الخاطرة ١٦٩ : الأنبياء ومراحل تطور الإنسانية( الجزء ١)
خواطر من الكون المجاور
في الفترة الأخيرة كثيراً ما بدأنا نسمع معلومات غريبة عن مخلوقات أتت من الفضاء الخارجي او عن حضارات قديمة جدا وصلت في علومها إلى مستوى أكثر تقدماً من علوم عصرنا الحاضر ولعل أشهرها حضارة شعب الأطلنتيك التي تدمرت وأختفت من الوجود .
إذا آمنا بصحة هذه المعلومات ووضعناها جنباً إلى جنب سنجد أن تاريخ العالم ليس إلا عبارة عن أحداث عشوائية لا تتبع لا لقوانين ولا لمبادئ . ولكن هذا الإعتقاد يناقض تماما قوانين تطور الكون وقوانين تطور الحياة . فتطور الكون بدأ بخلق جسيمات تحت نووية ومن إتحاد هذه الجسيمات تم خلق الذرات البسيطة كالهيدروجين والهيليوم ومن إتحاد أنوية هذه الذرات البسيطة وإنشطارها تم خلق الذرات الأكثر تعقيدا مثل الكربون والأكسجين والحديد ومع إستمرار عمليات اتحاد وانشطار الأنوية وصلت الأمور إلى خلق ذرات أكثر تعقيدا كالذهب مثلا ، فالتطور المادي للكون لم يحدث بشكل عشوائي ولكنه حدث من الصغير إلى الكبير ومن البسيط إلى المعقد ، وهكذا أيضا بالنسبة لتطور الحياة فهي بدأت بظهور حياة بدائية على شكل فيروسات ثم إلى وحيدات الخلية ثم إلى عديدات الخلايا وهكذا حتى ظهرت الأسماك والبرمائيات وإستمرت الحياة في التطور لتصبح أكثر تعقيدا فظهرت الطيور والثديات ، وعندما وصلت الكائنات الحية إلى أعلى مستواها من حيث الصفة التي تملكها وتعبر عنها ، ظهر الإنسان والذي يعتبر أرقى الكائنات الحية لأن تكوينه يشمل جميع تلك الصفات التي تحملها جميع أنواع الكائنات الحية معا.
فتطور الحياة أيضا لم يحدث بشكل عشوائي ولكن ضمن تسلسل محدد يتبع مبدأ من البسيط إلى المعقد ومن السيء إلى الأفضل ومن العشوائي إلى المنسجم ومن المنحط إلى الأرقى.
ولكن عندما يدعي بعض المفكرين أن هناك سكان فضاء قد زاروا الكرة الأرضية وساعدوا في إنشاء حضارات على الأرض ، او أنه قبل آلاف السنين كانت توجد حضارات إنسانية أكثر تقدما في العلوم من علوم عصرنا الحاضر، هنا وكأنهم يقولون بأنه قبل الإنسان كان يوجد نوع من الكائنات الحية أرقى في ذكائه وتكوينه من الإنسان ولكنه إنقرض قبل ظهور الإنسان و طبعا تعتبر هذه التفسيرات مجرد خرافات لأنه لم ولن يتم العثور على مثل هذا الكائن لأنه عندها سيجعل من قوانين التطور المادي والروحي قوانين عشوائية عمياء وهذا ما لا يمكن حدوثه لأن كل شيء يسير ضمن خطة إلهية محكمة.
أيضا إذا قرأنا قصص الأنبياء كما يفسرها علماء الأديان السماوية حتى اليوم ، سنجد أنها قصص عشوائية فيما بينها ، فتسلسل الأنبياء -هكذا نظن - أنه لا يتبع خطة لها معنى ، وكذلك نجد في تفسيراتهم وكأن ظهور كل نبي غير مرتبط بشكل له معنى واضح مع النبي الذي قبله أو الذي بعده ، لذلك نجد أن أتباع كل ديانة يعطون نبيهم المكانة الأعلى ، وكل الحجج التي يقدمونها لتأكيد على صحة رأيهم هي بالنسبة لهم مقنعة تماما، ولا يمكن لأحد أن يغير رأيهم هذا. فبالنسبة لليهود فهم ينظرون إلى أنفسهم بأنهم هم شعب الله المختار لأن الله أنزل فيهم الأنبياء .
أما المسيحين فهم يعتقدون بأن ظهور عيسى المسيح وتضحيته بنفسه قد طهر الإنسانية من ذنوبها التي كانت سببا في طرد الانسان من الجنة وحررتها منها لتبدأ الإنسانية عهدا جديدا في مسيرتها.
وكذلك بالنسبة لإيمان المسلمين بأن رسولهم هو آخر الانبياء وأن دينهم هو الدين السماوي الأخير لم يكن واضحا للأمم الأخرى.
