الخاطرة ٣٠٦ : فلسفة تطور الحياة (الروحي والمادي) الجزء ١٤
خواطر من الكون المجاور
المنطق يقول أنه مع تقدم العلوم تقل الإختلافات في الآراء .ولكن للأسف فرغم أننا نعيش اليوم في عصر حصلت خلاله قفزات واسعة في جميع العلوم أدت إلى تقدم تكنولوجي في البحث العلمي ، ولكن وبسبب نمو ظاهرة التعصب بشتى أنواعه ، نجد أن التعصب قد وصل إلى مرحلة أصبح يسيطر حتى على تفسير نتائج الأبحاث العلمية . فنجد كل عالم يُفسر نتائجها بطريقة مختلفة بحيث توافق رأي النظرية التي ينتمي إليها .. فنجد مثلا أن العلماء المعارضين لنظرية التطور الداروينية يتهمون مؤيديها بأن آرائهم أتت من نسج الخيال وليس من حقائق علمية ، فنجدهم يزعمون مثلا أن عدد الإحفوريات التي وجدت عن الأنواع الإنسانية القديمة لا تتجاوز جميعها حجم صندوق صغير يعادل حجم المستودع الموجود في خلف السيارة . بينما علماء نظرية التطور الداروينية يزعمون أن عدد هذه الإحفوريات كبير جدا يكفي لإثبات أن فكرة تطور الإنسان من القردة قد أصبحت حقيقة علمية . عدا عن ذلك أيضا فهناك إتهامات بعمليات تزوير في الكثير من الإحفوريات والأدلة التي يستند عليها بعض العلماء للتاكيد على صحة النظرية التي يؤمنون بها . وربما أفضل مثال على التزوير هو رسومات مقارنة الأجنة لأرنست هيغل (عالم حيوان وطبيب) حيث قام في عام ١٨٧٤ بتزوير رسومات بعض الأجنة لتبدو متشابهة كثيرا في مراحل نموها ، فأصبحت هذه الرسومات من أهم الأدلة العلمية على صحة نظرية داروين ، حيث انتشرت هذه الرسومات في جميع بلدان العالم ، ولم يتم كشف هذا التزوير إلا بعد سنوات عديدة . ولا يزال حتى اليوم بعض مؤيدي نظرية التطور الداروينية يستخدمونها كدليل قوي يثبت صحة النظرية . والمشكلة أن التزوير والغش لا يحدث فقط عند الداروينيين ولكن يحدث أيضا عند جميع علماء نظريات التطور الأخرى . فمحاولة البحث عن الحقيقة بالنسبة للناس العامة في موضوع نشوء الحياة وظهور الأنواع أصبح من الأمور المستحيلة كون كل عالم متخصص يفسر الأمور على مزاجه .
هناك مثل يقول أن الدخول في التفاصيل الدقيقة يفتح عمل الشيطان ، والمقصود به هو أن الرؤية المادية للأمور يجعل موضوع البحث يخسر مضمونه ، فتسليط الضوء مثلا فقط على شجرة واحدة سيجعل الغابة تخسر مفهومها . وهذا تماما ما يحصل اليوم في موضوع الحياة ولهذا سنحاول هنا أن نبتعد قليلا عن مادية الأمور لنتكلم عن المضمون العام لنشوء الحياة وظهور الأنواع المختلفة من الكائنات الحية، وظهور الإنسان .
