الخاطرة 25: الجهاد بالنفس

ز.سانا

بعد آلاف السنين من محاولة المرأة تقوية إدراكها ونباهتها ، لتنتصر على الشيطان الذي إستطاع إغوائها وكان سببا لطردها مع عائلتها من الجنة ، رأى الشيطان ان أسلوبه في إغواء اﻷجيال الجديدة من النساء أصبح مكشوفا لهن ولم يعد يجدي معهن، فراح يبحث عن طريقة جديدة يستطيع بها إغواء المرأة ثانية لتبقى تحت سيطرته، حيث تدمير المرأة كقانون كوني يعني تدمير اﻹنسانية بأكملها تماما كما يقول الحديث الشريف ( الجنة تحت أقدام اﻹمهات )، لذلك ذهب الشيطان وصنع خليفة له مختلفا عنه بالشكل الخارجي يكون بمثابة إبنه، وأعطاه مظهر شاب جميل له القدرة على جذب قلب كل فتاة لتقع بحبه وتدوس من أجله على جميع مبادئها وتخسر عفتها وطهارتها معه برضاها دون أن تشعر بأي ذنب، وعلى العكس أن تفعل الخطيئة وتشعر بنوع من اللذة والسعادة معه بشكل يجعلها تنسى نفسها ودورها لتستمر في خطيئتها ولتحرض النساء اﻷخريات أيضا على فعل الخطيئة. بهذه الطريقة الجديدة بإستخدام إبنه حاول الشيطان أن ينتصر على النساء ثانية لتعود له قوته في السيطرة على نفوس الناس . 

هذه الأسطورة الدينية ظهرت في الحضارات الماضية بأشكال مختلفة ولكن في عصر النهضة ظهرت اﻹسطورة بالشكل الذي ذكرته لكم، لا أذكر بالضبط أين سمعتها ﻷكتبها لكم تماما كما هي وأين ظهرت ومتى بالتحديد ، فقد بحثت عنها كثيرا في النت ولم أجدها ،كل الذي أذكره عنها وبشكل ذكريات باهتة جدا هو ربما سمعتها في أحد أفلام إنغمار بيرغمان ولست متأكدا تماما من ذلك . مهما يكن، هذه القصة لعبت دور كبير في حياتي وتوجيه سلوكي، وسبحان الله فقد سمعتها في الوقت المناسب، في تلك الفترة التي بدأت طبيعة حياتي تفرض إختلاطي مع فتيات غريبات عني وكان ذلك في بداية حياتي الجامعية، حيث نظام التعليم فيها مختلط . 

جمال الشكل سواء شئنا أم أبينا يلعب دورا كبيرا كبداية في التأثير على اﻹنسان وخاصة المرأة وهذا ليس صدفة ولكن شيء طبيعي ﻷن جمال المظهر يعبر عن نوع من أنواع الكمال فكما هو معروف عن اﻷنبياء فجميعهم كان لهم مظهر جميل، فهدف التطور هو الوصول إلى الكمال الروحي والجسدي ولكن جمال الشكل يعبر عن الكمال المادي وهو أضعف أنواع الكمال. لذلك يذكر القرآن الكريم عن خلق اﻹنسان (ولقد خلقنا اﻹنسان في أحسن تقويم ) والمقصود هنا التكوين الروحي والجسدي. 

