الخاطرة ٣٠١ : فلسفة تطور الحياة (الروحي والمادي) الجزء ٩
خواطر من الكون المجاور
في الجزء الماضي من سلسلة (فلسفة تطور الحياة) تكلمنا عن زاوية رؤية فن الرواية كما يراها مؤيدي نظرية التطور الداروينية الحديثة ، وذكرنا أنها كرؤية من زاوية فن الرواية تُعتبر رواية ركيكة تفتقر جميع مقومات وشروط الرواية كون أحداثها تعتمد بشكل أساسي على مبدأ حدث بالصدفة ونقصد هنا المصطلح العلمي (الطفرة) المستخدم في تفسير تلك التغيرات الصغيرة والكبيرة التي تحصل في تغيير تكوين أجسام الكائنات الحية . واليوم سنتكلم عن الرواية الدينية لتطور الحياة وظهور الإنسان لنقارنها مع رواية نظرية التطور الداروينية الحديثة.
في الحقيقة قبل نشر مقالات سلسلة تطور الحياة خطر في بالي أن أنشر سلسلة من المقالات عن موضوع (فلسفة الديانات العالمية) ، ولكني وجدت أنه بدون فهم فلسفة تطور الحياة سيصعب فهم فلسفة الديانات وذلك كون تطور الديانات هو في الحقيقة استمرار لتطور الحياة ولا يمكن الفصل بينهما ، فحتى نفهم فلسفة الديانات يجب أولا فهم فلسفة تطور الحياة . فالتطور بشكل عام قد حدث على ثلاث مراحل وهي : تكوين المادة ، تكوين النفس ، وفي الاخير تكوين الروح . وهنا لا نقصد بتكوين الروح معنى خلقها من جديد ، فالروح موجودة قبل ولادة الكون وهي التي صنعت العناصر المادية (الجسيمات والذرات) ليتم منها تشكيل خلايا أعضاء وأجهزة الجسم ، فهذه الأجهزة هي في الحقيقة مكونات النفس التي تستخدمها الروح لتقوم بعملها لتعبر عن نفسها . فهدف الروح منذ ولادة الكون هو تطهير نفسها من جميع تلك الشوائب التي كانت سببا في طرد الإنسان من الجنة لكي يصبح ملائما للعودة إليها .
الملحدون ينظرون إلى قصة خلق الإنسان وطرده من الجنة كما هي مذكورة في الكتب المقدسة على أنها قصة خرافية ساذجة صالحة فقط للأطفال والعقول البسيطة . ولكن من ينظر إليها بزاوية فن الرواية سيجد أنها قصة تنطبق عليها جميع مقومات وشروط الرواية بأرقى معاييرها . فهذه القصة ظهرت قبل أكثر من ثلاثة آلاف عام عندما كانت المعارف والعلوم في مستوى متدني لا تسمح لشرح تفاصيل دقيقة عن تكوين الكون وتكوين الأجسام الحية وظهور الإنسان ، فالإنسانية في تلك العصور كانت روحيا تعيش في مرحلة الطفولة ولهذا وجب أن يتم سرد الأحداث بطريقة ملائمة لمستوى قدرة إدراك الناس في تلك العصور في فهم ما يجري حولهم ، فمن الغباء أن نقول لطفل بأن الماء يتكون من إتحاد ذرتين من الهيدروجين مع ذرة واحدة من الأوكسجين، أو نقول له بأن الكون ضخم جدا وأن حجم الكرة الأرضية بالنسبة لحجم الكون هو بمثابة حجم نقطة ماء بالنسبة لحجم محيط كبير ، فعندها بدلا من أن يهتم عقل الطفل في فهم تكوين طبيعة عالمه الصغير الذي يتألف من أفراد العائلة وأفراد الحي والروابط الإنسانية بينهم ، سيذهب فكره إلى أشياء لا تنفعه بشيء ولا يستطيع عقله أن يستوعبها ، وبدلا من أن ينمو فكريا وروحيا بشكل تدريجي يسمح له فطريا ربط الأشياء مع بعضها البعض ، سيتم تشويه نموه وسيتحول العالم من حوله إلى عالم عشوائي ستجعل منه كائن بلا إحساس وبلا علاقات إجتماعية تسمح له بالإندماج بالشكل الصحيح مع أفراد مجتمعه وبالعالم المحيط به .