كما ذكرنا في مقالات ماضية بأن موضوع نشوء وتطور الحياة هو موضوع فلسفي (روحي ومادي) وأن الأبحاث المادية وأدلتها المادية التي يعتمد عليها علماء نظرية التطور الداروينية الحديثة صحيح أنها مساعدة في فهم حقيقة ما يحصل ولكنها تبقى فقيرة عاجزة في تحويلها من نظرية إلى حقيقة علمية تستطيع تفسير ألغاز الحياة وبشكل يُقنع الجميع . وبما أن موضوع الحياة فيه شق أساسي وهو الشق الروحي (ميتافيزيقي) لهذا يجب إستخدام زاوية رؤية النصوص الدينية وأيضا زاوية رؤية الحس الفني إلى بقية زوايا الرؤية العلمية المادية بهدف الحصول على رؤية شاملة يعطيها نوع من التجانس بين الشكل والمضمون بحيث يتحول البحث من مبدأ العلم للعلم إلى مبدأ العلم من أجل خدمة الإنسان . فاستخدام زاوية الرؤية الدينية هي ضرورة حتمية كون موضوع الحياة معقد جدا فيه شق ميتافيزيقي لا يمكن إهماله ويحتاج إلى مقدرات أرقى بكثير من مقدرات العقل البشري . فهناك الكثير من علماء الكيمياء الحيوية يؤكدون بأن الخلايا في جسم الإنسان تعمل كمصنع متكامل ومعقد جدا ، ولا يمكن للعمليات العشوائية وغير الموجّهة التي يؤمن بها مؤيدي نظرية التطور الداروينية أن تنتج هذا النظام المعقّد من التنظيم الخلوي ، فلا بد من وجود مصمم (إله خالق) قد أشرف على صناعتها . فالكائنات الحية حتى تمارس حياتها اليومية يجب أن تعمل أجسامها بشكل نظامي ودقيق جدا .
حتى نفهم بشكل أوضح حقيقة موضوع الحياة وتطورها سنتكلم عن أرقى كائن حي أنتجته الحياة وهو الإنسان . لو تمعنا في نظام عمل جسم الإنسان سنجد أن رغم أنه في غاية التعقيد ولكنه يعمل كوحدة متكاملة . جسم الإنسان يتألف من عدة أجهزة (الجهاز الهضمي ، الجهاز التنفسي ، العصبي ، العضلي .. إلخ ) وجميع هذه الأجهزة تتعاون مع بعضها البعض بشكل دقيق ومنتظم لتقوم بأداء ما يحتاجه الجسم ليمارس الإنسان حياته اليومية . ورغم أن كل جهاز يتألف من عدة أعضاء مختلفة ولكنه يبدو تماما وكأنه كائن حي قائم بذاته يقوم بوظيفة محددة ومن تلقاء نفسه بشكل لا إرادي بحيث لا يحتاج أن يتحكم الإنسان في تفاصيل عمل هذا الجهاز . الجهاز الهضمي مثلا يتألف من الفم ، البلعوم ، المريء ، المعدة ، الأمعاء الدقيقة ، الأمعاء الغليظة ، المستقيم ، فتحة الشرج . حيث نجد أن كل عضو من أعضاء هذا الجهاز هو أيضا يبدو وكأنه كائن حي قائم بذاته حيث يقوم بوظيفته من تلقاء نفسه .
كل عضو هو أيضا يتألف من عدة مكونات مختلفة وهي الأنسجة ، حيث نجد أن كل نسيج يبدو وكأنه هو أيضا كائن قائم بذاته له وظيفة خاصة به يقوم بها . أيضا كل نسيج هو أيضا يتألف من عدة مكونات مختلفة وهي الخلايا . حيث كل خلية هي أيضا تبدو وكأنها كائن حي قائم بذاته له وظيفة خاصة به ، فالخلية تقوم أيضا بعملية الهضم والتنفس والإطراح والتكاثر . الخلية هي أيضا تتألف من عدة مكونات مختلفة وهي العضيات (الغشاء البلازمي ، جهاز كولجي ، ميتوكوندريا .... إلخ) ، ورغم أن العضيات تبدو وكأنها كتلة من المواد العضوية ولكنها تقوم بعدة وظائف وكأنها هي أيضا كائن حي قائم بذاته له وظيفة خاصة به ، حتى أن الميتوكوندريا - مثلا - لها DNA خاص بها، أي وكأنها خلية بدائية داخل خلية حقيقية . فالعضيات بشكل عام هي أدنى أشكال الحياة في جسم الإنسان .
رغم أن حركة وسلوك الإنسان يقع تحت سيطرة الدماغ ولكن معظم أجهزة جسمه تعمل من تلقاء نفسها بشكل لا إرادي بحيث تتعاون مع بعضها البعض لتقوم بجميع الوظائف اللازمة لإستمرار بقاء الإنسان على قيد الحياة . فشدة تعقيد جسم الكائن الحي تتعلق نسبيا بشدة تعقيد حياته وسلوكه وعدد تلك الحاجات التي يتطلبها الكائن الحي .