وحتى نفهم بالضبط المعنى الحقيقي لكلمة (جميل ) ، لا بد لنا من توضيح أولا معنى كلمة (قبيح)، اللغة اليونانية ( لغة اﻹنجيل ) تعطينا المعنى الحقيقي لكلمة ( قبيح ) فهي في اليونانية (ΑΣΧΗΜΟ أسخيمو) ومصدر هذه الكلمة هو الكلمة (ΣΧΗΜΑ سخيما) ومعناها ( شكل ) حيث إن إضافة حرف A في بداية الكلمة يغير معناها إلى ( عديم الشكل ) فكلمة ( قبيح ) هي صفة لكل شيء لا شكل له. وبدقة أكثر هي صفة لكل شيء لا يوجد فيه انسجام بين شكله ومضمونه ، أي عدم وجود أي توافق بين شكل الجسم مع الروح الكامنة في هذا الجسم ، والذي يعطيه شكل عشوائي. لذلك نرى أن تطور الحياة بدأ بأشكال بسيطة تحولت إلى أشكال مركبة ومع مرور الزمن بدأت هذه اﻷشكال تتغير لتتحول من الشكل العشوائي إلى الشكل المنسجم ، ومن الناقص إلى الكامل ، أي من القبيح إلى الجميل فالدلفين ككائن بحري مثلا أجمل من سمك القرش، وشجرة البرتقال كنبات أجمل من شجرة الصنوبر. فالتطور لم يكن إلا عملية تحقيق اكتساب الروح الشكل الذي يعبر عنها بصدق. وهذا ما يحدث تماما عند الكائنات الحية ﻷنها كائنات مخلوقة ، ولكن بالنسبة للإنسان فيختلف اﻷمر ﻷنه يملك جزءأ من روح الله في روحه لذلك فاﻹنسان هو ( خالق ومخلوق ) في نفس الوقت والمقصود هنا بخالق هو الخلق المادي فقط وليس الروحي. فجميع اﻹختراعات (سيارات ، طائرات، آلات ،أجهزة الكمبيوتر) واﻹبداعات ( لوحات فنية ،تماثيل. ...) هي نوع من الخلق المادي. لذلك فاﻹنسان قد يولد جميلا ولكن هذا لا يعني أنه كامل روحيا ، فظهور رجال ونساء في عصرنا الحاضر بمستوى عال من جمال المظهر يعني بأن اﻹنسانية بشكل عام تقترب شيئا فشيء من الكمال وهؤلاء يعبرون عن الكمال الجسدي (المادي) فقط وليس الروحي. فإذا إستخدم اﻹنسان رجل أو إمرأة جماله في جذب الجنس اﻵخر بهدف إشباع غرائزه الحيوانية هذا يعني أنه يسير عكس ذلك التطور الذي أدى إلى إزدياد صفات الجمال في اﻹنسان، وبالتالي سيؤدي إلى فناء هذه الصفات الجميلة شيئا فشيء لتنتج أشكال قبيحة مع مرور الزمن.

فالمعنى الحقيقي لكلمة ( قبيح ) هي صفة لكل شيء يعارض المخطط اﻹلهي في التطور، لذلك الديانات في العصور اﻷخيرة تتكلم عن خليفة الشيطان وليس عن الشيطان نفسه ( أعور الدجال.. المسيح الدجال 666....... ) فأعور الدجال ليس أعورا في العين ولكن أعور في الرؤية أي أعور الروح ﻷنه يرى التطور المادي فقط ولا يعلم شيئا عن التطور الروحي. فأتباع خليفة الشيطان في عصرنا الحاضر هم أشخاص لديهم صفات جميلة في ( الشكل أو الصوت ) ولكن يستخدمونها في إثارة الغرائز ونشر اﻹباحة الجنسية في المجتمعات، لذلك نجد أنه في الماضي كانت المجلات العالمية تختار أجمل نجمة سينمائية وعادة كان الوجه (الكائن العلوي ) يأخذ أهمية كبيرة في تقدير الجمال ، ولكن اليوم بدأت اﻷمور تأخذ شكلها الحقيقي وأصبح اللقب يدعى رمز الجنس أي (أكثر إمرأة سكسية في العالم ) ونفس الشيء بالنسبة للرجل (أكثر رجل سكسي في العالم ) وأصبح الجسم ( الكائن السفلي) يأخذ أهمية أكبر أما جمال الوجه فلم يعد مهما، فالشخص الجميل اليوم هو ذلك الذي له شكل مثير للغرائز الشهوانية. وللأسف أصبح حلم كل شاب فنان رجل أو إمرأة أن يأتي يوما ويفوز بمثل هذا اللقب، دون أن يعلم أن حامل هذا اللقب هو في الحقيقة يعني أنه أشد أتباع خليفة الشيطان. 

