الوطن والغربة
يولد الإنسان في زمن ما ، وفي مكان ما من أرض الله الواسعة ، ويبقى المكان هو الوطن الذي يعيش فيه ، ويتغنى بأمجاده ، ويشعر بحبه يملأ حنايا فؤاده ، ويعمل على الرقي به من كل جوانب الحياة . ولا يفكر بهجره ، بل لايخطر على باله أن هذا الوطن يسمح له بالتفكير بمصيره ، فالوطن هو الحاضن الأمين للإنسان فلن يفرط فيه . ففي وطنه تطمئن نفسه ، وكأنما أنزل الله سبحانه وتعالى السكينة عليها ، ولحكمة أرادها الله جعل الإنسان يحب وطنه .
وقد يضطر الإنسان أن يترك وطنه إما طلبا للرزق ، أو رغبة في التزود من العلم ، أو لأي سبب آخر ... فيفارق وطنه ، وهو مؤمن بأنه سيعود إليه بعد أن ينجز المهمة التي أرادها ، وهذا اغتراب اختياري ، وربما كان محمودا لأن فيه مصلحة للإنسان في شأن من شؤون حياته . ولن نتحدث في هذه الأسطر عن طريقة العيش في الغربة ، ولا عن المكان الجديد الذي يعيش فيه المغترب ، ولا عن عادات سكانه الأصليين وثقافتهم ... فتلك أمور هامة وحساسة ، ولكنها لاتهم المغترب بشكل مباشر ، ولكن المغترب يشعر بالحنين إلى وطنه ، ويشتاق إلى رؤية مَن هجرهم ، وتداعب مشاعره ذكريات الأيام الجميلة التي قضاها مع الأهل والأرحام والأصحاب ... وتلك طبيعة البشر في حلهم وترحالهم ، ويبقى لهم طريقة التأقلم مع البيئة الجديدة .
تلك هي الغربة وما يكتنفها من مشاعر ، وما يجد المغترب في بيئتها من سعادة أو شقاء ، ومن إقبال أو نفور ، ومن نفوس يضطر لمعاشرتها فإذا بها ملأى بالحقد والكره والحسد ، وربما وجد المغترب في نفس البيئة نفوسا أخرى تفيض بالمودة والاحترام والتقدير ، بل ربما بالإخاء الإنساني الذي لم تُلَوِّثْ فطرتَه العنصرية المذمومة أو الطائفية الحاقدة أو غيرهما من المصطلحات البغيضة التي يجدها المغترب لدى بعض الناس . هذا إذا كان المغترب هجر وطنه باختياره ورغبته ، وأما إذا هجر وطنه : ( رغم أنفه ، مجبرا ، مقهورا ... ) إلى آخر مافي معجم التسلط من مصطلحات قاسية على النفس ، فهذا الهجر القسري مصيبة حلَّت عليه ، وإذا حلَّ في مكان آخر فلا يُقال له مغترب ، وإنما يقال له : ( لاجئ ، مطارد ، هارب ، وافد ... ) إلى آخر هذا النموذج من الألقاب التي تؤذي المسامع ، وتجرح القلوب ...
ففرق بين مغترب اختار دار الغربة برغبته ، وبيده مفاتيح العودة إلى وطنه متى أراد . وبين مغترب أي : (لاجئ ، مطارد ، هارب ، وافد ... ) لم يكن يرغب بمغادرة الوطن ولكنه أُجبر تحت آلة الترحيل القسري ، وقد فقد مفتاح العودة إلى وطنه ، فبات ينظر إلى السماء في ليلة ظلماء أو قمراء ، سيان لديه سواد الليل وبياض النهار ، ويرفع يديه إلى الحكيم العليم أن يهيئ له أسباب العودة إلى وطنه ، ولا يشعر الشعور الذي خرج من وطنه مختارا وبيده مفتاح العودة ، ولكنه ينتظر الفرج القادم من عالم الغيب والشهادة ، وعساه أن يكون قريبا .
وسوم: العدد 947