مصنع المودات
يَسْأَلُنِي صَحَبِي عَنْ الْأُلْفَةِ وَالتَّوَادِّ ، يَسْأَلُنِي عَنْ فَرْحَةِ الْقُلُوبِ ، فَهِمْتُ مَغْزَى قَصْدِ صَحَبِي ، عَرَفْتُ مَرْبِطَ تَسَاؤُلِهِ ، فَحَاوَلْتُ أَنْ أُجِيبَهُ بِصِدْقٍ .
قُلْتُ لِصَحَبِي : الْحَيَاةُ دُونَ الْوَشَائِجِ فَاقِدَةٌ لِرُوحِهَا ، فَالْقُلُوبُ الْمُتَنَاغِمَةُ تَنْجَذِبُ إِلَى بَعْضِهَا طَوْعًا ، أَمَّا الْأَجْسَامُ الْمُتَنَافِرَةُ يُضْرَبُ بَيْنَهَا بِسُورٍ عَازِلٍ .
وَقدْ وَجَدْتُ النَّاسَ تُحْسِنُ قِيَاسَ الْمَوَادِّ الْمَادِّيَّةِ ، لَكِنَّهَا تَعْجِزُ قِيَاسَ الْعَوَاطِفِ ، فَالْمَرْءُ يَقِيسُ تِلْكَ الْمَوَادَّ بِأَدَوَاتٍ خَاصَّةٍ ، فَيُمْكِنُهُ قِيَاسُ الطُّولِ وَالْوَزْنِ وَالسِّعَةِ وَالْحُجُومِ ، فَيَعْرِفُ وَحْدَةَ قِيَاسِهَا ، لَكِنْ فِي الْمُقَابِلِ ، تَرَاهُ يَجْهَلُ مَوَازِينَ التَّعَامُلِ الْإِنْسَانِيِّ ، فَيُهْمِلُ تِلْكَ الْقِيَاسَاتِ .
فِي نَفْسِ السِّيَاقِ فَإِنَّ الْعَوَاطِفَ لَهَا مَعَايِيرُ قِيَاسٍ نَزِنُ بِهَا دَرَجَةَ الْقُرْبِ وَالْبُعْدِ ، نَزُنُ قُوَّةَ التَّرَابُطِ وَالِانْفِصَالِ ، فَنَحْكُمُ أَنَّ هَذَا قَرِيبٌ مِنْ الْقَلْبِ وَذَاكَ بَعِيدٌ ، وَمِعْيَارُ الْحُكْمِ فِيهَا صَادِقٌ لَا يَكْذِبُ ، فَلُغَةُ الْقُلُوبِ وَسِهَامُهَا لَا تَكْذِبُ ، وَ أَسَارِيرُ الْوَجْهِ لَا تَكْذِبُ ، وَأُسْلُوبُ الْمُعَامَلَةِ لَا يَكْذِبُ .
وَتِلْكَ الْمَوْدَاتُ لَهَا مَصْنَعٌ خَاصٌّ تُولَدُ فِيهِ الْعَوَاطِفُ الْحَيَّةُ ، لَهَا بِيئَةٌ خَاصَّةٌ تَنْتَعِشُ فِيهَا الْعَوَاطِفُ الصَّادِقَةُ ، فَيُولَدُ فِيهَا حُبٌّ صَادِقٌ ، لَا تَلَوُّنَ فِيهِ ، تَلْتَقِي فِيهِ النُّفُوسُ عَلَى الْخَيْرِ ، فَإِنْ جَالَسَ ؛ جَالَسَ بِصِدْقٍ ، وَإِنْ تَحَدَّثَ ، تَحَدَّثَ بِصِدْقٍ ، وَإِنْ أَعْطَى فَلَا يَمُنَّ ، إِنْ حَضَرَ شَارَكَ ، يُهْدِي مَنْ يُحِبُّ مَنَافِعَهُ دُونَ مُقَابِلٍ .
فِي تِلْكَ الْبِيئَةِ الَّتِي لَا تَعْرِفُ الْمِرَاءَ وَلَا الْغِيبَةَ وَلَا النَّمِيمَةَ ، وَلَا التَّنَابُزَ وَلَا الْمُقَاحَرَةَ ، مَصْنَعٌ يَلْفِظُ الْخَبَائِثَ ، يَرْفُضُ الضَّغَائِنَ ، قِوَامُهُ الصِّدْقُ فِي الْقَوْلِ وَالصِّدْقُ فِي الْأَفْعَالِ ، مَصْنَعٌ يُقِيمُ التَّعَامُلَ عَلَى أَسَاسِ صَفَاءِ الْقُلُوبِ ، فَيُزَيَّنُ التَّعَامُلَ بِالْإِيثَارِ ، وَيُبْنَى الصَّفُّ عَلَى قُوَّةِ التَّلَاحُمِ وَالتَّرَاحُمِ ، فَيَكُونُ الْبِنَاءُ جِسْمًا وَاحِدًا ، لَا تُضْعِفُهُ الْهَزَّاتُ ، وَلَا تُهَشِّمُهُ الْأَعَاصِيرُ ، لِأَنَّ أَسَاسَ الرَّوَابِطِ الْحُبُّ الصَّادِقُ .
وسوم: العدد 1109