إذا قارنا بين الإنسان وجميع الكائنات الحية الأخرى من ناحية نوعية الحاجات ، نجد أن حاجات الإنسان تتألف من نوعين : الأولى وهي حاجات روحية (عاطفية ، فكرية) ، والثانية حاجات مادية (غريزية) . أما عند الكائنات الأخرى فنجد أن الحاجات عندها هي مادية فقط .
الحاجات الروحية منها الحاجة للسعي نحو مستقبل أفضل ، الحاجة إلى فهم الإنسان لهويته الإنسانية ولما يجري حوله ، الحاجة إلى تحقيق العدالة ، الحاجة إلى الإنتماء ، الحاجة إلى التمتع بالجمال ، الضمير والشعور بالذنب ، الحب العذري .... إلخ .
أما الحاجات المادية (الغريزية) فهدفها فقط تأمين حاجات الجسم ليستطيع البقاء على قيد الحياة ومنها الطعام والشراب وإشباع الغريزة الجنسية والدفاع عن النفس...إلخ .
فالحاجات الروحية لها هدف تحقيق غاية فكرية روحية ، أما الحاجات المادية (الغريزية) فلها هدف واحد وهو بقاء الجسم على قيد الحياة .
إذا تمعنا جيدا في تطور الحياة من ناحية نوعية الحاجات عند كل كائن حي ، نجد أن الحاجات المادية قد تطورت بشكل تدريجي نحو محاولة القيام بعملها بشكل أفضل . فكلما كان جسم الكائن أكثر تعقيدا كانت أجهزته تعمل بشكل أفضل في التأقلم مع الظروف البيئة المادية المحيطة به. أما بالنسبة للحاجات الروحية فنجدها تظهر فجأة في آخر المرحلة الأخيرة من مراحل التطور وقد ظهرت في كائن حي واحد فقط وهو الإنسان . فحسب الحاجات المادية، نجد أنه لا توجد فروقات كبيرة بين حاجات الإنسان وحاجات الكائنات الحيوانية التي ظهرت في المرحلة الأخيرة ، أما حسب الحاجات الروحية فنجد أنه لا مجال للمقارنة بأي شكل من الأشكال بين الإنسان وأي كائن آخر . وهذا يعني أن ظهور الإنسان لا يعني ظهور نوع جديد من الكائنات الحية كما يتصوره مؤيدي نظرية التطور الداروينية ، ولكن معناه هو دخول الحياة في مرحلة جديدة مختلفة كلياً عن المراحل السابقة ، تماما مثل الإختلاف بين مرحلة ولادة الكون وما قبلها ، أو مثل مرحلة ظهور الحياة وما قبلها . فظهور الإنسان يعني ظهور ميزة جديدة لم تكن موجودة إطلاقا في السابق ألا وهي الوعي بوحدة الوجود والذي من أحد نتائجه كان ظهور الإحساس في الإنسان بوجود إله خالق ينظم كل شيء في هذا الكون . هذا الشعور للأسف تحاول نظرية التطور الداروينية إلغائه تماما من أعماق العقل الباطني للإنسان وذلك عن طريق تسليط الضوء على الفروقات المادية فقط . فالفرق الوحيد بين الإنسان والكائنات الحية الأخرى هو أن الإنسان يمتلك شيئا ما في تكوينه يجعله يشعر بوجود قانون كوني يؤمن إنسجام الأشياء والأحداث مع بعضها البعض ، والذي أشارت إليه النصوص الدينية في الديانات القديمة والديانات السماوية . فالديانات السماوية تذكر أن الإنسان خرج من الجنة دار السلام والخلود إلى عالم تسوده ظروف صعبة فرضت على الإنسان اللجوء إلى العبادة من أجل ضمان الرعاية الإلهية له . أما الديانات القديمة فهي تذكر أن العالم في البداية كانت تحكمه الفوضى ولكن تدخل الآلهة ساعد في تنظيم الأمور لتساعد الإنسان في تطوير نظام إجتماعي يضمن لها حياة أفضل .