فقصة خلق الإنسان كما هي مذكورة في الكتب المقدسة وُضعت بهذا الشكل لتتناسب مع مستوى معارف تلك العصور ، ولكن رغم أنها تبدو وكأنها حكاية ملائمة لعقول الأطفال والناس البسطاء فهي أيضا صالحة لجميع العصور كونها تحوي في داخلها رموز تجعل منها رواية راقية تساعد المتخصصين في جميع أنواع العلوم في فهم حقيقة تطور الكون وتطور الحياة وتطور الحضارات . ولكن بسبب الإنحطاط الروحي الذي تعاني منه الإنسانية اليوم أدى إلى عدم رؤية العلماء لهذه الرموز والذي بدوره أدى إلى تنمية التعصب الديني الذي مزق الروابط بين المذاهب والأديان ، فأهم قانون في التطور هو الذي يذكره الحديث الشريف ( إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها ) والمقصود في هذا الحديث الشريف ليس تغيير النصوص الدينية ولكن تجديد مفهومها بشكل تدريجي عن طريق فهم رموزها والذي يحصل بسبب تطور المعارف والإدراك العام ، وذلك لكي يتلائم الدين مع التكوين الروحي لكل عصر . وعملية التجديد المقصودة في الحديث الشريف لا تأتي فقط من علماء الشريعة ولكن تتعاون معها جميع العلوم والفنون التي تتطور مع مرور الزمن . وبسبب اعتماد علماء الدين على تفسيرات علماء السلف لهذا ظلت قصة الخلق بشكلها البسيط الذي كانت عليه في العصور الماضية . فبسبب عدم التجديد كان من الطبيعي أن نجد أن دور معارضي نظرية التطور الداروينية يتوقف فقط على مهاجمة هذه النظرية دون أن يستخدموا تلك الرموز الموجودة في قصة الخلق ليشرحوا حقيقة ما يحصل في موضوع تطور الحياة ، فكل الذي يفعله هؤلاء هو أن يبرروا عملية ظهور الأنواع الجديدة عبر العصور بعبارة (الله يفعل ما يشاء) ، وكأن الله عز وجل طوال الوقت وبشكل مستمر يراقب مايحصل في الكون ليتدخل في كل فترة وفترة ، فيجد - مثلا - أنه جاء دور ظهور الحصان فيقول ( يا حصان كن فيكون) فيظهر الحصان فجأة كنوع جديد . وهذا غير صحيح فهذا الإله الذي يستخدم هذا الأسلوب هو إله ضعيف وناقص ، فالإنسان اليوم وصل إلى درجة من العلم أن يصنع آلة تعتمد على الكمبيوتر، وفقط بلمسة على زر معين تجعل الآلة تعمل لوحدها ولساعات أو لأيام عديدة لتصنع من أشياء بسيطة منتوجات عالية التعقيد . فهل هذا يعني أن الإنسان تفوق على الرب الخالق في طريقة صنع الأشياء ؟ طبعاً هذا غير صحيح ، فالحقيقة هي أن هذا الأسلوب الذي وصل إليه العلم اليوم مع تقدم التكنولوجيا لم يحصل بسبب ذكاء الإنسان ، ولكنه حصل بسبب وجوده أصلا في التكوين الروحي للإنسان كونه يحمل في تكوينه جزء من روح الله ، فالكون بأكمله وبما يحتويه يعمل على كمبيوتر روحي إلهي ، الله خالق كل شيء ضغط على زر البداية ومنذ ذلك الوقت وكل شيء في الكون يسير على ذلك المخطط الإلهي الذي وضعه في شيفرة هذا الكمبيوتر الإلهي . القوانين التي يكتشفها العلماء بمختلف اختصاصاتهم العلمية هي من صنع هذا الكمبيوتر الإلهي ، وهذه القوانين تقول لنا أن الله عز وجل هو أرقى بكثير مما يتصوره علماء الديانات العالمية والذين لا يزالون حتى الآن يؤمنون بمفهوم معنى الخالق كما كان في العصور الماضية ، ولهذا توجد اليوم خمس ديانات عالمية وليس ديانة واحدة ، حيث كل ديانة تعطينا زاوية رؤية مختلفة عن زوايا رؤية بقية الديانات ، وفقط بتعاون هذه الديانات مع بعضها البعض سنحصل على حقيقة مفهوم ( الله ، الرب ) الذي يمكن به تفسير رواية خلق وتطور كل ما في داخل هذا الكون .
المعلومات التي نعتمدها هنا في شرح موضوع الرواية الدينية لقصة تطور الحياة ، كنا قد شرحناها بالتفصيل في مقالات ماضية ومنها : فلسفة الخروج من الجنة ، حقيقة التقمص ، رمز الكعبة والحج ، حقيقة طوفان نوح ... وغيرها . ولا نستطيع هنا إعادة ذكرها مرة أخرى بسبب طول شرحها ، ولكن سنذكرها بشرح مختصر جدا لنستطيع فهم فقرات هذه المقالة .
قصة خلق الإنسان في الديانات السماوية يمكن تلخيصها بهذا الشكل : " الله عز وجل خلق آدم من طين ونفخ فيه من روحه وتحول إلى كائن حي ، ومن ثم أخذ منه ضلع وخلق منه حواء ، وطلب منهما عدم الأكل من ثمار شجرة المعرفة ، ولكن الشيطان أغوى حواء ، وحواء بدورها أغوت زوجها آدم فأكلا من الشجرة ، فكان عقابهم الخروج من الجنة ، حواء أنجبت قابيل (قايين) وهابيل ، ولأن الله تقبل قربان هابيل ولم يتقبل قربان قابيل ، قام قابيل بقتل أخيه هابيل " . هذه القصة حدثت قبل ولادة الكون ، وهي مذكورة في كتب الديانات السماوية بشكل رمزي يناسب طبيعة العقل البشري ، فولادة الكون والمعروفة علميا بنظرية الإنفجار العظيم بدأت بعد خروج الإنسان من الجنة ، فالإنسان خرج من الجنة كروح وليس كجسد ، ومع ولادة الكون بدأت عملية تكوين أصغر الجسيمات اللازمة لتشكيل جسد الإنسان .
فحقيقة ما حدث قبل ولادة الكون لا يعلم به إلا الله ، لأن قوانين عالم الجنة مختلفة تماما عن قوانين الكون الذي نعيش به وهي تتبع قوى واحدة ، أما داخل الكون فيوجد نوعان من القوى الروحية التي تتحكم في تطور الأشياء وهي : قوى روح الخير العالمية التي تمثل روح الله التي نفخها في آدم قبل إنقسامه إلى آدم وحواء ، ورمزها (١٨) وهي التي تمثل شيفرة الكمبيوتر الإلهي ، أما القوى الثانية فهي قوى روح السوء العالمية التي تمثل روح الشيطان وأعور الدجال . القرآن الكريم عبَّر عن هذين النوعين من القوى في الآية {قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا ۖ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ ۖ .... (١٢٣) طه} ، فهناك صراع دائم بين قوى روح الخير العالمية وقوى روح السوء العالمية منذ ولادة الكون وحتى الآن ، هذا الصراع يتحكم في تطور وظهور الانواع المختلفة من الكائنات الحية . روح الخير العالمية تحاول أن تعيد تكوين نفسها من جديد ابتداء من نقطة الصفر بهدف تنقية نفسها من جميع تلك الشوائب التي شوهت تكوينها بسبب الخطيئة لكي تصل إلى الكمال لتستطيع العودة إلى الجنة ثانية ، أما قوى روح السوء العالمية فتحاول باستمرار عرقلة وتشويه هذا التكوين .
