الخاطرة ٢٠٢ : ابن رشد الفيلسوف المظلوم الجزء ٥
خواطر من الكون المجاور
في الأجزاء الماضية من سلسلة (ابن رشد الفيلسوف المظلوم) ذكرنا بأن الله عز وجل أنعم على النبي يوسف عليه الصلاة والسلام علوم الحكمة وأن هذه العلوم من بعده بقرون عديدة إنقسمت إلى قسمين : علوم روحية وعلوم مادية ، العلوم الروحية ذهبت إلى آسيا (الشرق) مع قوم موسى ومنهم وصلت إلى النبي سليمان ومن سليمان خرجت عقيدة (الكابالا اليهودية) . أما القسم المادي من علوم يوسف فذهب إلى أوربا (الغرب) وبالتحديد إلى بلاد اليونان وهناك ظهرت بعقيدة سُميت (الأورفيكية) نسبة إلى أسم أورفياس الذي يعبر عن القسم المادي من صفات يوسف . ثم شرحنا كيف ظهرت محاولات في تشويه حقيقة العقيدة (الأورفيكية) وكيف حصل التدخل الإلهي فولد بيثاغوراس وبعد بحثه الطويل في مصر وبابل عاد إلى بلده واعطى اسم (الفلسفة) لهذه العقيدة لتعبر بوضوح عن حقيقة علوم الحكمة .
إن ظهور ظهور علوم الحكمة بصورتها الحقيقية في اليونان في مدرسة بيثاغوراس ساهم في تنمية إحساس المفكرين بما يتعلق بروح الإنسان وحاجاتها فنجد مثلا الفيلسوف اليوناني سقراط الذي اتى بعد بيثاغوراس وتأثر بآرائه وسلوكه ، قد أعطى أهمية كبيرة للفضيلة ، فنجد في أشهر أقواله يقول " لا يوجد إنسان يريد أن يرتكب الخطأ لو كان يعلم الصح" والمقصود بهذه العبارة أنه لا يوجد إنسان يريد أن يفعل الخطأ لو أن أحد علمه ما هو الأصح. فكل إنسان يولد يكون بفطرة إلهية تجعله يبحث عن الصحيح ولكن عندما يكبر فالبيئة من حوله هي التي قد تجعله يرتكب الخطأ ظانا نفسه انه يفعل الصح . لذلك فإن مسؤولية مستقبل الأطفال تقع على عاتق الفلاسفة .
أيضا الفيلسوف أفلاطون الذي يعتبر من أشهر (البيثاغوريون) عبر عن معنى (الفلسفة) بالعبارة الشهيرة (الله يهندس في خلقه ) والمقصود هنا أن كل شي في هذا الكون لا يوجد صدفة او بحالة عشوائية ولكن تكوينه ووجوده يتبع قانون إلهي يعبر عن الحكمة اﻹلهية في خلق هذا الشيء أو الحدث ، ودور الفيلسوف هو كشف الحكمة اﻹلهية في الأشياء والأحداث من خلال معرفة علاقة الإنسجام بين شكلها ومضمونها ليظهر دورها المؤثر في تطور التكوين الروحي والمادي للإنسان ، بمعنى آخر أنه بدون الإيمان بوجود خالق ووجود مخطط إلهي لا توجد الفلسفة . لذلك حاول أفلاطون ان يبحث في كيفية تحقيق أهداف الفلسفة فألف كتابه المشهور (المدينة الفاضلة).