عندما كنت في مرحلة المراهقة كان هذا اللقب على نطاق عالمي يعطى للممثلة "برجيت باردو" كإمرأة و"آلان ديلون" كرجل وليس من الصدفة أن برجيت باردو تعتبر أكبر مدافعة عن حقوق الحيوانات في عصر يموت فيه آلاف اﻷطفال يوميا من الجوع ، وليس من الصدفة أيضا أن أبناء آلان ديلون هم أنفسهم يكرهون والدهم ويعتبرونه إنسان أناني لم يشعروا منه أبدا لا بحنان أبوي ولا بمساعدة مادية رغم أنه غني جدا ﻷنه لا يحب سوى نفسه ، ولحسن حظي طبيعة المجتمع حولي جعلتني لا أسمع شيئا لا عن برجيت باردو ولا عن آلان ديلون على اﻹطلاق وأول ما سمعت عنهما كنت قد كونت قاعدة روحية صحيحة ، ولكن الجمال الجسدي مهما يكن هو أيضا أحد مظاهر الكمال والذي فهمه سيساعد على تكوين معرفة شاملة، لذلك كان لا بد لي أن أعطي موضوع الجمال من اﻷهمية بقدر ما يستحق، وشاءت اﻷقدار في تلك اﻷيام أن يظهر في مجلات القصص المصورة ( سمر. .دليلة...) ممثل إيطالي شاب يدعى فرانكو غاسبري أن يحل مكان آلان ديلون ﻷفهم دور جمال المظهر في التأثير على سلوك المرأة بشكله الإيجابي وليس السلبي كما يحصل مع آلان ديلون ونجوم اليوم ، فجمال آلان ديلون كان جمالا شهوانيا لذلك جميع قصص أفلامه تحمل هذا المعنى ، ولكن بالنسبة لفرانكوا غاسباري كانت قصصه بشكل عام قصص حب مشابهة لقصص الحب العذري الذي يكون نهايته الزواج، لذلك كان يعتبر بالنسبة للفتيات في تلك الفترة (كشكل وسلوك) الرجل الذي يعبر تماما عن فارس اﻷحلام المثالي الذي تحلم الفتاة به و الذي تتمنى أن يأتي رجلا مثله ليأخذها لتعيش معه بثبات ونبات وتخلف منه صبيان وبنات ، وهذا ما جعل الفتيات يتسابقن كل أسبوع لشراء المجلة لرؤية صور هذا الشاب وقراءة تلك القصة التي يمثل فيها. وكما هو في قانون الخلق، المرأة هي التي تحدد طبيعة صفات الرجل الذي يعجبها والرجال بدورهم سيحاولون إكتساب الصفات ذلك الرجل ليعجبوا هم أيضا المرأة. فكان شيء طبيعي أن يؤثر سلوك الفتيات على سلوكي أيضا ويحثني لدراسة شكل هذا الشاب وأكتسب تلك الصفات التي تعجب النساء ، ورغم أني في تلك الفترة كنت لا أفكر نهائيا بقيام علاقات غرامية مع الفتيات ولكن كنت أفكر بأنني يوما ما سأبحث عن فتاة أحبها وأتزوج منها لذلك كنت أحاول بقدر المستطاع أن أملك جميع تلك الصفات (الشكلية واﻷخلاقية ) التي تحلم بها كل فتاة لتعجب بها تلك التي ستكون شريكة حياتي .وبنفس الوقت كنت أتمنى من أصدقائي ومن كل شاب أن يعتني بمظهره ليسعد شريكة حياته لتعيش معه حلمها .

لا شيء يحدث صدفة ولكن كل حدث له معنى، فعندما بلغت شهرة الممثل فرانكو غاسبري مجدها وبدأ إسمه يأخذ مكان أسماء جميع الممثلين المشهورين بجمالهم ، للأسف لم يفهم هذا الشاب لماذا القدر أنعم عليه صفات مظهر الرجل الجميل ، فتحول من التمثيل في القصص الرومانسية المصورة إلى التمثيل في اﻷفلام السينمائية ، وتحولت أدواره من دور فارس أحلام إلى أدوار بوليسية شهوانية مشابهة تماما ﻷدوار آلان ديلون ، وحدث أنه أثناء تصوير إحدى المشاهد سقط من دراجته وأصيب بشلل عام ، هذه الحادثة جعلته يختفي من الوجود ،و بعدها توفي بعمر الخمسين، تماما كما حصل مع الممثل كريستوفر ريف الذي مثل دور سوبر مان (الرجل الخارق ) والذي يريد أن ينتصر على الشر بقوته المادية الجبارة ، فكانت حادثة سقوطه عن الفرس وإصابته بشلل عام هي أيضا علامة لها معنى بأن اﻹنتصار على الشر في عصرنا الحاضر لا يحتاج قوة مادية ولكن قوة روحية، فأصل مشكلة عصرنا هي اﻹنحطاط الروحي. 

حادثة شلل الممثل فرانكو غاسبري ربما لم يفهمها أحد ولكن بالنسبة لي كانت علامة إلهية لها معنى أن مصير الجمال الشهواني هو الفناء لذلك تحول هذا الشاب الذي أنعم الله عليه بجمال خارق من شخص تسعى ملايين الفتيات لرؤية صورته إلى شخص عاجز عن الحركة لا يسمح ﻷحد أن يصوره، لذلك لا يوجد له أي صورة بعد إصابته بالشلل و أصبح وكأنه غير موجود نهائيا. 

في فترة المرحلة الجامعية و فترة تأدية الخدمة اﻹلزامية كنت أهتم بمظهري والحمدلله لم يكن يأخذ من فكري أو وقتي زمنا أو جهدا ﻷظهر بمظهر يعجب الفتيات ، ومن قرأ الخواطر اﻷخيرة ربما إعتقد بأني تكلمت أكثر من اللازم عن مظهري، ولكن تكرار ذكر هذا الموضوع لم يتم بشكل عفوي، ولكن كان بشكل مقصود ، ﻷن جمال المظهر لعب دور كبير في حياتي وفي تسلسل اﻷحداث ليجعلها تأخذ شكلا معينا وكأنها قصة مكتوبة بفكر معين جعل لها بداية وحبكة ونهاية بحيث أن قراءتها تجعل القارئ يشعر ولو بشكل بسيط أن القوانين التي تحكمت باﻷحداث التي حصلت في حياتي مختلفة عن قوانين الكون المعروفة والتي نراها ونشعر بها يوميا، والتي تجعل اﻷحداث تبدو وكأنها تسير بشكل عشوائي لا معنى له ولا خطة.