نصوص كتب الديانات السماوية بشكل عام تتكلم عن الأحداث من زاوية رؤية روحية لهذا فهي ذكرت ما حصل في الجنة ، أما الديانات القديمة والتي تم تجميعها على شكل رموز في الديانة الهندوسية فهي تتكلم عن الأحداث من زاوية رؤية مادية ولهذا فهي تتكلم عما حصل داخل الكون . وحتى نصل إلى فهم شامل لحقيقة أحداث قصة الخلق كرؤية دينية لا بد من تعاون الديانات العالمية مع بعضها البعض لنصل إلى الحقيقة الكاملة . بشكل عام أتباع الديانات السماوية يعلمون أشياء كثيرة بما يخص قصة الخلق المذكورة في كتبهم المقدسة ، ولكن معظمهم لا يعلمون شيئا عن الديانة الهندوسية، ولهذا سنركز في موضوعنا هنا أكثر في شرح هذه الديانة لنستطيع فهم الرواية الدينية لتطور الحياة برؤية شاملة .
للأسف أتباع الديانات السماوية يعتقدون أن الهندوسية هي ديانة وثنية ، ونسبة كبيرة منهم لا يعلمون عن حقيقتها شيئا . فالذي يعتقد أن أتباع الهندوسية يعبدون البقرة ويعبدون آلاف الآلهة ، أو أنهم يدعمون فكرة الفصل الطبقي العنصري ، أو أشياء أ خرى ليسخر منهم ، فهذا الشخص هو إنسان جاهل مثله مثل ذلك الشخص الذي يدعي أن تعاليم الإسلام هي تلك التي يمارسها أتباع داعش من وحشية وتخلف . الإنسان المؤمن هو الذي يتبع تعاليم الدين الإسلامي في الحكم على الآخرين {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ (٦)الحجرات} ، والحديث الشريف يذكر (بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ فطوبى للغرباء) ، ومعنى هذا الحديث الشريف أنه وبسبب وجود روح السوء العالمية فمع مرور الزمن تحاول هذه الروح تشويه تعاليم الدين الإسلامي وأنه سيأتي يوم يصبح فيه الإسلام دين غريب عن ذلك الدين الذي أُنزل على محمد صلى الله عليه وسلم ، ولكن ومع ذلك فالإسلام الحقيقي سيبقى موجودا وسيتبعه فئة قليلة جدا من المسلمين . وهنا يجب أن ننتبه إلى معلومة هامة وهي أن الإسلام ظهر قبل /١٤٠٠ / عام ويكاد اليوم أن يصبح دين غريب على المسلمين حيث نجد أن معظم شعوب الأمة الإسلامية اليوم فقيرة ومتخلفة وتتصارع مع بعضها البعض ، فحدوث هذا الإنحطاط الإسلامي ليس سببه أن عامة الناس قد ابتعدوا عن الدين ولكن بسبب علماء الدين أنفسهم كونهم تمسكوا بتفسيرات علماء السلف ولم ينتبهوا إلى أولئك المجددين الذين أرسلهم الله لتجديد الدين . هكذا حصل مع الدين الإسلامي الذي ظهر قبل /١٤٠٠/ عام ، فما بالكم مما سيحصل مع الديانة الهندوسية التي ظهرت قبل حوالي /٣٥٠٠/ عام ، أي أكثر من ضعف المدة الزمنية التي ظهر فيها الإسلام . فالتشويه فيها سيكون بنسبة أكبر ، ولكن مثلما أنه هناك قلة من المسلمين لا تزال تتبع تعاليم الإسلام الحقيقية ، هناك أيضا قلة من الهندوسية تتبع تعاليم الديانة الهندوسية الحقيقية ، وعلى المسلم الحقيقي أن يبحث عن تعاليم الهندوسية من هؤلاء وليس من أمثال أولئك الهندوس الذين أتبعوا تعاليم مشوهة كما حصل تماما مع اتباع داعش . فالآية القرآنية تذكر {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عَسَىٰ أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ .....(١١) الحجرات} . ومعنى هذه الآية أن روح الخير موجودة في كل قوم من شعوب العالم بغض النظر عن عرقه أو ديانته . فأتباع الديانة الهندوسية الحقيقية هم أيضا يعبدون إلهاً واحدا لا يمكنهم معرفته أو فهمه بشكل مطلق. فهم لا يعبدون الأوثان ، ولكن يقدسون ما يذكرهم بالرب. ولا يعبدون البقرة ولا يصلون لها ولكنهم يعتبرون أن كل المخلوقات وكل ما فيه حياة هو أمرا مقدسا وضع الله فيه رمز معين يساعدنا في فهم الروح العالمية التي تتحكم في تطور الكون والحياة والإنسان .