ظهور علوم بيثاغوراس في بلاد اليونان أحدث إنقلابا جذريا في طبيعة البحث والتفكير ، فقاد الحضارة اليونانية القديمة نحو عصرها الذهبي ، بيثاغوراس هو الذي صنع النظام الرقمي للغة اليونانية التي تسمى اليوم الكابلا اليونانية ، والتي بدونها لا يمكن تفسير الكثير من الرموز في الكتب المقدسة فمن خلالها تم كشف الرمز الرقمي للمسيح المزيف (٦٦٦) المذكور في سفر رؤيا يوحنا اللاهوتي . وعدا عن هذا الإكتشاف أيضا وضع بيثاغوراس في تعاليمه فكرة تساعد في إكتشاف النظام الرقمي للغة العربية ومن خلال هذه الفكرة التي إعتمدت عليها أستطعت ان أجد القيم الرقمية للأحرف العربية والتي سميتها في مؤلفاتي الكابالا العربية ، الكابلا العربية ساعدتني في تفسير الكثير من الرموز الموجودة في القرآن الكريم والآحاديث الشريفة وبقية الكتب المقدسة المسيحية واليهودية ، وما أذكره في مقالاتي من أفكار تظهر لأول مرة في تاريخ البشرية كانت نتيجة هذه الكابالا .
وكما ذكرت في خواطر سابقة بأن الله قد إختار لغتين من لغات العالم لتكون لغة كتابة الكتب المقدسة ، الاولى العربية لغة القرآن ، والثانية اليونانية لغة الإنجيل ، وبدون استخدام لغة الرموز والأرقام في هاتين اللغتين ستبقى الكثير من الرموز في الكتب المقدسة بدون اي تفسير وستبقى مشكلة الخلاف بين الشعوب والأديان بلا حل ، وقد ذكرت في خواطر سابقة أمثلة توضح معاني أسماء الأنبياء من خلال قيمتها الرقمية . حيث وجدنا أن أسم محمد يعطي صورته الروحية التي تعبر تماما عن معاني احاديثه الشريفة الصحيحة وعن هدف دين الإسلام الذي أنزل عليه لنشره بين الناس.
علوم الحكمة لبيثاغوراس قامت أيضا بدور هام جدا حيث ساهمت رفع مكانة المرأة في المجتمع اليوناني ، فنجد الفيلسوف اليوناني سقراط يقول (عندما تثقف رجلا تكون قد ثقفت فردا واحدا. ولكن عندما تثقف امرأة فإنما تثقف عائلة بأكملها). وكذلك نجد أيضا أفلاطون في كتابه (المدينة الفاضلة) قد أعطى أهمية كبيرة لمكانة المرأة في المجتمع ، حيث مكانة المرأة تلعب دور كبير في مصير البشرية وذلك لأن آدم قد عاد إلى الجنة ولكن روح حواء لا تزال داخل هذا الكون ولن تقبل مغادرته إلا ومعها جميع أفراد عائلتها ، فكل إمرأة هي خليفة لحواء على الأرض لتساعدها في دورها . إن وجود روح حواء يلعب دور كبير في مجرى الأحداث الكونية والإنسانية ، فما يحصل حقيقة داخل هذا الكون من الناحية الروحية أعقد بكثير من تلك الأفكار البسيطة التي يتصورها علماء الدين .
بعد وفاة بيثاغوراس وبسبب كون الشعب اليوناني شعب غربي ونوعية رؤيته في أصلها مادية تعاني من الضعف في الرؤية الروحية ، الرؤية المادية هذه أثرت على تطور الفلسفة في اليونان ، فأخذت شيئا فشيء تخسر من إدراكها الروحي وتنمي على حسابه الإدراك المادي حتى أتى أرسطو وكما فعل طاليس ذهب هو أيضا وحذف كل شيء روحي من علوم الفلسفة وحول هذا العلم من فلسفة تدرس العلاقة بين الشكل والمضمون ( الروح والمادة ) لفهم الحكمة اﻹلهية في خلق اﻷشياء ، إلى علم مادي لا يختلف عن علم الإجتماع وعلم النفس والسياسة والعلوم الطبيعية والفلك ، علوم منفصلة عن بعضها البعض تبحث في قوانين الطبيعة فقط وكأنها وجدت بالصدفة .
