في الصبر الجميل
نعيش في هذه الحياة الدنيا ، ولنا فيها جولات ، ولها فينا تأثيرات ، نفرح أحيانا ، ونحزن في بعض الأحيان ، حيث تتنوع صروف الدهر وتقلبات الأيام ، من موت لابد منه ، ومن خطوب تمر على الإنسان ، ومن ضائقة ولها فروع متنوعة ، ولعل مفردات ومسميات مسببات الأحزان لاتحصى في لغتنا العربية المجيدة ، فالرزء والعوز والفاقة والشدة ، واعتداء الآخرين على الحقوق ... إلى غير ذلك من مسببات الأذى . ويمكن أن نطلق على هذه الحالات كلمة العسر . وكل إنسان لابد وأن يمر عليه هذا العسر بشكل من الأشكال ، أو صورة من الصور . فالأنبياء عليهم صلاة الله وسلامه أصابهم العسر ، ولحقت بهم الشدائد من قِبل أقوامهم ، ولحقت بهم المصائب التي تصيب كل مخلوق ، حتى أن الناس يضربون المثل لمن نزلت به المصيبة ، واكتنفه الحزن فيقال صبر كصبر أيوب .
والحياة الدنيا هي دار اختبار للخلق ، يتعرض فيها الناس لكل أنواع الابتلاء ، وإن الله سبحانه وتعالى أنزل في محكم كتابه الكريم ما أعده للمؤمنين وللمؤمنات من أهل الصبر المكانة العالية من الجنة . كما وردت الأحاديث الشريفة في هذا الشأن تبشر أهل الصبر برحمة من الله ورضوان . ولقد أفاض علماؤُنا العاملون بالحديث عن الصبر ، وأشاروا إلى الصبر الجميل وهو الصبر من غير تأفف ولا شكوى ولا ضجر ، فالصابر يجب أن يلتزم بقيم الصبر التي تدل على الإيمان ، وعلى الطمع بما عند الرحمن ، وعلى الرضا بما يصيب الإنسان ، أولئك لهم البشرى وحُسن المآل . يقول الله تعالى ( إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب ) . كرم إلهي وجود رباني ليس له حدود ، فالصابر والصابرة على البأساء والضراء هما في كنف رحمة الله الواسعة يوم القيامة ، ولهم المنازل العاليات . فالعسر: ( الْعُسْرُ وَالْعُسُرُ: ضِدُّ الْيُسْرِ ، وَهُوَ الضَّيِّقُ وَالشِّدَّةُ وَالصُّعُوبَةُ ) . وجاء في تفسير الإمام الطبري -رحمه الله-في آية: إنّ مع العسر يسرًا،( بأنّ الله تعالى يُخبر النبي محمدًا -صلّى الله عليه وسلّم- بأنّ اليسر مصاحب للشدة التي أنت فيها بسبب مجاهدتك للكفّار والمشركين، ورجاؤك بأنّ النصر والظفر سيكون لك عليهم حتّى ينقادوا للذي جئتهم به طواعيةً أو إجبارًا، وذكر أثرًا أنّ رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم-بدا مستبشرًا ويظهر عليه الفرح ، فقال لهم وهو يضحك:( لَنْ يَغْلِبَ عُسْرٌ يُسْرَيْنَ، لَنْ يَغْلِبَ عُسْرٌ يُسْرَيْنِ ) .
وقد يشتد الأمر على الإنسان ، ويشعر بثقل العسر الذي اكتوى به قلبه ، وهدَّ كيانه ، وهنا يجب أن يفتح المُبْتَلَى نافذة الصبر الجميل التي تطل على الأمل ، الأمل الذي يخفف الأحزان ، ويعيد للإنسان حيويته ، بل يجدد إيمانه بالله الذي بيده تصريف الأمور ، ويثق برحمة الله سبحانه وتعالى . وأن يعيش متفائلا باسما للحياة مهما اكفهرت آفاقها في وجهه . ويدفع عن نفسه الحزن والكآبة بآيات من الذكر الحكيم ، ويُجري على لسانه ذكرَ الله عزَّ وجلَّ ، فذاك يمنع الإحباط ، بل يشعر بضرورة الإقبال على الحياة بشكل أقوى ، لأن ثقته بالله تفيض على قلبه بالسكينة والطمأنينة ، ويشعر عندئذ بالقوة في ذاته ، ويشعر بالمنعة التي أوتيها من ربه سبحانه . فتتلألأ أنوار الصبر الجميل لتملأ وجهه ، فتذهب الآلام وتتلاشى المكابدة والمعاناة ، لأنه يشعر بالعبودية لله الذي بيده الأمر من قبل ومن بعد . فلا يأس ولا ملل ولا كآبة . وهذا وسام عالٍ يتقلده الصابرون ، ألا بشرى لهم وحسن مآب . وهل يخضع المؤمن بالله وبما أنزل الله من آيات بينات على نبيه صلى الله عليه وسلم لوساوس الشيطان ، أو لضعف نفس لم تقبل على الطاعات ، هيهات أن يخيب داع وقف في محراب مناجاة الله في ليلة ظلماء ، يسبحه ويدعوه ويقول : يارب ... يارب . ألا فليقف المسلم وتقف المسلمة في هذا المحراب الجليل في ثلث الليل الأخير ، والقلب خاشع والنفس مطمئنة ليرى فضل الله . عن ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا كان ثلث الليل الباقي يهبط الله عز وجل إلى السماء الدنيا ثم تفتح أبواب السماء، ثم يبسط يده عز وجل فيقول: هل من سائل يعطى سؤله؟ فلا يزال كذلك حتى يسطع الفجر) رواه أحمد وأبو يعلى ورجالهما رجال الصحيح . ولقد أحسن الشاعر حيث قال :
وسوم: العدد 949