في الحقيقة أن الديانة الهندوسية هي في الأصل أيضا ديانة إبراهيمية لها زاوية رؤية مختلفة عن زوايا رؤية الديانات السماوية ، وهذه الزاوية في الرؤية تساعد في فهم تلك الرموز الموجودة في نصوص الكتب المقدسة السماوية ، فالآية القرآنية التي تذكر {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (٩) الحجر} ، لا تعني فقط كلمات آيات القرآن الكريم ولكن تعني أيضا ما أنزله الله مع الرسل والمنذرين {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِى كُلِّ أُمَّةٍۢ رَّسُولًا .....(٣٦)النحل} ،{.... وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ (٢٤) فاطر} ، فما أنزله الله على الرسل والمنذرين هو من الذكر وسيبقى إلى يوم القيامة . القرآن الكريم كتاب كامل ، ولكن حتى نرى فيه هذا الكمال يجب أن نفهم بقية الديانات العالمية ، فالحديث الشريف يذكر (إنَّما بُعثت لأتمِّم مكارم الأخلاق) ، فالمقصود بالأخلاق هنا هو السلوك اليومي للإنسان وهذا السلوك هو عبارة عن ترجمة لما يحويه التكوين الروحي لهذا الإنسان . الأخلاق هي مرآة التكوين الروحي . فهناك مكارم من الأخلاق ظهرت قبل الإسلام ويجب على المسلم المؤمن أن يأخذها ويُطبقها في حياته اليومية . كل مسلم ليس بالضرورة أن يكون مؤمن ، وكل مؤمن أيضا ليس من الضرورة أن يكون مسلم . فأركان الإيمان هي ثلاثة (الإيمان بالله واليوم الآخر والعمل الصالح) هذه الأركان موجودة أيضا في تعاليم الديانة الهندوسية .
كلمة (هندوسية) هي كلمة فارسية ، أما اسم هذه الديانة في اللغة الهندية فهو (فرناشرما) وتعني النظام الإجتماعي ، وباللغة السنسكريتية فهي (ديوناغري) وتعني لغة الملائكة . أهم شيء في الهندوسية ليس طريقة العبادة ولكن نوعية سلوك الإنسان اليومي (العمل الصالح) الذي يجب أن يمارسه الفرد مع نفسه ومع الآخرين لتكوين نظام اجتماعي متكامل يحقق إنتقال التكوين الروحي للإنسان إلى مستوى أرقى .
شرح الديانة الهندوسية بشكل مفصل يحتاج إلى صفحات عديدة ولكن هنا سنتكلم عنها بشكل مختصر وبما له علاقة في تطور الحياة .
إذا تمعنا جيدا في معتقدات المذاهب الهندوسية المختلفة (سنكارا ، رامانوجا ، براهماتية ، بهاكتية) سنجد أنها تحاول أن تشرح لنا حقيقة روح الخير العالمية (١٨) وسبب وجود الإنسان في داخل هذا الكون ، فسبب الوجود في الهندوسية له غاية واحدة فقط وهو محاولة تنقية التكوين الروحي للإنسان من الشوائب لكي يصل إلى الكمال ، والذي يتم بشكل تدريجي ويحصل ذلك عن طريق الولادة عدة مرات (التقمص) ، فعند وصوله إلى الكمال عندها فقط يستطيع الإتحاد بروح الخير العالمية . فحسب الديانه الهندوسية أن روح الخير العالمية وضعت صفاتها بأجزاء مبعثرة في كل شيء موجود داخل الكون ، أي أن الطبيعة وروح الخير العالمية هي شيء واحد (وحدوية الوجود) ، ولكن جميع صفات روح الخير العالمية هي جزء من الله خالق كل شيء أي أن الله منفصل عن الطبيعة (التوحيد) . وهذا يعني أنه هناك إله واحد منفصل عن الكون لا نعلم عنه شيئا ، تماما كما تذكر سورة الإخلاص (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ) .
الديانة الهندوسية ظهرت قبل الديانة اليهودية بعدة قرون ، في تلك الفترة الزمنية كان مستوى النمو الفكري للإنسانية لا يستطيع أن يستوعب الفرق بين مفهوم (الله) الذي خلق آدم ، ومفهوم (روح الخير العالمية) والتي تمثل ذلك الجزء من روح الله الذي نفخه في آدم (١٨) ، لهذا كانت عقيدة الإيمان بوجود (الإله الخالق) تتكلم عن مفهوم الخالق (الله - روح الخير العالمية) وكأنهما شيء واحد ، وإذا تمعنا جيدا في كتب التوراة نجد أنها هي أيضا تتبع بعض الأحيان نفس الأسلوب ، ولكن تحاول أن تعطي بعض التفصيلات عن الفرق بينهما ، فهناك الإله الأكبر (الله) الذي خلق آدم ، وهناك (الرب) الذي قد يعني الله ، وقد يعني روح الخير العالمية ، فكلمة (رب) لغويا قد تعني أيضا رب العائلة ، أو رب العمل أو غير ذلك ، فكلمة (رب) لا تعني بالضرورة (الله) المقصود عند المسلمين . فمثلا نجد في الإصحاح / ٦ / في سفر التكوين يذكر عبارة (أبناء الرب) وأن الرب قد عاقبهم ، وفي الإصحاح / ١٨ / يذكر أن الرب ظهر على إبراهيم عليه الصلاة والسلام ليبشره بولادة إسحاق عليه السلام وليعلِمه أيضا بأنه سيعاقب قوم سدوم . القرآن الكريم لا ينفي هذه الحادثة ، ولكن في القرآن بدل كلمة (رب) يضع كلمة ضيف {وَنَبِّئۡهُمۡ عَن ضَيۡفِ إِبۡرَٰهِيمَ(٥١)الحجر} . فالمقصود بكلمة (الرب) في سفر التكوين ليس (الله) ولكن روح الخير العالمية (١٨ ) . لهذا نجد أن سفر التكوين يتكلم عن الرب ضيف إبراهيم وبنفس الوقت يذكر ثلاثة أشخاص وكأنهم هم (الرب) . وهذا ليس تحريف ولكن حكمة إلهية لها معنى ، حيث رمز (١٨ ) الذي يمثل روح الخير العالمية رغم أنها روح واحدة ، ولكن هي في الحقيقة الرمز (١٨) الذي يتألف رمزيا من ثلاثة خطوط ( \ / | ) حيث كل شخص من الاشخاص الثلاثة الذين ظهروا على إبراهيم يمثل خط من الخطوط الثلاثة ، والقرآن الكريم أيضا يتكلم عن (ضيف إبراهيم) وكأنهم عدة أشخاص وليس شخص واحد .