لكن الله عز وجل لا يترك شيئا وإلا وقد عبر عنه بحادثة لتراها عين الفيلسوف ولتساعده في فهم حقيقة ما يحدث، ففي النفس الفترة التي بدأت مكانة أرسطو في اليونان ترتفع تدريجيا ليأخذ الصدارة كأعظم فيلسوف في اليونان حدث التدخل الإلهي. أرجوا أن تتمعنوا جيدا في الأسماء التي سنذكرها . في الشمال الغربي لبلاد اليونان والتي كانت منطقة ظهور عقيدة أورفياس ، ولدت فتاة ستحمل في أسمها وسلوكها الكثير من المعاني التي كانت تحيط ببيثاغوراس وكأن الله هذه المرة أرسل بيثاغوراس ثاني ولكن بشخصية إنثوية لتربط بين علاقة بيثاغوراس وأرفياس . كان أسمها في طفولتها (بوليكسيني) معنى هذا الأسم مشابه لتلك التنبؤات التي ذكرها الكهنة عن بيثاغوراس عندما كان جنينا في رحم أمه ، حين وصفوه بأنه سيكون طفل مختلف عن جميع الناس لأنه ابن الإله (أبولون) الذي يعني أسمه (من كل شيء) ، فأسمها (بوليكسيني) يعني (كثيرة الغربة) أي انها غريبة عن الجميع ولكن تعني أيضا بأنها أخذت من من كل الغرباء . هذه الطفلة كانت بنت ملك تلك المنطقة ولكنها أصبحت يتيمة في السن الحادي عشر من عمرها ، فعاشت في كنف عمها الذي استلم العرش بعد وفاة أبيها ، ورغم أن الكتب التاريخية لم تتكلم عنها إلا القليل فذكرت عنها بأنها كانت مثقفة وكاهنة وأشياء أخرى قد تبدو للبعض بعدم أهميتها .ولكنها في الحقيقة من يتمعن في حياتها يعلم تماما بأنها كانت ثمرة الحضارة اليونانية القديمة الذي صنعها أروفياس ومن بعده بيثاغوراس ، فكما تُبين احداث حياتها وسلوكها أنها كانت هذه الأميرة تتمتع بإدراك روحي عالي ، فتأثرت كثيرا بالعقيدة الأورفيكية وبعلوم بيثاغوراس ، وبفكرة (المدينة الفاضلة) لأفلاطون ، وشعرت أيضا بضعف المنطق المادي الخالي من الروح الذي يعتمد عليه أرسطو والذي بدأ ينتشر في سكان اليونان . فمن صغرها كان شيء ما يشدها لتذهب إلى معبد (دودوني) وتشارك في طقوسه ، هذا المعبد يعتبر من أقدم المعابد في اليونان ، وتروي الأساطير عن سبب بنائه في هذا المكان أن من مصر طارت حماماتان ، واحدة منها أتت إلى اليونان (مكان وجود معبد دودوني) ، أما الحمامة الأخرى فذهبت إلى ليبيا ، فهذه الأسطورة هي أسطورة رمزية تعبر عما ذكرناه في مقالتنا عن أورفياس ، فالمقصود بالحمامة التي ذهبت إلى اليونان هي القسم المادي من علوم يوسف التي ظهرت بأسم العقيدة الأورفيكية ، أما الحمامة الثانية فهي رمز العلوم الروحية التي ذهبت مع قوم موسى بعد خروجهم من مصر إلى آسيا وليس ليبيا كما هو في الأسطورة التي تم تحريفها .
أسم المعبد (دودوني) يعبر تماما عما شرحناه في صفات أورفياس ، فكلمة (دودوني) مصدرها كلمة (دودو) وتعني صوت الرعد ، وهو القسم الثاني من صفات البرق ، فعندما يحدث البرق أولا يظهر النور ثم الرعد ، النور هو رمز العلوم الروحية التي ذهبت مع قوم موسى حيث ظهرت منه أول ديانة سماوية . أما الرعد فهو الصوت والصوت كما ذكرنا في المقالة عن أورفياس يمثل رمز علوم العقيدة الورفيكية ولهذا كانت أهم مهارات أورفياس هي الموسيقى .