عندما ذهبت إلى اليونان لمتابعة دراستي هناك كان المجتمع اليوناني في تلك الفترة في بداية تحوله من مجتمع شرقي إلى مجتمع غربي بسبب دخول اليونان في اﻹتحاد اﻷوروبي ، فرغم الحرية التي أخذتها المرأة هناك كنت أشعر أن المرأة اليونانية لا تزال كائن روحي وسلوكها وعواطفها أقرب إلى المرأة الشرقية، فاستاذة اللغة اليونانية مثلا من اﻷيام اﻷولى في وجودي بالمعهد راحت تظهر أهتمامها بي أكثر من بقية الطلاب ، وهذا ما دفع طلاب الصف أن يظنوا أنها تحاول أن تجعلني عشيق لها فهي كانت مطلقة ولها إبن صغير. وحسب رأي الطلاب القادمون من دول غربية (ألمانيا، هولندا ،فرنسا، إسبانيا ،أمريكا، بولونيا... ) أنها كانت بحاجة لعشيق طالما أنها بدون رجل ، وإختيارها لي ﻷكون الطالب المحبوب ، كان له هذا المعنى، ولكن بالنسبة لي كنت أرى فيها شيء آخر ،فقد كنت أشعر أن ذلك الجزء من روح الله الذي يكمن في داخلها هو الذي يسيطر على سلوكها نحوي، لتجعل جميع بقية الطلاب القادمون من جميع دول العالم أن يؤمنوا بأني أفضل طالب في الصف بسبب إنسجام المظهر الخارجي مع المضمون، فسرعان ما إكتشفت اﻹستاذة أني أملك موهبة الشعر فراحت تطلب مني كتابة المواضيع كقصيدة وليس كنثر. وعدا عن الشعر كانت دوما في كل درس كانت تأتي بإثباتات تحاول بها إقناعي وإقناع بقية الطلاب بأني لي جذور يونانية ، فحسب رأيها بأن وجهي يشبه اليونانيين أكثر من اليونانيين أنفسهم ، وقصدها أن وجهي يشبه جمال وجوه التماثيل اﻹغريقية القديمة ، فكانت تأتي بصور ليتم المقارنة. فكان في كل درس وقت مخصص لي وحدي لتتناقش معي أمام الطلاب إما عن القصيدة التي كتبتها أو عن شكلي وعلاقته بالتماثيل اﻹغريقية. وكانت في كل مرة أغيب فيها عن الدرس تشعر بنوع من الكآبة تجعلها تخسر حيويتها في إلقاء الدرس ،وكثيرا من اﻷحيان عندما تدخل الصف ولا تراني فتظن بأنني سأغيب، في ذلك اليوم كان يصيبها الحزن ولكن بمجرد أن تراني أفتح الباب ﻷدخل كانت حالتها النفسية تنقلب رأساً على عقب فترتسم الفرحة على وجهها وتسترد حيويتها وتبدأ بمزحها ومن خلال المناقشة التي تحدث بيني وبينها بسبب تأخري كانت تجعل طلاب الصف يفقعون من الضحك ، فكانت بسلوكها هذا تجعلني أبدو أمام جميع طلاب الصف وكأني روح الصف بأكمله، لذلك كان جميع الطلاب والطالبات يطلبون مني عدم الغياب في أي درس ﻷن غيابي كان يجعل الدرس ممل لا يطاق. 

سلوك هذه المعلمة منع جميع طالبات الصف من إقامة علاقة غرامية معي معتقدات بأن المعلمة تحاول أن تجعلني عشيق لها وأن أي تدخل منهن لعرقلة خطتها قد يجعلها تصب غضبها عليهن فتمنع نجاحهن في اﻹمتحان بشتى الوسائل. ولكن حسب رأيي أن القدر من خلال سلوك هذه المعلمة منع نشوء أي علاقة بيني وبين أي طالبة في الصف فمعظمهن كن من دول غربية وأي علاقة معهن قد تؤدي بسهولة إلى الفراش. وكانت فتيات المعهد هن فقط اللواتي فرض علي أن أجتمع وأتكلم معهن سواء شئت أم أبيت ،فخارج المعهد كنت أبتعد عن الحديث مع أي إمرأة لمنع نشوء أي علاقة. 