أيضا في الإنجيل نجد أن كلمة (رب) لا تعني (الله) ولكن المقصود بها هي روح الخير العالمية( ١٨ ) ، ولهذا المسيحيون يعتقدون أن الناس بشكل عام هم أبناء الرب والمقصود هنا هو روح آدم رب العائلة البشرية . فقط في الإسلام وكونه آخر ديانة سماوية فمفهوم (الله) فيها يقصد به هو ذلك الإله الذي خلق آدم .ولهذا تذكر الآية القرآنية {.... وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ ۚ انتَهُوا خَيْرًا لَّكُمْ ۚ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَٰهٌ وَاحِدٌ ۖ....(١٧١)النساء} . فالقرآن الكريم هنا يضيف معلومة جديدة توضح الفرق بين مفهوم (الله) ومفهوم (روح الخير العالمية) والتي لم تكن مذكورة بشكل واضح في الديانات التي سبقت الإسلام . فحتى نصل إلى إدراك الحقيقة الكاملة لما يجري حولنا وجب وجود هذه الديانات العالمية ، لتتعاون مع بعضها البعض في توضيح مفهوم (الله) ومفهوم روح الخير العالمية (الرب) والتي رمزها ( ١٨ ) ، فللأسف حتى المسلمين في معتقداتهم يظنون أن روح الخيرالعالمية هي نفسها ( الله ) ، ولهذا نجدهم في اجتهاداتهم يبحثون فيما إذا كان الله له عين أو يد ، وهل يمكن رؤيته في الجنة أم لا ... إلخ من هذه المواضيع ، فنجد هناك عدة آراء تتعارض مع بعضها البعض في هذا الموضوع والسبب هو الخلط بين مفهوم ( الله ) ومفهوم روح الخير العالمية ( ١٨ ) .
الهندوسية تُركز في نصوصها الدينية على توضيح مفهوم روح الخير العالمية (الرب) وهي في الهندوسية تمثل (الرب براهما) فبرهما في الحقيقة هو رمز روح آدم ( ١٨ ) قبل إنقسامها إلى آدم ( ١ ) وحواء ( ٨ ) ، فهي تمثل ذلك الكمبيوتر الإلهي الذي وضع الله فيه شيفرة خلق كل شيء داخل هذا الكون والذي يُمثل مكان طرد الإنسان بعد خروجه من الجنة . فكلمة (براهما) أصلها من أسم (إبراهيم) عليه الصلاة والسلام والذي يمثل رمز آدم ، فاسم (إبراهيم) يعني أبو الشعوب أو أبو البشرية ، فالرب (براهما) لا يُمثل النبي إبراهيم شخصيا ولكن يُمثل تلك الروح التي نفخها الله في آدم والتي رمزها (١٨ ) . الرب براهما في الهندوسية يسكن في كل جزء من العالم الواقعي في كل أنحاء الكون ، وهو رمز لذلك الرب الذي ظهر على إبراهيم عليه السلام . فرغم أنه واحد ( ١٨ ) ولكن يتألف من ثلاثة أشخاص وهم : ١- براهما أي الخالق ورمزه الخط الأول في اليمين (\ ) ، ٢- الرب فينشو أي الحافظ ورمزه الخط في الوسط ( /) ، ٣- الرب شيفا أي المهلك ورمزه الخط في اليسار ( | ). حيث الخطوط الثلاثة معا يشكلون الرمز ( ١٨ ) . هؤلاء الأرباب الثلاثة أيضا يمثلون رمز النور (الضوء الأبيض) ، والذي يتألف من ثلاثة ألوان رئيسية ، فبراهما يمثل اللون الأزرق ، وفيشنو يمثل اللون الأخضر ، وشيفا يمثل اللون الأحمر . وهم أيضا يمثلون الأنواع الرئيسية في الكائنات الحية : براهما يمثل الكائنات الجوية (التي تستطيع الطيران) ، فيشنو يمثل الكائنات الحية على اليابسة (زواحف وثديات) ، وشيفا يمثل الكائنات المائية ( التي تعيش في البحار والأنهار) . حيث كل نوع من هذه الأنواع الرئيسية الثلاثة يعطينا معلومة عن طبيعة تلك الصفات التي يتكون منها الرب براهما في أشكاله الثلاثة (براهما ، فيشنو ، شيفا). فمن هذه الصفات سيتم خلق الإنسان على سطح الأرض . ولهذا حملت سفينة نوح نوع (زوجين) من كل الحيوانات ، كل صفة يحملها كل نوع من هذه الكائنات الحية هي في الحقيقة رمز من رموز صفات تكوين روح الخير العالمية، وهذه الرموز تُقسم إلى ثلاثة مجموعات والتي بدورها تمثل أبناء نوح الثلاثة الذين كانوا في السفينة :
١- سام ويمثل الصورة الاولى للرب براهما ، أي برهما الخالق (اللون الأزرق)
٢- يافث ويمثل الصورة الثانية وهي الرب فيشنو الحافظ (اللون الأخضر ).
٣- حام ويمثل الصورة الثالثة وهي الرب شيفا المهلك (اللون الأحمر ) .