عندما كبرت بوليكسيني قليلا ذهبت إلى جزيرة تقع في شمال جزيرة ساموس التي ولد فيها بيثاغوراس لتعمل كاهنة هناك ، هذه الجزيرة تدعى (ساموثراكي) . هذا الأسم أيضا علامة إلهية، فنصف هذا الأسم هو (سامو) وهو نفس اسم الجزيرة التي ولد فيها بيثاغوراس وكما ذكرنا في المقالة الماضية أن هذا الأسم يعني (العالي ، المرتفع ، السامي) أما النصف الثاني من أسم جزيرة (ثراكي) فهو اسم ابن إله الحرب ، فمعنى اسم جزيرة (ساموثراكي) يعني الحرب في أسمى أشكاله .
هذه الجزيرة التي أسمها يحمل معنى (الحرب في أسمى أشكاله) تقع في منطقة قريبة من شواطئ أسيا الصغرى (تركيا اليوم) التي كانت تحت سيطرة الأمبرطورية الفارسية ، فكانت بوليكسيني تسمع عما يعاني منه أهالي تلك البلاد من ظلم واستعباد ، إحساسها بآلام الآخرين دفعها إلى الدعاء والصلاة لله من أجل إرسال منقذ يستطيع أن ينتصر على جيوش الفرس ليحرر تلك الشعوب من ظلم هذه الأمبرطورية لينشر العدل والسعادة بين هذه الشعوب . وشاءت الأقدار الإلهية أن تساعد هذه الأميرة في تحقيق أمانيها ، فهي بدلا من أن تتمتع بملذات الحياة كونها أميرة بنت ملك كانت تحرم نفسها من هذه الملذات لتقضي ساعات يومها في التفكير بالمساكين والمظلومين والصلاة من أجلهم .
في تلك الفترة أحد أمراء مقدونيا الدويلة اليونانية ويدعى فيليبوس ذهب إلى تلك الجزيرة ليشارك في طقوس معبدها ، عندها رأى الأميرة بوليكسيني فأعجبته كثيرا ومن شدة حبه لها عندما إستلم العرش تزوجها وتحول اسمها من بوكسيني إلى (ميرتالي) ، كان فيليبوس ذكيا جدا في الأمور العسكرية حيث إستطاع من خلال إنتصاراته ضم قسم كبير من الدويلات اليونانية الآخرى تحت حكمه ، وهكذا أصبحت هذه الفتاة ملكة أقوى دويلة يونانية في ذلك الوقت . وحدث شيء آخر فبعد زواج الملك فيلبوس منها ، شارك بمباريات الأولمبية وفاز بها ، لذلك حول أسم زوجته من ميرتالي إلى (أولمبيادا) المعروفة به اليوم ، هذا الأسم ليس صدفة ولكن لتكون علامة إلهية أن هذا الأسم يحوي في داخله معاني جميع آلهة أوليمبوس الإثنى عشر. وكما حدث مع أم بيثاغوراس من أحداث وأحلام تُنبىء بقدوم طفل مبارك من الله ، حدث أيضا مع أولمبيادا عندما حملت بإبنها ، فكانت جميع هذه الأحلام والأحداث بالنسبة لها ليست إلا علامات إلهية تبشر لها بأن الله سيحقق لها امنياتها وان هي التي ستلد المنقذ المنتظر ، فمن هذه الأحلام نذكر واحدا منها لنأخذ صورة واضحة عن الطفل المنتظر ، حيث رأى زوجها في حلمه أنه ظهر برق في السماء فجأة ونزل على بطن أولمبيادا فشقه ومن هذا الشق إندفع نور منه فقام زوجها وأغلق هذا الشق ودمغ عليه دمغة لها شكل أسد .