أيضا حكماء وفلاسفة العصور الماضية أشاروا إلى قانون الإنسجام الكوني وحاولوا تطوير مفهومه ، فأحد أهم مبادئ تعاليم الحكيم المصري هرمس ثلاثي القوة هو (لكل سبب نتيجة . ولكل نتيجة سبب . الحظ -الصدفة- ليس إلا إسماً يُعطى لقانون نجهله حتى الآن) . وأيضا الفيلسوف اليوناني أفلاطون عبر عنه بشكل آخر (الله يُهندس في خلقه) . وكذلك الأديب الروسي فيودور دوستويفسكي أيضا عبر عنه بشكل مختلف " إن لم يكن الله موجود فإن كل القيم واﻷخلاقيات تسقط عن نفسها ويصبح كل شيء مباح من أصغر الذنوب إلى أبشع الجرائم". بمعنى أنه بدون وجود خالق يتحول كل شيء إلى فوضى ، فالفوضى غير قادرة على خلق أي شيء ، والواقع يؤكد وجود قانون كوني يقوم بتنظيم الأمور ، فطريقة عمل مكونات جسم الإنسان من أعقد الأجهزة إلى أبسط خلية فيه تؤكد أن كل شيء فيه يعمل ضمن نظام محدد ودقيق في جميع تفاصيله ولا مكان للعشوائية والفوضى فيه .
إذا انتقلنا إلى المستوى الأدنى من الوجود وهو القسم اللاحيوي أي القسم المادي في جسم الإنسان ، سنجد أن كل عضية تتألف من مركبات عضوية ومنها البروتينات مثلا . حيث كل بروتين يتألف من أحماض أمينية مختلفة ، وكل حمض أميني هو أيضا يتألف من تركيب كيميائي مختلف ، وكل تركيب كيميائي يتألف من ذرات ، وكل ذرة هي أيضا تتألف من جسيمات أولية مختلفة ، وكل جسيم أولي يتألف -حسب نظرية الأوتار الفائقة - من مجموعة من أوتار . وكما ذكرنا في المقالة الماضية أن الأوتار الفائقة هي على ثلاثة أنواع : إثنان يتحدان في القمة (٨) والثالث منفصل (١) . وجميعها تشكل الرمز (١٨) الموجود في شكل خطوط كف يد اليمنى في الإنسان. والرمز (٨١) الموجود في كف اليد اليسرى ، حيث مجموعهما كشكل رقمي (١٨+٨١) يعادل (٩٩) وهو يمثل عدد الأسماء الحسنى ، الحديث الشريف يذكر (ان لله تسعة وتسعين اسما مئة إلا واحدا من أحصاها دخل الجنة).
فالأصل الحقيقي للإنسان ليس مخلوق شبيه بالقرد ولا الخلية البدائية الاولى ، ولكن الأوتار الفائقة (١٨) والتي تمثل ذلك الجزء من روح الله الذي نفخه في آدم ، والذي بعد طرد الإنسان من الجنة ، وضع الله فيه الشيفرة التي تحتوي على مخطط الخلق من بدايته منذ حدوث الإنفجار العظيم وولادة الكون وحتى الآن .
فمنطق نظرية التطور الداروينية في فهم موضوع الحياة هو منطق مشابه تماما لمنطق الإدراك الحيواني (رؤية مادية بحتة) كونه محصور فقط في الوجود المادي . فالمعدة مثلا موجودة في جسم الإنسان ، ولكن وعي الإنسان لا يتحكم في طريقة عملها كونها أداة تساعده في هضم الطعام الذي هو بحاجة إليه كمصدر للطاقة ، ولهذا المعدة تقوم بوظيفتها من تلقاء نفسها بحسب مكوناتها دون أي تدخل من وعي الإنسان . و الشيء نفسه ينطبق على مستوى الذرات ، فذرة الأوكسجين هي أيضا تعمل من تلقاء نفسها بحسب طبيعة مكوناتها لتتحد مع الذرات الأخرى لتشكيل الأحماض الأمينية لتكوين البروتينات اللازمة في تكوين أنسجة المعدة . ونفس الشيء ينطبق كذلك على الجسيمات الأولية ، فالكوارك الأعلى أو الالكترون يقوم بعمله من تلقاء نفسه في تكوين ذرة الأوكسجين . فالكوارك الأعلى وذرة الأوكسجين والأحماض الأمينية والمعدة وجهاز الهضم هي في الحقيقة مجرد أدوات مُسيرة لا مُخيرة في جسم الإنسان ، كل منها له دور معين بحيث تكون نتيجته النهائية أن يستطيع الإنسان القيام بجميع أعماله اليومية والتي لها غاية محددة وهي معرفة هويته وسبب وجوده لبناء مستقبل أفضل لنفسه وللأجيال القادمة . ولهذا لا يمكن الفصل بين تطور الجسيمات الأولية عن تطور الذرات وعن تطور المركبات الكيميائية وعن تطور أنواع الكائنات الحية بمختلف أنواعها ، فجميعها هي عبارة عن أدوات فقط . ولهذا كان الإنسان هو الكائن الوحيد المُخير من جميع الكائنات الجامدة والحية أيضا .