هذه المجموعات الثلاث تتحد مع بعضها رمزيا لتكون صورة لروح واحدة وهي (نوح) والتي تُمثل الرب براهما .ولهذا يقال أن في الهندوسية يوجد أكثر من / ٣٣٠ / إله ، المصطلح (إله) هنا غير الصحيح ، ولكن المقصود به رمز مقدس ، حيث كل رمز مقدس من ال( ٣٣٠ ) مليون ، يحمل صفة من تلك الصفات المتعددة التي يحملها الرب براهما الذي يوجد داخل الكون والذي يمثل شيفرة الكمبيوتر الإلهي والذي عليه سيتم خلق كل شيء في داخل الكون ، فالهندوس لا يعبدون هذه الرموز ولكن يقدسونها كونها تُعتبر صلة وصل بينهم وبين روح الخير العالمية ( ١٨ ) ، أي أنها الصفات الروحية التي يجب على الإنسان إكتسابها ليصل تكوينه الإنساني إلى الكمال لكي يستطيع العودة إلى الجنة . فظهور مئات الملايين من الأنواع المختلفة من الكائنات الحية لم يحصل بالصدفة ولكن حسب مخطط إلهي يساعدنا في فهم حقيقة التكوين الروحي والمادي للإنسان كما خلقه الله في الجنة ، فجميع أنواع الكائنات الحية تحمل رموز هذه الأجزاء التي يتألف منها هذا التكوين كما تذكر الآية القرآنية {... وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ ۖ إِنَّ هَٰذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ (٢٧)النمل} ، الحكمة الإلهية أختارت (مَنْطِقَ الطَّيْرِ) كصفة أساسية في تكوين الإنسان ، لأن صفة الطيران رمزيا لها معنى العودة إلى الجنة. أما عن سبب وجود تلك الأنواع التي تُعتبر كائنات حية نجسة في الديانات العالمية فسنشرحه بعد قليل .
الديانة الهندوسية بشكلها الحقيقي ، ليست ديانة ساذجة متخلفة كما يظن الكثير ، فهي تحوي في داخلها فلسفة عميقة تساعدنا في تفسير النصوص الدينية في الكتب المقدسة السماوية ، فالعالم الفيزيائى المشهور، فرنر هايزنبرج فى كتابه «الفيزياء والفلسفة» يذكر بأن الديانة الهندوسية يمكن لها المساعدة في فهم الفيزياء المعاصرة بشكل أوضح . والحقيقة أن الديانة الهندوسية تساعدنا أيضا في فهم عملية تطور الحياة . القرآن الكريم هو أيضا يذكر هذه المعلومات لتُوضح الأمور بشكل أفضل ولكن يذكرها بشكل رموز ، وحتى يفهم العلماء المسلمين هذه الرموز يجب أن ينظروا إلى نصوص الديانة الهندوسية والديانات السماوية نظرة أخرى بعيدة عن أسلوب التحقير والتعصب الديني ، فهذه الديانات لم تنقرض وحافظ عليها الله عز وجل كونها تحوي في رموزها بعض من الذكر الذي أنزله على أنبيائه ورسله {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (١٣) الحجرات} .
ذكرنا قبل قليل بأن الديانات السماوية تستخدم الرؤية الروحية في عرض الأمور والأحداث ، ولهذا فهي تعتمد عقيدة يوم الحساب كنظرة روحية فيُكافئ المؤمن بدخوله الجنة والكافر بدخوله جهنم ، حيث تُظهر هذا الأمر وكأن المؤمن يولد ويعيش ويموت ويُبعث لمرة واحدة فقط ، وهذا صحيح كونها تنظر إلى ما يحصل مع الروح وليس الجسد فالجسد يموت ولكن الروح لا تموت . أما الهندوسية فهي تستخدم الرؤية المادية ولهذا ترى الجسد أيضا ، لهذا فهي تؤمن بعقيدة التقمص أو التناسخ ، أي أن الإنسان يولد ويموت ويُبعث لمرات عديدة حيث في كل مرة يولد فيها من جديد يحاول تطوير تكوينه الروحي عن طريق تنقية نفسه من بعض الصفات النجسة لتحل محلها صفات أخرى حسنة جديدة وهكذا حتى يصل إلى الصفاء الكامل حيث عندها يتحد مع روح الخير العالمية ويدخل إلى جنة الخلد. ولهذا يوجد في العقيدة الهندوسية مبدأ هام وهو عقيدة (الكارما) والتي تعني أن كل ما يفعله الإنسان في حياته التي يمر بها سيُحاسب عليه سواء في حياته التي يعيشها أو في الحياة الجديدة التي سيعيشها بعد وفاته في كل مرة سيولد فيها .