عندما أنجبت أولمبيادا طفلها سمته (أليكساندروس) ليطابق أسمه صفات المنقذ الذي صّلت من أجله لينقذ المظلومين ، فاسم (اليكساندروس) في اليونانية يتألف من كلمتين : الكلمة الأولى (أليكس) وتعني يصد بقوة أو يحمي بقوة ، والكلمة الثانية (أندراس) وتعني رجل . فالمعنى العام لأسم (اليكساندروس) تعني بالضبط الرجل الشديد القوة الذي ينتصر على جميع أعدائه أي الرجل الأسد . في العربية أسم هذا الطفل معروف باسم إسكندر المقدوني .
عند ولادة إسكندر كانت جميع الظروف ملائمة تماما للملكة أولمبياد لتربية إبنها كما تتمنى هي . فالحروب التي كان مشغول بها زوجها كانت تبعده لفترة طويلة عن المشاركة في تربية أبنه، وهذا ما سمح لأولمبيادا ان تستخدم شتى الوسائل والأساليب في تربية إبنها ليصبح ذلك المنقذ الذي ينتظره المظلومين ، فراحت تعلمه الإيمان بالله ومحبة الناس والأخلاق الحميدة وبنفس الوقت كانت منذ ولادته تزرع فيه فكرة أن الله قد إختاره لإنقاذ المظلومين بحيث لا يقوى أحد آخر على نزع هذه الفكرة من عقل ابنها ولتصبح هذه الفكرة أهم هدف في حياته .
ولكن عندما كبر أسكندر قليلا شعر والده الملك فيلبوس الذي كان قد نمى في طفولته على التربية العسكرية ، أن تربية زوجته لإبنه قد جعلته يبتعد عن العالم الواقعي وأن تربية زوجته لابنه ستجعله يعيش في عالم خيالي مختلف عن الواقع الحقيقي ، لذلك طلب من الفيلسوف أرسطو الذي كان الأكثر شهرة بين الفلاسفة في ذلك الوقت أن يقوم بدور تعليم وتربية إبنه لينتزع تلك الأفكار الخرافية التي وضعتها زوجته في عقل إبنه ، وهكذا أصبح إسكندر تلميذ ارسطو يدرس في مدرسته لعدة سنوات.
بعد إنتهاء إسكندر من الدراسة إلتحق بجيش ابيه ليحارب معه. وشاءت الأقدار أن يستطيع ابيه بوجود إسكندر في جيشه أن يحقق إنتصارات هامة في تلك الفترة إستطاع فيها أن يجعل بلاد اليونان بأكملها تابعة له وتحت سيطرته ، وشاءت الأقدار في تلك الفترة بالذات التي اصبح فيها والد إسكند ملكا على بلاد اليونان بأكملها ، أن يتم إغتياله ، فأستلم العرش بدلا منه إبنه إسكندر وهكذا أصبحت جميع جيوش الدويلات اليونانية تحت إمرته . وكأن الله قد جهز الأمور لتسير مثلما ارادت أمه أولمبيادا ، فراح إسكندر يعد جيشه لتحقيق حلم أمه فيه وهو تحرير شعوب العالم القديم من ظلم وإستعباد الأمبروطورية الفارسية .