حتى يتم توضيح هذه الفكرة بشكل أفضل سنعرض هذا المثل البسيط : الطائرة هي أداة نقل تنقل الإنسان من مكان إلى آخر وهي تتألف من عدة أقسام : المحرك وعجلة القيادة والأجنحة والذيل والدواليب والمراوح وأنظمة الهيدروليك وأنظمة الإتصالات ...إلخ . فلا نستطيع هنا أن نقول بأن الدواليب أو عجلة القيادة هي طائرة أو أداة نقل ، فالطائرة حتى تقوم بعملها والذي نوع عملها هو من يحدد هويتها ، تحتاج إلى جميع هذه الأدوات . نفس الفرق هو تماما بين الإنسان والكائنات الأخرى ، فجميع الكائنات الحية هي ليست إلا عبارة عن أجهزة تم تطويرها مع مرور الزمن لتستخدم في صنع جسم الإنسان { ....... وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَيْءٍ ۖ إِنَّ هَٰذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ (١٦) النمل}. فموضوع الحياة (نشوء وظهور الانواع ) هو في الحقيقة موضوع وهمي ومفهومه مختلف تماما عن تصورات علماء التطور . ومثلما يتم دراسة تصميم أجهزة الطائرة وتطورها ، هكذا تماما يجب دراسة نشوء الحياة وتطور الأنواع. فمصطلح كائن حي بكل ما من معنى لهذه الكلمة (فلسفيا) لا ينطبق سوى على الإنسان .الفيلسوف ديكارت صدق عندما قال ( الإنسان فقط هو من يملك الروح) ، لأن جميع الكائنات الحية التي يقصدها علماء الأحياء هي في الحقيقة مجرد أجهزة ستتطور وتتحد مع بعضها البعض لتشكل في النهاية جسم الإنسان والبيئة المحيطة به التي ستمده بالطاقة المادية والروحية ليستطيع في النهاية تصحيح شوائب الخطيئة التي حصلت في الجنة والتي شوهت تكوينه ليستطيع في النهاية الوصول إلى الكمال وبالتالي العودة إلى الجنة ثانية . الإنسان هو مركز الكون ، هكذا كان مفهوم الإنسان قبل ظهور نظرية داروين.
فموضوع تطور الحياة يجب أن ننظر إليه بمفهوم آخر مختلف عما يقصده علماء نظرية التطور الداروينية المادية. فالموضوع لا يخص تطور الكائن الحي من نوع إلى آخر ولكن يخص نواحي عديدة جدا ، فكل جهاز حتى يتطور ويصل إلى أفضل أشكاله ليقوم بعمله على أحسن ما يرام يجب أن ينتقل من كائن إلى آخر أكثر تعقيدا . فكل نوع من الكائنات الحية يمثل رمز لأحد هذه الأجهزة الموجودة في جسم الإنسان .
حتى يتم توضيح موضوع التطور بشكل أبسط لنتمعن جيدا في طبيعة تخليق المادة (الذرات) . فحسب علماء الفيزياء فإن جميع ذرات العناصر الكيميائية في الكون أصلها من ذرة الهيدروجين . ولكن هذا المفهوم يختلف نهائيا عن الإعتقاد السائد في تطور الحياة في النظرية الداروينية والذي يقول بأن أصل جميع الكائنات الحية هي الخلية البدائية الأولى . فحسب هذه النظرية أن الخلية الأولى إنقسمت مع مرور الزمن إلى عدد كبير من الخلايا حيث كل خلية بدورها هي الأخرى إنقسمت إلى عدة خلايا .... وهكذا . وأنه بسبب إختلاف الظروف البيئية المحيطة لكل خلية بدأت تظهر إختلافات بين هذه الخلايا ومع مرور الزمن ظهرت خلايا بنوع جديد مختلفة في تكوينها عن الخلية الأولى ، ثم تطورت إلى كائنات عديدات الخلية ... وهكذا . بينما الوضع مختلف تماما في موضوع الذرات .