موضوع التقمص كتبنا عنه سلسلة من المقالات ، وقد ذكرنا أدلة علمية ودينية من القرآن والكتب المقدسة الأخرى تؤكد صحة هذه العقيدة ، ولا نستطيع إعادة ذكرها هنا مرة أخرى . ولكن سنعرض هنا مثال بسيط يؤكد صحة عقيدة التقمص وبنفس الوقت يساعدنا في فهم حقيقة تطور الحياة :
إذا تمعنا في قصة موسى عليه الصلاة والسلام مع فرعون ، سنجد أن حياة موسى كانت تحت رعاية إلهية منذ ولادته وحتى وفاته {وَأَوۡحَيۡنَآ إِلَىٰٓ أُمِّ مُوسَىٰٓ أَنۡ أَرۡضِعِيهِۖ فَإِذَا خِفۡتِ عَلَيۡهِ فَأَلۡقِيهِ فِي ٱلۡيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحۡزَنِيٓۖ إِنَّا رَآدُّوهُ إِلَيۡكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ ٱلۡمُرۡسَلِينَ (٧)القصص} ، بينما كان العكس بالنسبة لفرعون ، فهو كان تحت رعاية شيطانية منذ ولادته وحتى وفاته . والسؤال هنا أين العدالة الإلهية في هذه القصة ، فموسى عليه السلام ولد ليكون رسول الله ، أي أنه منذ ولادته كان مكتوبا عليه أن يدخل الجنة بعد وفاته ، بينما فرعون فمنذ ولادته كان مكتوبا عليه أن يدخل جهنم. فأين العدالة المطلقة التي يتصف بها الله عز وجل حين جعل الظروف المحيطة متناقضة تماما بين تلك التي عاشها موسى وتلك التي عاشها فرعون. ما ذنب فرعون في أن يدخل جهنم طالما أن الظروف من حوله منذ ولادته كانت تدفعه إلى معصية الله ؟
علماء الدين الإسلامي يحاولون تبرير مثل هذه المسائل ، بأن الفوارق بين شخص وشخص آخر في الصفات الجسدية والظروف البيئية التي يولد فيها الإنسان هي نوع من الإختبار الإلهي ، وأنه على الإنسان تقبل المشيئة الإلهية فأجر المؤمن الذي يولد فقيرا -مثلا- عند الله سيكون أعلى من أجر ذلك المؤمن الذي يولد في عائلة غنية كونه سيعاني اكثر منه ، وكذلك ربما الغني -حسب رأيهم - ستجذبه الحياة الدنيوية أكثر من الفقير وقد تكون ثروته بمثابة نقمة عليه وليس نعمة . مثل هذا التبرير في سبب وجود حظوظ مختلفة بين مولود ومولود هو في الحقيقة تبرير سطحي جدا ، فالإنسان هو في الأصل كائن روحي ، والأمور المادية عادة لا تؤثر كثيرا على نمو التكوين الروحي ، ولهذا نجد عادة أن نسبة الذين يتمسكون بالفرائض الدينية عند الفقراء أكثر من الأغنياء . فالموضوع هنا لا علاقة له بالظروف المادية ، ولكن له علاقة بالبيئة الروحية ، فالطفل الذي سينشئ في بيئة ملحدة (مثل فرعون) سيكون احتمال أن يموت وهو ملحد ، أكثر بكثير من أولئك الأطفال الذين يولدون في بيئة مؤمنة بالله تعالى . لأن الظروف الفكرية والروحية في المجتمع الملحد ستجعله يُصاب بعمى البصيرة في مرحلة مبكرة جدا من حياته ، وعقله الباطني سيجعله من الصعب عليه أن يرى الأمور على حقيقتها الروحية ليستطيع الشعور بوجود الله ، تماما مثلما حصل مع فرعون . فأين هي العدالة الإلهية في حق ذلك الطفل الذي ولد في بيئة روحية فاسدة جعلته أعمى البصيرة من السنوات الأولى من حياته ؟ في مثل هذه الحالة فإن عقيدة التقمص هي فقط التي تُجيبنا على هذا السؤال وتثبت وجود عدالة إلهية مطلقة ، فالله عز وجل اختار موسى عليه السلام ليكون رسوله لأن موسى في حيواته السابقة كان يسير على الصراط المستقيم الذي فرضه الله على البشرية لهذا كان ملائما تماما لهذا الدور الذي قام به . أما فرعون فكان في حيواته السابقة على نقيض تام من سلوك موسى ، فكان يبحث فقط عن تحقيق رغبات نفسه الدنيئة، لهذا كان فرعون يُمثل النموذج الأمثل لأعمى البصيرة والذي مهما رأى من علامات إلهية فلن تشعر روحه بعظمتها . ولهذا وضعه الله في المكان المناسب ليكون بمثابة رمز للإنسان الكافر المتكبر الذي يستحق أن يذهب إلى جهنم .
فعقيدة ( الكارما ) الموجودة بشكل روحي في الديانات السماوية وبشكلها المادي في الهندوسية هي قانون تعتمد عليه عملية تطور الحياة ، فعندما نسأل لماذا خلق الله الخنزير طالما أنه حيوان نجس ، الجواب هو أن الله لم يخلق الخنزير كخنزير ، ولكن الله خلق نوع من الحيوانات يحمل صفة حسنة ، ولكن بسبب وجود شوائب من روح السوء العالمية هذه الشوائب هي التي جعلت حيوان من هذا النوع أن يسير سلوكه في طريق مختلف عن الطريق الذي حددته روح الخير العالمية، فتحولت سلالة هذا الحيوان مع مرور الزمن إلى سلالة خنازير ، مثله مثل فرعون ولكن الفرق بينهما أن الخنزير حيوان كائن مسير وبلا إرادة ، أما فرعون فهو كائن بشري مخير وليس ميسر كونه يملك عقل إنساني . فرعون في أول حياة ولد فيها كان مثل باقي البشر والظروف من حوله كانت مماثلة تماما لجميع أفراد الجنس البشري ، ولكنه هو من اختار أن يخرج عن الصراط المستقيم ليتبع شهوات نفسه الدنيئة ، وفي الحياة الثانية التي عاشها بدلا من أن يصحح خطأه أصر مرة أخرى على فعلته فعاش بنفس السلوك ، وفي المرة الثالثة أيضا حصل نفس الشيء ، وهكذا حتى وصل إلى مرحلة لا يستحق أن يتابع تطوره الروحي كون تكوينه الروحي قد أصبح أقرب إلى تكوين أبناء الشيطان وليس أبناء بني آدم ، لهذا ولد في بيئة فرعونية فاسقة ليكون رمزا لنهاية كل كافر متكبر .