عندما سمع أرسطو بما يحاول إسكندر القدوم عليه ، لم يصدق ما تسمعه أذنيه ، وشعر أن السنوات التي صرفها في تدريس إسكندر قد ذهبت جميعها هباء ، بل إعتقد أيضا إن ما يقدم إسكندر على عمله ليس إلا ضربا من الجنون ﻷنها تخالف المنطق الفلسفي الذي علمه إياه ، فبسبب إنفصال علوم أرسطو عن الروح والله ، فهو رغم سماعه عن كل تلك الأحلام والأحداث التي حصلت عند ولادة إسكندر لم يفهم أنها علامات إلهية وأن الله له مخطط في تطور الإنسانية ،لذلك إعتبرها أشياء قد حدثت بالصدفة ولا معنى لها ، فأرسطو كان يعلم أن الأمبرطورية الفارسية كانت القوة العظمى الوحيدة في العالم القديم وسيطرتها كانت تمتد من مصر إلى حدود الهند القديمة ، وحسب منطق أرسطو أن جيش إسكندر الذي يتألف فقط من ٣٥ الف جندي من الجنون ان يخوض معركة ضد جيوش الفرس التي تتألف من ٢٥٠ ألف جندي فقط في الأماكن المجاورة في آسيا الوسطى وبلاد الشام وأن محاولة إسكندر بالتعرض لأمبرطورية الفرس قد تغيظهم فيرسلون جيوشهم ويخربون بلاد اليونان. لذلك ذهب إلى إسكندر ليقنعه بشتى الوسائل بالعدول عن رأيه ، ولكن رغم النقاش الحاد والدلائل التي قدمها لم تستطع إقناع تلميذه إسكندر ، فنجد إسكندر يصر على رأيه ويأخذ جيشه منطلقا لتحرير العالم وبعد سنوات قليلة حقق هدفه وانتصر على الأمبرطورية الفارسية واستولى على عرشها وأصبح أيضا ملكا عليها ، وأثبت ﻹستاذه أرسطو ان المنطق المادي الذي يؤمن به ويدعو إليه خالي من الحكمة الإلهية وأنه منطق ضعيف لا يلعب أي دور رئيسي في تطور الأحداث الكونية وتفسيرها ،وأنه هناك منطقا آخر هو المنطق الشامل الذي إعتمده بيثاغورس فهذا المنطق الذي كان يعارضه أرسطو هو الذي يسيطر على كل حركة في هذا الكون. فكما تذكر الأية القرآنية ( .... قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَاقُو اللَّهِ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ -٢٤٩ البقرة).
دور إسكندر في المخطط الإلهي كان توحيد الأمم الموجودة في مركز العالم القديم ليمهد لقدوم الديانة المسيحية ومن بعدها الديانة الإسلامية ، وهنا لا نقصد الأديان كأديان ولكن كمعارف . لذلك نجد أن اسكندر أينما ذهب بجيوشه كان يأخذ معه فلاسفة من نوع البيثاغوري ، فكان دور جيوشه هو القضاء على السلطة الظالمة التي كانت تسخر جميع القوى الجسدية والفكرية لمصاحها الشخصية ، فالقضاء على هذه السلطة كان لتحرير العقول الذكية في تلك البلاد لتستطيع التأمل بما يجري حولها لتبحث فيها بشكل علمي ، وكان دور الفلاسفة هو إعطاء هذه العقول الذكية القاعدة الصحيحة لبناء المعارف المطلوبة لتطوير العلوم لينتج عنها في الأخير معارف متكاملة تبحث في جميع حاجات الإنسانية الروحية والمادية.
فعلى سبيل المثال نذكر أحد نتائج ما حققه اسكندر فبعد تحرير اسكندر لمصر من الفرس والذي كانت نتيجته إتحاد الشعب المصري مع الشعب اليوناني نجد أن علوم النبي يوسف التي كانت تسمى في مصر (علوم تحوت إله الحكمة ) قد أخذت أسم آخر وهو (علوم هرمس) ، هرمس هو الإله الرسول في الأساطير اليونانية ، وكما شرحنا في خاطرة هندسة المجموعة الشمسية بأن هرمس هو رمز آدم ويمثل الكوكب الأول في المجموعة الشمسية المسمى بالعربية كوكب عطارد . فتحويل اسم تحوت إلى هرمس (آدم) لم يكن صدفة ولكن حكمة إلهية تفسر لنا علاقة يوسف بآدم ، فسفر التكوين في التوراة والذي يعني عنوانه معنى (تكوين الإنسانية)، يبدأ بقصة خلق آدم وينتهي بقصة يوسف ، الله عندما