ذرة الهيدروجين التي هي أول ذرة ظهرت في الكون تتألف من بروتون واحد يدور حوله ألكترون واحد . أما بقية ذرات العناصر الكيميائية فهي تتألف من نواة تحوي على بروتونات ونيترونات يدور حولها عدد من الإلكترونات يساوي عدد البروتونات في النواة . فعنصر الهيدروجين فيزيائيا يمكن إعتباره ذرة حقيقية ، ولكن فلسفيا فهو شبه ذرة أو ذرة بدائية وليس ذرة حقيقية ، والفرق بينهما مثل الفرق بين الخلية الحقيقية (حقيقيات النوى) التي تمتلك نواة ومعظم العضيات في داخلها ، والخلية البدائية التي لا تمتلك نواة (بدائيات النوى) . فوحيدات الخلية بدائيات النوى هي في الحقيقة بمثابة عضيات مختلفة ستجتمع لتقوم بتشكيل خلية حقيقة . وهكذا تماما هي ذرة الهيدروجين التي تمثل عضية في الذرات الأخرى .
ذرة الهيدروجين لها نظائر جميعها لها ألكترون واحد ، وهناك نظير له يدعى الديوتيريوم ويحوي على نواة تتألف من بروتون واحد ونيوترون واحد ، وهناك نظير آخر وهو التريتيوم وتتألف نواته من بروتون واحد ونيوترونان اثنان . الفرق بين الهيدروجين ونظائره مثل الفرق بين السمين والنحيف ، فالإختلاف بينهما أن الأول نحيف والآخر سمين رغم أنهما نفس الشخص . فبسبب إختلاف الظروف الخارجية من حرارة وضغط يتحول الهيدروجين إلى الديتريوم أو إلى التريتيوم أي يتحول من نحيف إلى سمين إلى أسمن . فعملية التحول تحدث بزيادة عدد النيترونات ، وهذا التحول لا يؤثر على الهوية الحقيقية للهيدروجين . ولكن عندما تكون الظروف مبالغ بها عندها يحصل تحويل الهوية إلى هوية أخرى أي يظهر نوع جديد . وذلك عن طريق الإندماج النووي في البروتونات . وخطوات هذا الإندماج يمكن شرحها بشكل مبسط كما يلي :
١- الخطوة الأولى يندمج بروتونان فيكونا هيدروجين الديوتيريوم .
٢- الخطوة الثانية : يندمج بروتون ونواة الديوتيريوم فيتكون نظير الهيليوم (الهيليوم-٣) .
٣- الخطوة الثالثة : يندمج اثنان من أنوية (الهيليوم-٣) فتتكون ذرة الهيليوم الطبيعي . أي بمعنى آخر من إندماج ذرتين من الهيدروجين حصلنا على ذرة هيليوم واحدة . حيث ذرة الهيليوم لها هوية مختلفة عن هوية الهيدروجين أي وكأننا حصلنا على خلية حقيقية من إندماج خليتين من بدائيات النوى . عملية التحول الذري يستمر ، فمن إندماج ذرتين من الهيليوم ينتج ذرة لها هوية جديدة وهي البيريليوم . ثم من إندماج البيريليوم مع الهيليوم ينتج ذرة الكربون. من إندماج الكربون مع الهيليوم ينتج الأكسجين ، ومن الأكسجين مع الهيليوم أيضا ينتج النيون ، والنيون مع الهيليوم ينتج المغنيسيوم ، المغنيسيوم مع الهيليوم ينتج السيليكون ، السيليكون مع الهيليوم ينتج الكبريت ، .....، وهكذا ، فمع إندماج أنوية الذرات نحصل على عناصر جديدة لها هوية مختلفة عن غيرها . فالهيليوم هو بمثابة خلية حقيقية أما بقية الذرات فهي بمثابة عديدات الخلايا البسيطة . أما المركبات الكيميائية الناتجة عن إتحاد عدد من الذرات المختلفة فهي بمثابة الكائنات المعقدة (الرخويات ، الحشرات ... إلخ) .