كنت في البداية أظن أن الشعب اليوناني شبه شرقي ،ولكن الواقع كان مختلفا تماما عما كنت أتصوره. فدخول اليونان في اﻹتحاد اﻷوربي كان له أثر كبير في تغيير المجتمع اليوناني، ففي إحدى اﻷيام وأنا في الباص عائدا من المعهد إلى بيتي، كانت تجلس أمامي فتاة ظننتها في البداية أنها بصحبة أمها وأبيها لذلك كنت مطمئنا بأنه من الصعب أن يحدث بيننا شيء ، وكانت تشبه في ملامحها معلمة اللغة ولكن معلمة اللغة كانت أكبر مني بخمس سنوات تقريبا أما هذه الفتاة فكان الفرق أيضا بيننا خمس سنوات ولكن هي أصغر مني فكانت لا تتجاوز العشرون من العمر. وهذا ما دفعني أن أتمعن في وجهها بنظرات خاطفة دون أن تشعر بذلك لعلي أستطيع تحديد منطقة الشبه بين وجهها و وجه المعلمة ،ولكن سرعان ما إكتشفت بأنها هي أيضا تنظر إلي وشيئا فشيئا بدأت ألاحظ أن جرأتها بدأت تتزايد وخاصة بعد نزول الرجل والمرأة واللذان ظننتهما أنهما والديها، وبقينا لوحدنا في آخر الباص. ورغم أني جعلت نفسي وكأنني أقرأ في كتابي شعرت وكأنها تنظر إلي وعندما كنت أرفع بصري نحوها كانت تبتسم إبتسامة عريضة وتدير رأسها إلى مكان آخر. 

عندما نهضت لتستعد للنزول شعرت أنها راحت تنظر إلي باستمرار لذلك لم أرفع بصري عن الكتاب ، ولكن عندما توقف الباص ونزلت عندها نظرت إليها فتوقفت هي خارج الباص وراحت تنظر إلي وتبتسم ، عندها أشرت لها بيدي مازحا وكأنني أقول لها ( هل تريديني أن أنزل ) فإبتسمت لي وأومأت برأسها بمعنى ( هيا إنزل )، لا أدري ما الذي جعلني أعتقد أن كل ما يحدث كان ليس إلا عبارة عن مزاح لا أكثر ولا أقل تماما كما كان يحدث بيني وبين معلمة اللغة اليونانية ، وتابعت هذا المزاح وعملت نفسي بأنني سانزل فربما تغير رأيها وتذهب ،عندها سمعت سائق الباص فجأة يقول وهو ينظر إلي من خلال المرآة (إنزل خلصنا ) فعرفت أن السائق عرف كل شيء عنا فاضطررت إلى النزول مباشرة. 

ضحكت وهي تراني أنزل بتلك الطريقة ومن أول جملة قلتها لها علمت بأنني أجنبي فراحت هي تتكلم معي بلغة إنكليزية ركيكة وأنا أتكلم معها بلغة يونانية ركيكة. وبعد حديث قصير بيني وبينها أخبرتني أنها مستعجلة ولا تستطيع أن تبقى معي وقتا أكثر فسألتني عن رقم هاتفي لتتصل بي فأخبرتها بأنني لا أملك هاتف في المنزل. فذكرت لي إسم مكان وسألتني إذا كنت أعرفه و اتفقنا على أن نلتقي هناك في اليوم التالي .

لا أدري ما الذي جعلني أشعر بأن سلوكها المفاجئ في إختصار حديث التعارف بيننا واﻹتفاق على موعد بأنه لم يكن إلا وسيلة تمنع بها إستمرار نشوء أي علاقة بيني وبينها بسبب إكتشافها بأنني أجنبي من سوريا وهذا يعني أنني مسلم ، لذلك فضلت قطع هذه العلاقة من أولها بهذه الطريقة المؤدبة. شعوري هذا هو الذي دفعني في اليوم التالي أن أذهب إلى المكان في نفس الموعد ﻷتأكد من صدق ظني ،شيء ما في داخلي جعلني أشعر بأن طبيعة سلوكها أثناء حديث التعارف كان يخفي سرا. 

في المكان والوقت المحدد رحت أنتظرها وأنا أعلم بأنها لن تأتي ولكن أردت أن أكون على يقين تام ، فقد كانت فرصة لي أن أعرف شعور الفتيات اليونانيات نحو الأجانب وخاصة المسلمين. فهذه الفتاة تجاوبت معي بسهولة في البداية ﻷنها إعتقدت بأنني يوناني وكان لا بد لي أن أتأكد من شعورها عندما علمت بأنني أجنبي ومسلم، هل ستأتي أم لا ؟ وفجأة رأيتها تأتي، ولا أدري لماذا شعرت بنوع من البهجة تملأ صدري ربما ﻷني إكتشفت فجأة بأن إعتقادي بوجود مانع قومي أو ديني يفرق بين الطرفين لم يكن صحيحا ، أو ربما ساعد في ظهور هذه البهجة رؤيتي بأنها لم تأتي بمفردها ولكن بصحبة فتاة أخرى فقد كانت تجر أمامها عربة طفل رضيع بقربها . 