خلق آدم نفخ فيه جزء من روحه ولكن بسبب طرده من الجنة كان دور آدم يخص التكوين الجسدي للإنسانية ، أما يوسف فكان دوره يخص التكوين الإدراكي للإنسانية ونعني هنا المعارف والعلوم بجميع أنواعها . فآدم هو رسول الله لتكوين الجسد بينما يوسف هو رسول الله في تكوين المعارف. لذلك سميت علوم يوسف بالعلوم الهرمسية لتوضح هذه العلاقة الشاملة بين آدم ويوسف . لذلك إذا تمعنا جيدا في أسطورة أورفياس المؤسس الأول للحضارة الإغريقية والذي قلنا عنه أنه النصف المادي لعلوم يوسف ، سنجد أن أسطورته مشابهة لقصة آدم فهذه الأسطورة دورها يساعد في توضيح قصة آدم بشكلها الحقيقي. فاسطورة أورفياس بشكل مختصر جدا تذكر أن أورفياس كان يحب زوجته (حواء) حبا جما ، ولكن الحية (الشيطان) لدغتها فماتت وذهبت إلى العالم السفلي (خرجت من الجنة) ، ولكن حب أورفياس الشديد لزوجته دفعه إلى النزول إلى العالم السفلي وساعده في ذلك مهارته في الموسيقى التي جعلت حراس بوابة العالم السفلي وهم يسمعون عزفه الجميل أن يسمحوا له بالدخول، وهناك إلتقى أورفياس بحبيبته وأراد أن يخرجها معه ليعود إلى عالمه (الجنة) ، فاشترط عليه إله العالم السفلي أن لا يلتفت إلى زوجته حتى يخرجا معا من العالم السفلي، ولكن عندما خرج أورفياس من بوابة العالم السفلي وبسبب لهفته لرؤية حبيبته ولإطمئنان عليها بأنها لا تزال خلفه، إلتفت إلى الوراء ليتأكد من أنها بقربه ولكن كانت هي لا تزال داخل العالم السفلي وبمجرد أن رأها إختفت من عينيه وعادت حيث كانت. والقرأن الكريم يذكر في سورة البقرة (فَتَلَقَّىٰ آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ ۚ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (٣٧) . أي آدم عاد وحده إلى الجنة . هذه القصة تؤكد أن حواء هي التي أخطأت أولا وليس آدم كما يظن علماء المسلمين اليوم. وقد ذكرنا إثباتات عليها في مقالة فلسفة الخروج من الجنة.
قد لا يقتنع المسلم المتعصب مما ذكرناه عن أولمبيادا وأسكندر لكونهما من شعوب وثنية ، لذلك الحكمة الإلهية تركت لنا حقائق عديدة تؤكد على صحة ما ذكرناه ، نذكر هنا بعض منها :
أسم يوسف بالكابلا العربية قيمته الرقم (١٠٧٢) ، وكما ذكرنا في الأجزاء الماضية من موضوعنا ، بأن أورفياس كان القسم المادي من علوم يوسف وأن إسكندر المقدوني كان ثمرة الحضارة الإغريقية التي تأسست على عقيدة أورفياس وعلوم بيثاغوراس ، أي أن اسكندر هو نصفه الأيسر ليوسف ، فدويلة مقدونيا هي مكان ولادة أورفياس في اليونان ، لذلك كان إسكندر هو الذي حرر مصر من الفرس لتعود إلى سيطرة المصريين واليونانيين معا . الآن إذا تمعنا في كف اليد اليمنى سنجد الرقم (١٨) وفي اليد اليسرى سنجد الرقم المناظر له (٨١) ، فإذا عكسنا القيمة الرقمية لأسم يوسف (١٠٧٢) سنحصل على الرقم (٢٧٠١) وهو القيمة الرقمية لعبارة (إسكندر المقدوني) في الكابلا العربية. لهذا نجد أن الحكمة الإلهية تذكر في سورة الكهف لقب إسكندر المقدوني الذي شُهر فيه عندما عندما أصبح ملكا على بلاد الفرس (وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِي الْقَرْنَيْنِ ۖ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُم مِّنْهُ ذِكْرًا (83). بعض علماء الدين الإسلامي يرفضون أن يكون إسكندر هو المقصود به في هذه الآية كونه من ديانة وثنية . فنقول لأمثال هؤلاء العلماء القول المأثور (لو سكت من لا يعلم لقل الخلاف) ونضيف إليه ولقلت العدوانية والفتن أيضا بين الشعوب.