هذه الأمم الثلاثة بعد ظهورها كأمم جديدة لفترة زمنية معينة دخلت في عصور الإنحطاط ، وظلت هذه الإعتقادات وكأنها تشمل أجزاء منفصلة عن بعضها البعض من التكوين الروحي للإنسانية ، وظلت كل أمة تؤمن بإعتقادها هي فقط . ولكن ما يهمنا هنا ما هي العلاقة بين أنبياء هذه الديانات وما دور هؤلاء الأنبياء بالتكوين الروحي للانسانية نفسها؟ للأسف هنا وبسبب أنفصال قصص الأنبياء عن بعضها البعض، يعجز علماء هذه الديانات عن توضيح هذه العلاقة لذلك نجد كتب التاريخ تتحدث عن ظهور الحضارات المختلفة بطريقة وكأنها حدثت بالصدفة دون تسلسل محكم يساعد على فهم طبيعة التطور التي تمر بها الإنسانية مع مرور الزمن. ونجد أن زمن ظهور كل نبي فيه إختلافات كثيرة يجعلها في موضع شك ،وهذا كانت نتيجته إهمال قصص الأنبياء في دراسة تاريخ الإنسانية. وهذا الإهمال بدوره أيضا أدى إلى تحول تاريخ البشرية إلى سلسلة من الأحداث العشوائية التي لا تساعدنا على الإطلاق في فهم التكوين الروحي للإنسان لنستطيع تحسين أنفسنا . فنجد أن المدارس في الفترة الأخيرة تحولت إلى دور تعلم علوم بلا أخلاق. بينما هدف المعارف والعلوم الحقيقي هو تحسين تكوين الإنسان جسدياً وروحياً.
رغم التقدم الفائق للعلوم المادية في عصرنا الحاضر نرى أن قصص الأنبياء حسب تفسير علماء الدين حتى اليوم ، لا تزال بدائية تناسب معارف عقول أناس عاشوا قبل مئات السنين أو عقول طلاب في المرحلة الإبتدائية والإعدادية في عصرنا الحاضر ، والسبب أن هذه القصص لا تزال منفصلة تماما عن بعضها البعض وتبدو وكأنها منفصلة تماما عن تطور الإنسانية ولا تساعد بقيةالعلوم في فهم حقيقة ما يحدث في تطور التكوين الروحي والجسدي للإنسانية ، فمثلا ما هي الحكمة الإلهية من ولادة إبراهيم قبل يوسف عليهما الصلاة والسلام ؟ وما هي فائدة دور كل نبي منهما في التطور الفكري للانسانية؟ فإذا نظرنا إلى أحداث قصة إبراهيم ويوسف كما هي مكتوبة كقصص كتبها العلماء ليقرأها الآخرون، سنجد أنه لا يوجد أي علاقة ترابط فكري بين أحداث القصتين وأنه إذا قرأ شخص هندوسي مثلا، كل قصة على حدا لن يجد أي ترابط بينهما ولن يشعر أيضا بأي تسلسل تاريخي بينهما يجعله يستوعب أن قصة إبراهيم تأتي زمنيا قبل قصة يوسف. والسبب هو إنفصال القصتين عن الأحداث التاريخية ...ولكن إذا تمعنا جيدا في الرموز المذكورة في الكتب المقدسة عن قصة إبراهيم ويوسف سنرى أنه هناك علاقة وثيقة بينهما وكأنهما أحداث لرواية واحدة وليس لروايتين منفصلتين، فإذا حذفنا قصة إبراهيم ستصبح أحداث قصة يوسف شبه عشوائية هدفها الموعظة فقط لا غير .
في هذه المقالة إن شاءالله سنتكلم بشكل مختصر عن رموز الأنبياء في مراحل تاريخ تطور الإنسانية .
سفر التكوين يبدأ بقصة خلق الانسان وطرده من الجنة وينتهي بقصة يوسف. إن وضع قصة يوسف كخاتمة لقصص السفر الذي يحمل عنوان (التكوين) ليس صدفة ولكن حكمة إلهية ، هنا النبي يوسف هو رمز تصحيح الخطيئة التي سببت في طرد الإنسان من الجنة ، فسبب طرد الإنسان من الجنة كما ذكرنا في عدة مقالات كان بسبب أكل الثمرة التي حرمها الله على آدم وحواء والتي ترمز إلى الشهوة الجنسية ، وبسبب هذه الشهوة الجنسية ظهرت غريزة القتل في قابيل فقتل أخاه هابيل ، لذلك نجد أن صفات يوسف كانت مناقضة تماما لصفات الخطيئة التي تسببت في خروج الانسان من الجنة، فهو رفض مضاجعة زوجة سيده، وكذلك عندما أصبح وزير مصر بدلا من أن ينتقم من أخوته الذين باعوه ليصبح عبدا في مصر ، سامحهم وساعدهم فكان كمن طبق مبدئي العفة و السلام .