فإذا اعتبرنا أن هذا التحول هو نوع من أنواع التطور فالتطور هنا لا يحدث بشكل عشوائي ولكن النوع الجديد في السلسلة يظهر من عملية إتحاد نوعين أو أكثر عن طريق الإندماج النووي (تفاعل فيزيائي) ثم عن طريق الإتحاد الإلكتروني (تفاعل كيميائي) . فالموضوع هنا لا علاقة له بآليات التطور التي تستند عليها نظرية التطور الداروينية (الطفرات ، التنوع ، الإنتخاب الطبيعي) فهذه الآليات تنطبق على ظهور نظائر العنصر (من نحيف إلى سمين) وليس إلى عنصر جديد ، ولكن لها علاقة بمبدأ التحول من البسيط إلى المعقد للحصول في النهاية على مجموعة من العناصر والمركبات الكيميائية تعطينا وحدة متكاملة تستطيع صناعة كل شيء يحتاجه تركيب الخلية الحية .
فالمفهوم الحقيقي للتطور هو عبارة عن مراحل مختلفة من إندماجات بين الأنواع بحيث كل مرحلة تكون فيها الأنواع الجديدة عبارة عن إندماج عدد كبير من الأنواع من المرحلة التي سبقتها . فحيوان الهيدرا -مثلا-والذي يعتبر من أبسط أنواع الكائنات الحية عديدات الخلية جسمها يتكون من طبقتين من النسيج وهما طبقة البشرة وطبقة الأدمة المعدية . طبقة البشرة تتكون من عدة أنواع من الخلايا : ـ خلايا طلائية عضلية ـ خلايا معوضة ـ خلايا حسية ـ خلايا عصبية ـ خلايا تناسلية ـ خلايا مخاطية ـ وخلايا لاسعة. أما طبقة الأدمة المعدية فتتكون من خلايا غذائية عضلية. جميع هذه الأنواع من الخلايا في جسم الهيدرا لها أنواع مشابهة لها -مع فروقات بسيطة- من وحيدات الخلية ، وكأن هذه الكائنات وحيدات الخلايا التي كانت تعيش بشكل منفصل عن بعضها البعض قد تجمعت واتحدت مع بعضها البعض لتشكل نوع جديد من حيوانات عديدات الخلية ، فيكفي -مثلا- تمرير الهيدرا بقوة خلال شاش (المستعمل في التضميد) إلى فصلها إلى خلايا منفردة لتعيش وكأنها وحيدات الخلية ، ومن ثم اذا تركنا هذه الخلايا لوحدها بجانب بعضها فإنه بامكان هذه الخلايا أن تجتمع مرة أخرى لتشكيل هيدرا كاملة كما كانت في سابق . فحيوان الهيدرا هو في الحقيقة صلة الوصل بين وحيدات الخلية وخلايا بعض الأنسجة في الكائنات الحية الأرقى (رخويات ، مفصليات الأرجل ، فقريات) .
نعم هناك شجرة لتطور الحياة ولكن نوعية تفرع هذه الشجرة ذات مبدأ مختلف نهائيا عن المبدأ المادي الفقير (الظاهري) الذي إعتمدت عليه شجرة نظرية التطور الداروينية.
قد تبدو فكرة إتحاد الأنواع لتشكيل نوع جديد أرقى وكأنها فكرة خيالية ولا علاقة لها مع الواقع المادي الذي نعيشه ، وهذا صحيح كوننا لا نعتمد جميع القوانين المادية ولكن نعتمد فقط على تلك القوانين المادية التي يراها الناس العامة في عالمنا المادي المحسوس ، ولكن الواقع الحقيقي مختلف كثيرا عن هذا الواقع المادي . وإن شاء الله في المقالة القادمة سنشرح هذه القوانين لنستوعب بشكل أفضل كيفية حصول هذا النوع من الإندماج .
وسوم: العدد 966