خلق التواضع

ما يحزنك في هذه الحياة صور الحقائق المقلوبة في التعامل الإنساني ، و أحط مستوى لها الأخلاق المهضومة ، و الصور المشوهة ، حين ترتبط العادات بحقائق الدين ، فتصبح لصيقة له ،و تلك العادات و التقاليد مجرد موروث فيه المحمود و المذموم ، لهذا وجب علينا التبصر باستحضار الفهم الصحيح ، و جعله ضابط تفرقة ، فلا نلحق بالدين ما ليس منه ، و المؤسف وجدنا الكثير من الإتباع يخلطون الصور المشوهة و الضارة لمنظومة القيم السامية في ديننا .

و من القيم التي هضمنا حقها و ألحقنا بها الكثير من المفاهيم المغلوطة حلق التواضع، و هو من الأخلاق السامية في ديننا الحنيف؛ فقد ألبسناه للأسف من الصفات السلبية الكثير ، ألبساه صورا مشوهة بعيدة عن معاني الكرامة الإنسانية حين ترى الرجل مكسور الظهر بين الناس ، يدلي الرأس منحيا و الإنحاء و الانكسار و التدلل ،او ينزل نفسه مواضع الذلة و المهانة مع من لا يستحقون خفض الجناح و لين المعاملة ، أو يمنحون سلوكيات لا يعامل بها إلا لصاحب الحق في الخلق و الإنشاء ، فالمرء يتدلل لله خوفا و طمعا ، و من السلوكيات التي تتنافى مع التواضع أن تر الرجل يتظاهر بحياة التقتير و الشح في المظاهر الحياتية ، ليظهر في عيون الناس متواضعا ، و الأمر خلاف ذلك .

ما يتغافل عنه هؤلاء أن التواضع صفة الناجحين و المتميزين ،فترى المتواضعين شامة بين الناس في الأخلاق ، فهم قمة في رقي المعاملة ، يكفي هؤلاء رسول الله قدوة في التأسي بخلق التواضع فقد كان مثالا تطبيقي وجدته في كتاب الرحيق المختوم عند ذكر تواضع النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( كان أشد الناس تواضعاً، وأبعدهم عن الكبر، يمنع عن القيام له كما يقومون للملوك، وكان يعود المساكين، ويجالس الفقراء، ويجيب دعوة العبد، ويجلس في أصحابه كأحدهم، قالت عائشة : كان يخصف نعله، ويخيط ثوبه، ويعمل بيده كما يعمل أحدكم في بيته، وكان بشراً من البشر يَفْلِي ثوبه، ويحلب شاته، ويخدم نفسه).انتهى.

و ما يتغافل عنه في المعاملة أن صاحب خلق التواضع تراه بين الناس لا تميز عن الناس برفعة الألقاب أو الرتب أو المسميات ، بل تجده فرد من المجتمع ، لا تميزه أناقة ثوبه أو وسامه خلقته أن يكون مبسطا بين الناس ، تشع في وجهه إشراقة روحية تملأ حضوره حبا و رقة و جمالا في المعاملة ، فلا عجب أن يسكن حبه عند الجميع .

و إذا جلس لا يتميز عن حضوره ، فهو بين الناس واحد من القوم ، و تلك ميزة فريدة للمتواضعين .

خلق لنا أن نتعلمه من قدوتنا ، نتعلم ذلك الخلق من رسول الله صلى الله عليه وسلم صاحب القدوة في التواضع ، فكان لا يغريه زهو المكان و علوه و لا رِفْعَة الأقدار وعلوِّ المنزلة ، فتراه بين جلسائه خافضا جناحه للمؤمنين، يجلس فلا الغريب يُعْرَفه في مجلس أصحابه؛ فتخصيص جلوسه حيث ينتهي به المجلس، ويجلس بين ظهرانيهم، فيجيء الغريب يسأل عن الحبيب فلا يدري أيُّهم الرسول القائد ، حتى يبادر بالسؤال عنه.

روى أبو داود في سننه عن أبي ذرٍّ وأبي هريرة رضي الله عنهما قالا: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجلس بين ظهري أصحابه فيجيء الغريب فلا يدري أيُّهم هو حتى يسأل، فطلبنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نجعل له مجلسًا يعرفه الغريب إذا أتاه...)) .

المؤسف في أيامنا أصبح التفيقه و ادعاء المعرفة سمة عند الشباب المتسرع ، فيظن الواحد منهم أنه أعلم الناس و أعرف الناس في كل الأمور ، تجده الفهامة بين القوم و على دراية تامة بكل الأمور ما علم منها و جهل ، وأنّ لا أحد بوسعه يجاريه ، و هذا ليس من أخلاق التواضع في شيء ، فالمتواضع لا يستحي أن يقول لا أعرف في الأمور التي ليست من اختصاصه ، فمن التواضع أن تقول لا أعلم ، لا أعرف تلك المسألة ، غيري أقدر على فهمها ، فليس عيبا أبدا أن يقول أحدهم لا أعرف في المواضيع التي لا يملك فيها الدراية الكافية، لا أملك كفاءة تسيير تلك المعاملة تنقصني الخبرة ، و بذلك يدرك المتواضع من الفضل ما لا يدركه المتكبرون المتعالون .

أن المتكبرين لا يدركون محبة الغير، فالمتواضعون يعينهم كسب قلوب و مودة الناس، و هو ما يسميه أهل التربية فن التواصل الإيجابي الفعّال.

و أختم كعادتي بنثر بعض التبر على مقالي بأبيات من الشعر ، تطوف بنا في عالم يحياه المتواضعون ، وهم يقتبسون الأثر هدي الحبيب المصطفى ، يسيرون بين الناس كالأقمار برفعة أخلاقهم .

يقول الشاعر :

يا جاعلًا سنن النَّبيِّ شعاره ودثاره

متمسِّكًا بحديثه متتبِّعًا أخباره

سنن الشَّريعة خذ بها متوسِّمًا آثاره

وكذا الطَّريقة فاقتبس في سبلها أنواره

قد كان يقري ضيفه كرمًا ويحفظ جاره

ويجالس المسكين يؤثر قربه وجواره

الفقر كان رداءه والجوع كان شعاره

يلقى بغرَّة ضاحك مـــــســــــتـــــــبـــــــشــــــــــــرًا زوَّاره

بسط الرِّداء كرامةً لكريم قوم زاره

ما كان مختالًا ولا مرحًا يجرُّ إزاره

قد كان يركب بالرَّديـف مِن الخضوع حماره

مِن مِهْنَة هو أو صلاةٍ ليله ونهاره

فتراه يحلب شاة مَنْـزِلِه ويوقد ناره

ما زال كهف مهاجريـه ومكرمًا أنصاره

برًّا بمحسنهم مقيـ ـلًا للمسيء عثاره

يهب الذي تحوي يدا ه لطالبٍ إيثاره

زكَّى عن الدُّنْيا الدنــيَّة ربُّه مقداره

جعل الإله صلاته أبدًا عليه نثه

فاختر مِن الأخلاق ما كان الرَّسول اختاره

لتعد سنيًّا وتوشك أن تبوَّأ داره