إذا تمعنا في تفاصيل قصة يوسف في سفر التكوين ، سنجد العديد من الرموز التي تنوه إلى هذه العلاقة بين قصة خلق الإنسان وطرده من الجنة مع أحداث قصة يوسف، فبعد ولادة يوسف يتحول إسم أبيه من يعقوب عليه الصلاة والسلام إلى إسرائيل ، ومعنى إسرائيل في العبرية (صارع الله) والمقصود هنا ليس الله عز وجل ولكن تلك الروح الإلهية التي نفخها الله في آدم عندما خلقه ، أي أن روح يعقوب عندما أنجب يوسف أصبحت بمستوى روح آدم، فتحول اسم يعقوب إلى إسرائيل هو في الحقيقة رمز له معنى أن يعقوب أصبح بمثابة آدم ، ويوسف بمثابة إبن آدم كما أراده الله قبل حدوث الخطيئة ، لذلك تعتبر ولادة النبي يوسف رمز لولادة الإنسانية بمعناها الروحي ، فمع يوسف ظهرت أول حضارة روحية عرفها التاريخ حيث الأمور الروحية في شعب هذه الحضارة هي التي تسيطر على سلوك أفراده ، ونقصد هنا حضارة عصر الأهرامات ، والتي أسسها النبي يوسف والمعروف بالإسم المصري (أمحوتب) والذي معناه ( الذي جاء بالسلام ) ، فالجنة هي أرض السلام ، والقرآن الكريم يستخدم كلمة (جب) في الأية ١٠ من سورة يوسف (قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ لَا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ ) وكلمة (جب) في اللغة المصرية القديمة تعني الأرض أي الكرة الأرضية ، فيوسف هنا هو رمز الإنسانية التي خرجت من الجنة ولكنها استطاعت أن تولد من جديد على سطح الأرض لتطهر نفسها من شوائب خطيئتها لتعود ثانية إلى الجنة. فمع ولادة يوسف ولدت فكرة يوم الحساب وان كل إنسان بعد الوفاة سيحاسب عن الأعمال التي فعلها خلال حياته.
الإصحاح ٣٧ من سفر التكوين يذكر أن يعقوب من شدة حبه لإبنه يوسف صنع له قميصاً ملوناً ، هذه الحادثة رمزية ولها معنى يعبر عن التكوين الروحي للإنسان الكامل، فروح الإنسان مثل قوس قزح ، تحتوي على جميع الألوان ، بينما الكائنات الحية الأخرى فروحها تحتوي على لون واحد فقط، واللون هنا هو رمز لصفة أو مقدرة معينة ، وهذا يعلل سبب عدم إستطاعة أي نوع من الكائنات الحية الأخرى أن تصنع حضارة ، لأن الحضارة تحتاج إلى تعاون صفات عديدة مع بعضها البعض وهذه المقدرة موجودة فقط عند الإنسان لأنه يملك جزء من روح الله.
في الفترة الزمنية التي ولد فيها النبي يوسف ، كانت الإنسانية روحيا في مرحلة الطفل الرضيع الحديث الولادة ، الذي ينظر ويحاول فهم ما يجري حوله ليس عقليا ولكن روحيا ، فالأصوات والألوان والأشكال والروائح جميع هذه الأشياء بالنسبة للطفل الرضيع الحديث الولادة ليس لها أي وجود مادي ولكن فقط وجود روحي ، فالطفل يرى مضمون هذه الأشياء وليس شكلها ، وهذا هو الفرق بين نوعية الرؤية عند الإنسان عن الرؤية عند بقية الكائنات الحية ، لذلك نرى أن أهم صفة ساعدت يوسف في وصوله إلى مرتبة وزير يدير جميع شؤون الدولة ، هي مقدرته على تفسير الأحلام ، هذه المقدرة هي صفة رمزية والمقصود بها البصيرة. لذلك وبفضل هذه البصيرة إستطاع الإنسان أن يشق في تطوره طريقا مختلفا عن بقية الكائنات الحية واستطاع كذلك أن يسيطر عليها ويتفوق عليها جميعا كما حدث مع يوسف فبفضل شدة البصيرة التي يملكها تحول من عبد إلى وزير يتحكم في جميع شؤون الدولة.
الإنسانية في مرحلة الطفل الرضيع الحديث الولادة بدأت قبل خمسة آلاف عام . الإنسانية قبل ولادة يوسف كانت في المرحلة الجنينية، وجميع الأحداث المذكورة في الكتب المقدسة عن قصص الأنبياء الذين ولدوا في هذه المرحلة هي في الحقيقة رموز تشرح مراحل التطور المادي والروحي للإنسان وهو في مرحلة الجنينية ، فهذه المرحلة تعبر عن تطور الحياة منذ ظهورها وحتى ظهور الإنسان .
بسبب شدة تعقيد المرحلة الجنينية للانسانية وتعدد مراحلها ، سنترك أمرها لمقالات أخرى في المستقبل إن شاء الله ، وسنتابع موضوع علاقة الأنبياء ( موسى وعيسى ومحمد عليهم الصلاة والسلام ) مع مراحل تطور الإنسانية من بعد ولادة يوسف ....يتبع
وسوم: العدد 765