رفعت لها يدي لتراني وخطوت نحوها ، وأنا أتقدم نحوها قامت بعمل حركة جعلتني أشعر بشيء غريب يحدث تلك اللحظة ،فبمجرد أن لمحتني رأيتها ترفع يدها إلى صدرها وعندما أبعدت يدها شعرت أن فتحة قميصها في تلك المنطقة قد إزدادت مساحتها، وعندما إقتربت منها كانت عيناي على فتحة صدرها ﻷتأكد من أن ما لمحته كان صحيحا، فلاحظت هي أن بصري كان على ذلك المكان فابتسمت ، فشعرت أن إبتسامتها أيضا كانت لها معنى لم أتوقعه. وبمجرد وصولي إليها ألقيت عليها السلام ووضعت يدي على رأس الطفل الذي لم يتجاوز من العمر الخمسة أشهر وداعبته ، ثم بحثت بنظري عن أمه ، فسألتني عما أبحث فأخبرتها ، فضحكت قائلة لي ( أنا أمه )، في البداية لم أصدقها وظننت أنها تمزح معي ، فشكلها كان صغيرا على الزواج، وعندما رأت أني لا أصدقها رفعت يدها لتريني خاتم الزواج في أصبعها. لا أدري ماذا أصابني في تلك اللحظة وأنا أحاول أن أجمع بين تلك الحركة التي قامت بها لتظهر لي قسم أكبر من صدرها وبين كونها متزوجة. وشعرت في تلك اللحظة وكأنها بما فعلته تقول لي (علاقتنا ستكون فقط متعة جسدية لذلك لا تقلق فأنا لن أطلب منك الزواج كما تفعل بقية الفتيات فأنا متزوجة ولست بحاجة للزواج ). وفجأة شعرت بموقف حرج لم أعرف كيف أستجمع قواي ﻷعرف كيف أتصرف ورأيت نفسي في تلك اللحظة أجلس القرفصاء وأتمعن في وجه الطفل الذي كان ينظر إلي ويتفحص معالم وجهي وكأن روحه كانت تسألني ( أنت لست أبي ، لست عمي ، لست جارنا ، من أنت؟ ماذا تريد من أمي؟) .

أخبرتني بأنه يوجد كافتيريا هادئة قريبة من المكان ولكن قبل أن نذهب هناك لنجلس ونشرب القهوة ستمر على إحد محلات اﻷلبسة للأطفال لتشتري بعض اﻷشياء لطفلها ، فهززت رأسي لها موافقا وسرنا ورحنا نتكلم كالعادة هي بلغة إنكليزية ركيكة وأنا بلغة يونانية ركيكة ، بينما كان فكري بأكمله مشغول في معنى نظرات الطفل وفي كل خطوة كنت أشعر وكأني أسمع روح الطفل تعيد علي نفس الأسئلة ( من أنت؟ ماذا تريد من أمي؟ ) . توقفنا أمام محل ألبسة اﻷطفال، فسألتني فيما إذا كنت أفضل أن أدخل معها أو أن أنتظرها خارج المحل فأجبتها بأنني أفضل أن أنتظرها هنا ، فدخلت ورحت ببصري أنظر إلى عربة الطفل وعشرات اﻷفكار تمر في رأسي لتجعلني أشعر وكأن دماغي بدأ يغلي ، فنظرت إلى عربة الطفل للمرة اﻷخيرة وقلت في نفسي وكأنني أخاطب روحه كما خاطبت هي روحي ( لا تقلق يا صغيري، فأنا لم أغادر بلدي ﻷحطم الرباط المقدس بين أمك وأباك. ..أنا غادرت بلدي ﻷمنع اﻵخرين من تحقيق ذلك ). ووجدت نفسي أبتعد عن المكان بخطوات سريعة وكأنني أهرب، أهرب من فخ كان يريد أن يجعلني أخرج من نفسي ﻷتحول إلى إنسان آخر أحتقره أشد اﻹحتقار.

