة هو من أكثر العصور إنحطاطا من الناحية الروحية والتنمية الروحية .
أرجو من أولئك - وخاصة علماء النفس- الذين سمحت لهم الظروف أن تنشر أفكارهم على نطاق واسع في وسائل الإعلام ووسائل التواصل الإجتماعي قبل أن ينشروا آرائهم أن يتعمقوا في دراسة الاشياء والأحداث التي يكتبون عنها فأرائهم السطحية لن تفيد الآخرين في شيء ولكنها ستزيد المشكلة أكثر وتخلق مشاكل أخرى أيضا ، ولهذا نجد أن الإنسانية تسير في الفترة الأخيرة من السيء إلى الأسوأ لأن علماء العصر الحديث يتكلمون عن القشور فقط أما المضمون فلا يتطرقون إليه على الإطلاق فمضمون لعبة مريم هو ما شرحناه في هذه المقالة أما ما نشر عنها في وسائل الإعلام فهي القشور والبحث في القشور لا يحل المشكلة ولكن يزيدها قوة، وظهور لعبة مريم في دولة عربية مسلمة هو أفضل إثبات عن شدة العمى الروحي الذي يعاني منه ليس فقط علماء المسلمين ولكن علماء عصرنا الحديث في العالم بأكمله.
وسوم: العدد 763