كتب الفلسفة المزيفة اليوم لا تذكر في ابحاثهم شيئا عن علاقة التناقض بين فكر أرسطو وفكر تلميذه إسكندر ، وكأن ذلك الجدال الحاد الذي حصل بين الإستاذ وتلميذه لا علاقة له بالمواضيع الفلسفية ، ولكن الحقيقة هي عكس ذلك تماما فإسكندر المقدوني قد أعطى رأيه الفلسفي ليس كلاما ولكن بسلوكه فهو ترك الأحداث تتكلم بدلا منه لأن لغة الفيلسوف ليس فقط كلماته التي تخرج من فمه ولكن أيضا سلوكه والنتائج التي تنتج من هذا السلوك لتبين لعلماء الفلسفة أن الفلسفة مشابهة لعلوم هرمس وعلوم بيثاغوراس التي تؤمن بأن الله من وراء كل شيء . والشيء الأسوأ من هذا هو أن الكثير من المؤلفين اليوم الذين كتبوا عن حياة إسكندر وانتصارته والتي قالوا عنها بأنها أبهرت شعوب العالم فبدلا من أن يذكروا فضل امه أولمبيادا في هذه الإنتصارات نجدهم بسبب جهلهم ينسبون هذا الفضل لأستاذه الفيلسوف أرسطو كون أسكندر كان تلميذه . هذا التشويه في التاريخ هو ظلم عظيم بحق أولمبيادا أم التي لولاها لربما كان إبنها فقط ملك مثل بقية الملوك ولما ذكرت صحف التاريخ عنه شيئا ولكان طريق الإنسانية قد أخذ جهة أخرى لا يعلم نتيجته إلا الله عز وجل .
إذا قارنا بين منهج البحث في دراسة اﻷشياء في منهج أرسطو وبين منهج بيثاغوراس ، لوجدنا فرقا كبيرا بين المنهجين ،حيث نجد أن أرسطو يعتبر المادة هي اﻷساس وجوهر اﻷشياء ( كما هو اليوم في منطق المنهج العلمي الحديث) ، بينما بيثاغوراس يعتبر أن الروح أي " الله " هو اﻷساس والجوهر، لذا قسم المفكرون الفلسفة عبر التاريخ إلى نوعين : فلسفة ذات مذهب مادي ( أرسطو) وفلسفة ذات مذهب مثالي ( أفلاطون ) ، هذا النوع من التقسيم يعتبر اول تشويه يحدث في مفهوم الفلسفة ﻷن أرسطو كما قلنا لم يكن فيلسوفا ولكن كان عالما بعدة أنواع من العلوم، إجتماع ،نفس، رياضيات ،فلك ،حياة.. أما أفلاطون البيثاغوري فكان فيلسوفا وعالما أيضا في العلوم الروحية وجميع علومه مرتبطة بالمخطط الإلهي . هؤلاء المفكرين الذين قسموا الفلسفة لنوعين راحوا وحذفوا آراء بيثاغوراس من قائمة الفلاسفة ، تصوروا أن الذي أطلق كلمة (فلسفة ) على علومه لأول مرة لا أحد من الفلاسفة اليوم يقرأ عنه شيئا ، لأنه حسب رأيهم هو كاهن وعالم رياضيات وموسيقي فقط لا غير.
في المقالة القادمة إن شاء الله سنشرح كيف الحكمة الإلهية وضعت مضمون ما ذكرناه في المقالات السابقة عن الفلسفة في تعاليم وأحداث حياة عيسى المسيح عليه الصلاة والسلام ليخرج إلى الناس بديانة سماوية جديدة لم يفهم حقيقتها حتى اليوم لا علماء اليهود الذين أنكروها ، ولا علماء المسيحيين الذين إتبوعها ، ولا العلماء المسلمين الذين شوهوها ." لو سكت من لا يعلم لقل الخلاف بين الديانات".
وسوم: العدد 805