سرت متجها نحو البيت، تارة ألوم نفسي وتارة أخرى أشتم تلك الفتاة التي كانت تريد تدمير طفلها بهذه السهولة... تساؤلات كثيرة تدور في رأسي تحتاج إجابة. .... ما الذي دفع هذه الفتاة للتصرف بهذا السلوك....إذا لم تكن تحب زوجها لماذا تزوجته فهي لا تعيش في منطقة متخلفة تفرض عليها الزواج غصبا عنها من شخص لا تريده لتقوم بفعل مثل هذه الخطيئة كردة فعل إنتقامية من أولئك الذين أجبروها على هذا الزواج...... لماذا أرادت أن تقوم بفعل هذه الخطيئة وقبلت أن تسير في الشارع مع شاب أجنبي دون أن يذهب تفكيرها ﻷبسط اﻷشياء ، لو رآنا مثلا زوجها في تلك اللحظة ووجد شابا أجنبي مع زوجته ماذا سيكون رأيه بهذه العلاقة ، أمر طبيعي بأن يذهب إلى تفكيره فورا أن يتصور زوجته عارية في أحضان الشاب الذي معها، ماذا سيحصل في تلك اللحظة.... فإما أن يفعل ما سيفعله رجل شرقي فيثور ولا يتحمل ما يراه فيقوم بمحاولة قتلها وقتل الشخص اﻵخر فيقضي طوال حياته في السجن ،أو يتصرف كرجل غربي ويطلقها مباشرة. ....لماذا لم تفكر في مصير طفلها... إذا ذهب والده إلى السجن ،كيف سيكون شعوره أمام اﻵخرين عندما سيكبر قليلا ويعلم أن سبب وجود أبيه في السجن أو سبب طلاق والديه هو خيانة أمه ﻷبيه. .... لماذا هذه الفتاة لم تفكر بمثل هذه اﻷشياء نهائيا فهذا النوع من التفكير هو من أبسط اﻷشياء التي يجب أن تشغل فكر إمرأة أصبحت أما لطفل. ... ما الذي حول سلوك هذه اﻷم بهذه البساطة إلى سلوك غريزي حيواني خال من أي شعور بالمسؤولية نحو طفلها.

وصلت إلى البيت وأنا أشعر وكأن الدماء في رأسي تغلي، فحتى تلك اللحظة كنت أتصور فظاعة ما كان من الممكن أي يحدث لو أن الظروف لم تأتي بذلك الشكل الذي دفعني إلى الهرب في الوقت المناسب، و نظرات الطفل وكأنها لا تزال تسألني ( من أنت؟ ماذا تريد من أمي؟ ) . ذهبت إلى الحمام ﻷغسل وجهي لترطب برودة الماء غليان الدماء في داخلي ، ونظرت إلى المرآة وتمعنت في معالم وجهي التي كانت السبب اﻷول في حدوث التعارف بيني وبين تلك الفتاة ، فرحت أنظر في المرآة وﻷول المرة في حياتي شعرت أن معالم وجهي التي كانت نعمة في بلدي قد تحولت إلى لعنة في اليونان. وتذكرت في تلك اللحظة إسطورة إبن الشيطان فوجدت نفسي أدعي في سري (إلهي. ..إذا كانت هذه النعمة التي أنعمت علي بها ستكون هنا سببا في إبتعادي عن الهدف الذي خرجت من بلادي ﻷجله ، خذ هذه النعمة مني فأنا مهما يكن رجل من روح وجسد ، وأريد أن أبقى أقوى من جميع الظروف من حولي....)

بعد عام ونصف تقريبا من تلك الحادثة أتت عمة أحد اﻷصدقاء مع إبنتها زيارة سياحية إلى اليونان، فعلمت إبنة عمته بأنني أيضا موجود في اليونان فطلبت من صديقي أن يطلب مني زيارتهم ، فذهبت إليهم ، وبمجرد سلامي لها ولأمها رأيتها تتركنا وتدخل الغرفة اﻷخرى وتبقى هناك أكثر من عشرة دقائق ،فنهضت اﻷم مستغربة تصرف إبنتها ودخولها غرفتها ، وغابت هي اﻷخرى أكثر من خمسة دقائق ثم عادتا وجلستا معنا وكأن شيئا لم يحدث. في ذلك المساء أخبرتني أمها بأنهم ذاهبون في اليوم التالي إلى المحلات للتسوق وطلبت مني أن آتي معهم. فلبيت الدعوة دون أن أشعر بأن سبب الدعوة الحقيقي كان شيئا آخر. 