هنا يجب شرح معلومة هامة وهي أنه صحيح أن روح السوء العالمية قامت بتشويه تكوين الخنزير ، ولكن ومع ذلك فهذا التشويه لم يحصل بشكل عشوائي ، ولكن ضمن قانون إلهي ، الله عز وجل وضع في الخنزير علامات روحية تساعدنا في فهم معنى تلك الصفات التي تأتي من الروح الخبيثة ، فالقانون الإلهي يقول أن جميع الثديات التي نظامها الغذائي من النوع آكلة كل شيء (نباتي وحيواني) تستطيع أن تنتصب على أطرافها الخلفية ، ونجد أن الخنزير يشذ عن هذا القانون رغم أنه آكل كل شيء . هذا القانون وهذا الشذوذ ليس صدفة ولكن له معنى روحي يساعد الإنسان في فهم التكوين الروحي للإنسان ، فنظام التغذية عند الحيوانات هنا هو في الحقيقة رمز لنظام التغذية الروحية عند الإنسان ، فالنمو الروحي عند الإنسان يحصل عن طريق الإدراك ( البصيرة ) ، والإدراك ينقسم إلى نوعين : إدراك روحي وإدراك مادي ، حيث الإدراك الروحي لوحده غير كافي للوصول إلى الكمال ، و رمزه الثديات العاشبة ولهذا فهي لا تستطيع الإنتصاب على أطرافها الخلفية (كالحصان والغزال وغيرها) ، وكذلك الإدراك المادي لوحده أيضا غير كافي ، ورمزه الثديات اللاحمة ولهذا هي أيضا لا تستطيع الإنتصاب على أطرافها الخلفية (كالقطة والكلب وغيرها ) ، فقط مع اتحاد النوعين من الإدراك نحصل على الإدراك الشامل وهو الذي عن طريقه يتم تطوير التكوين الروحي للإنسانية ، ورمزه الثديات آكلة كل شيء (كالقردة ودببة وغيرها) التي تستطيع الإنتصاب على أطرافها الخلفية والسير لمسافات قصيرة. الخنزير هو رمز للنجاسة لأنه يشذ عن القانون الإلهي . لهذا جعله الله أحد رموز التي تعبر عن الإنسان الأعمى البصيرة فرغم أن الله عز وجل خلق الإنسان بنوعين من الإدراك ولكن الأعمى البصيرة وضع هدف حياته البحث عن تحقيق رغبات نفسه الدنيئة فقط . ولهذا يذكر الحديث الشريف أن أحد أعمال المسيح عليه السلام التي سيقوم بها عند ظهوره في آخر الزمان هو قتل الخنزير ، والمقصود هنا ليس قتل حيوان الخنزير نفسه ، فهناك ملايين الخنازير الأليفة والبرية ، ولكن يقصد أنه سيقتل صفة الخنزير في التكوين الروحي للإنسانية . وللأسف نجد اليوم أن صفة الخنزير كصفة روحية توجد في المنهج العلمي الحديث الذي يتم به كتابة جميع كتب المدارس والجامعات بلا إستثناء ، ولهذا تعاني الإنسانية اليوم من إنحطاط روحي .
هناك عدالة إلهية مطلقة ، الله عز وجل هو (الرحمن الرحيم) والقانون الذي وضعه في شيفرة الكومبيوتر الإلهي في تطور الحياة أنه عندما ولدت الإنسانية لأول مرة كانت جميع صفات الإنسان الجسدية وكذلك جميع الظروف الروحية متشابهة تماما عند جميع البشر ، أما لماذا اليوم هذه الصفات وهذه الظروف تختلف من مولود إلى آخر ، سواء كانت ظروف روحية (بيئة صالحة ، بيئة فاسدة ) أو مادية (جميل ، قبيح - غني ، فقير - ذكي ، غبي ... وغيرها من الصفات) فكل إنسان يولد اليوم يعطيه الله ما يستحقه جزاء على أعماله في حيواته الماضية ، وكل صفة يحملها أي مولود تُعبر عن تكوينه الذي صنعه هو بنفسه وليس الله عز وجُل { ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّه لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (٥١)الأنفال} فهذه الآية لا تقصد فقط ما سيحدث للإنسان في يوم القيامة ، ولكن تقصد أيضا صفات الإنسان ونوعية البيئة المحيطة به في كل مرة يولد فيها من جديد . فتطور الحياة بدأ منذ أكثر من /٣،٥/ مليار عام لتستطيع تكوين الصفات الحسنة الروحية والجسدية لتنتقل جميعها في الأخير إلى تكوين الإنسان ، والحياة لمرة واحدة والتي مدتها عند الإنسان من سنوات قليلة إلى مئة عام أو أكثر بقليل ، هي مدة زمنية قصيرة جدا لا تكفي لتطهير التكوين الإنساني من الخطيئة التي حصلت في الجنة ، فهناك مئات الملايين من الصفات الحسنة الروحية والجسدية التي يجب على الإنسان أن يكتسبها ليصل إلى الكمال الروحي والجسدي كي يستطيع العودة إلى الجنة .
الرواية الدينية لتطور الكون والحياة هي رواية طويلة جداً وأحداثها العديدة جداً مترابطة مع بعضها البعض بإحكام شديد وتحتاج إلى تعاون جميع الديانات العالمية وجميع العلوم والفنون لفهم حقيقة أحداث هذه الرواية. لهذا لا نستطيع ذكر ملخص لهذه الرواية قبل عرض جميع زوايا رؤية هذه الرواية . وإن شاء الله سنعرض بقية هذه الزوايا في المقالات القادمة . والله تعالى الأعلم .
وسوم: العدد 955