في اليوم التالي وبعد شراء بعض الأشياء رأيت اﻷم تطلب من إبنتها وإبن عمها ، أن يدخلا المحل لوحدهما ﻷنها متعبة وأنها ستبقى معي ننتظرهما خارج المحل، وعندما بقينا أنا والعمة لوحدنا عندها أخبرتني بأنها مساء اﻷمس عندما دخلت إلى الغرفة اﻷخرى لترى سبب عدم عودة إبنتها لتجلس معنا ، رأتها تبكي فاستغربت سبب بكائها فأخبرتها إبنتها انها تبكي على ذلك التغيير الذي حصل في ملامح وجهي. وتابعت اﻷم حديثها قائلة لي (أنا يا بني لا أدري كيف كان شكلك بالضبط قبل خروجك من سوريا فأنا حتى اﻵن أراك شاب له مظهر يبهج عين من يراك ، ولكن حسب ما سمعته من إبنتي الذي جعلها تبكي بمرارة ،أن شكلك من قبل كان شيئا آخر...) وتحولت نبرة صوتها إلى نبرة أم تنصح إبنها ( اﻹنسان يا بني مثل النبات. . يحتاج إلى تربة مناسبة لينمو بشكل صحيح. ..وأعتقد يابني أن اليونان لا تناسبك أبدا. ..عد إلى بلادك لتعيش مع أهلك و أحبابك ولا تقسو على نفسك في بلاد لا توافقك). 

لا أذكر كيف سار الحديث بيننا في تلك الدقائق وكيف حاولت تفسير ما حدث ﻹقنعها بضرورة إستمراري في العيش في اليونان.ولكن كان بودي أن أخبرها بالحقيقة بأن سبب إختفاء تلك الملامح التي كانت تجذب عيون النساء نحوي كالمغناطيس، كان بارادتي ﻷن هذه النعمة تحولت هنا إلى لعنة لذلك كان من الضروري حدوث هذا التغيير ﻷستطيع أن أعيش حرا في اليونان دون أن يستطيع أحد أن يزيحني عن ذلك الطريق الذي وضعتني اﻷقدار به ﻷبحث عن الأسباب الحقيقية لظهور حب العنف عند اﻷطفال والذي جعل من عصرنا، عصر لم تعرف اﻹنسانية وحشية مثله في التاريخ.

ما فعلته في تلك الفترة كان يعبر تماما عن المعنى الحقيقي لعبارة ( الجهاد بالنفس ) كما أراد الله من عباده أن يفهموه. فالجهاد بالنفس عن طريق القتال بالسلاح مع أعداء الله كان في الماضي عندما كان السلاح عبارة عن سيف أو سهم يقتل الشخص المحدد ،أما اﻵن فاﻷسلحة أصبحت فتاكة وعمياء ، القنابل والصواريخ تقتل اﻷبرياء أكثر من أولئك المقصود قتلهم ، لذلك فاستخدام العنف في عصرنا لا يولد إلا العنف واﻹنتقام والقتل الجماعي اﻷعمى. وما يحتاجه عصرنا الحاضر هو الجهاد بالنفس كما ذكرته قبل قليل ، فلا يمكن للمجتمع أن تعود إليه المبادئ السامية واﻷخلاق الحميدة إلا عن طريق هذا النوع من الجهاد بالنفس. .. أن يمتنع اﻹنسان الذي وهبه الله صوتا جميل من إستخدامه في غناء اﻷغاني الساقطة ، عندما يرى بان هذا النوع فقط من اﻷغاني ستجعله يستمر كمطرب. ...أن يمتنع اﻹنسان الموهوب بالرسم من رسم اللوحات القبيحة عندما يرى أن هذا النوع من اللوحات فقط هي التي تباع في المعارض.... أن يمتنع اﻹنسان الموهوب بلعب كرة القدم من ممارسة هذه اللعبة عندما يرى أن مباريات كرة القدم اصبحت تجارة ومركز للعب القمار...أن يمتنع اﻹنسان الموهوب بعقل فيزيائي من ممارسة عمله كفيزيائي عندما يرى أن علومه ستتحول إلى وسيلة ﻹختراع اﻷسلحة المدمرة. ... معنى الجهاد بالنفس هو أن يمتنع كل إنسان وهبه الله موهبة من إستخدامها في تقوية غرائز الكائن السفلي حتى ولو علم أن إمتناعه عن إستخدام موهبته ستجعل حياته عذاب في عذاب. 

الجهاد بالنفس كما يظنه بعض المسلمين وهو الموت أثناء القتال في معركة أو عن طريق تفجير قنبلة محمولة على الجسم هو اليوم إرهاب وجريمة وإنتحار ، وهو أسهل ألف مرة من الجهاد بالنفس الذي أتكلم عنه ، ﻷن اﻷول يموت اﻹنسان فيه مرة واحدة ولكن الثاني كما أتكلم عنه يموت اﻹنسان فيه كل يوم ألف مرة ، فأصعب ما يمكن أن يحدث هو أن يهبك الله موهبة ولكنك تمنع نفسك من ممارستها ﻷن الظروف من حولك تجبر مثل هذه المواهب على إستخدامها في خدمة روح السوء.