رفرفاتُ الروحِ للمطلق
نمر سعدي
ما الذي يستفزُّكَ للكتابة؟ سؤال طالما شغل فكري وهو يلحُّ عليَّ في الآونة الأخيرة أكثر من أيِّ وقت مضى.. لمن تكتب؟ ما هدفك من الكتابة؟ أما زلت تؤمن بمبدأ التنفيس الذي كنت تطرب لهُ قديماً وتعزِّي روحك الظمأى إلى الجمالِ بهذهِ الخرافة؟ أن أنكَ لا تدري بتاتاً.. وقدركَ مع هذا الحبرِ المقدَّس هو قدرُ الطعمِ للسمكةِ البريئة والفخِّ السرابيِّ للحمامة.. والسهمِ الخفيِّ للغزالةِ السارحة؟
هل ما زالت تشحنكَ عبارات الإعجاب والمديح والإطراء بما يشبهُ الطاقةَ المجازيَّة المجنَّحةَ التي غالبا ما تطوِّحُ بكَ من شاهق الكلامِ إلى أرض الحقيقةِ كالنجمةِ المسكينةِ المبتلَّة بماءِ الورودِ الصغيرةِ؟
لا أعرف.. فقبلَ سنين كانت فكرتي المسبقة عمنَّ يمسكُ قلماً أكثرَ نورانيةً وتقديساً ممَّا هي عليه اليوم. فضربات الحياة الفظيعة على سندان الروح ربما تكون قاضية أو قاصمةً بما فيه الكفاية لأجنحةِ القلبِ البيضاء.. زيفُ البشر.. ماديتهم.. ترابيةُ الحياة الطينية.. عدم تقدير الغير لاحتراق روحك الحبريِّ.. تجاهلك.. الفراغُ الكليُّ الذي يحيطُ بسماءِ قصائدكِ وعَينيْ حبيبتكَ البعيدة..كلُّها تحفر في نفسك كما تحفر الموجةُ في الصوَّان..
هل قدرُك المغبونُ مثلاً هو ما يحزُّ في فراشاتِ نفسكَ.. ؟ أم لأنكَ قرأتَ روايةً لروائيةٍ أجنبيةٍ ورأيت مدى تفوقِّها السردي غير المحدود والذي جعلَ قلبكَ يترقرقُ بينَ يديها كأنهارِ البلَّور هو ما جعلكَ تفكِّرُ بهذه المقارنة البائسة.. غير المتكافئة بتاتاً.. بينكَ وبينها؟
أم بينَ مشهدين على طرفَيْ نقيض؟ أم ماذا؟ لا تجرح قلبكَ بالأسئلة.. أنت مملوءٌ فاكتب.. أكتب.. هكذا يقولُ لا وعيكَ.. هكذا يصرخُ فاوست فيكَ.. هكذا تريدُ لكَ الحياة التي مرَّغتكَ على أعتابِ صباحِ صيفيِّ بعيدٍ وأنت تفكِّرُ تفكيراً صوفيَّا بجبران ونيتشة ونعيمة وبلزاك وأحمد شوقي وطه حسين.. يا لشاعريتك إذنْ. أيها العربيُّ الحالمِ باسترجاعِ أمجاد أندلسهِ بسيفهِ وحصانهِ الدون كيشوتي.
أتذكرُ تبجحكَ غير المبرَّر مرَّةً أمام حفنة من الكتَّابِ والفنانين الأصدقاء العرب وغير العرب وأنت تتكلَّم بلغة لا تخلو من الضوءِ وزهورِ الملائكة عن أمجاد قومٍ بائدة؟
قلتَ أنَّ المتنبي لا يقلُّ شاعريةً عن شكسبير.. والسياب نظير اليوت.. وطه حسين يعادل جان بول سارتر.. ومحمود درويش في مصاف لوركا وبابلو نيرودا.. نحنُ ممتلئون نعم ولدينا مواهب.. منذ امرءِ القيسِ حتى أصغر شاعر عربي ما زالَ يخربشُ ولم يهتدِ بعدُ إلى خيوط قصيدتهِ الفضيَّة ..
نعم.. لدينا مواهب جميلة وفذة في الأدب والفن ولدينا عقول ممتازة قادرة على هضم العلوم الانسانية.. ولدينا دائما ما نقوله ونكتبه.. فما زال فينا بعض امتلاء الأنبياء .. المشكلة تنبع من أننا مجتمع لا ثقافي .. لا يقرأ أبدا ولا يؤمن بشيء إسمه الكتاب.. هناك حالات فردية فقط ولكن الذاكرة الجمعية الجماهيرية غير ثقافية..هناك ذائقة النخبة.. ولكنها غير مسؤولة عن التقهقر الرهيب هذا..خصوصا اذا نظرنا إلى الوراء مستندين إلى الإرث الهائل للموروث الجمالي الفكري والأدبي.. فمأساة الكاتب العربي تنبع أولا من لا وعي مجتمعه وبيئته له ولرسالته.. وثانيا من عجزهم عن فهمهِ وتوفير الظروف الملائمة له لتنمية أساليبه الفنية ونجاحهِ.. وبالتالي انفضاض دور النشر عنه والتي دائما ما تتذرَّع بالضائقة الاقتصادية وبأنها لا تنشر إلاَّ على نفقة المؤلف..لا بأس .. فهذه المهزلة فهمناها جيَّدا... ولكن هناك أسئلة أخرى.. أسئلة تثير أوجاع القلب..
لماذا يكتب مثلا الكاتب الروائي اليهودي الشاب بوعي مختلف.. ؟ ألأن مجتمعه يعدهُ بنجاح أدبي ما في المستقبل..في ظلِّ رعاية مؤسساتية للمواهب التي وضعت أقدامها بقوة على طريق الإبداع؟
الفرق بين كاتب عربي وكاتب غربي ( أو ربما يهودي) مثلا هو النجاح الذي يحققه الثاني في ظرف زمن قياسي.. فهو يعوِّل على مجتمع قارئ ومستهلك للكتاب .. مجتمع يملك حساسيَّةً عالية لهذا الشيء البائس المسمَّى عندنا كلمة.
قالَ مرَّةً لي روائي شاب أن المشروع الروائي الذي يحتاج (زمنياً ) ما يعادل عامين لاتمامهِ يفتقر إلى ذلك التمويل المادي الذي لن أحدده وهو ما تستطيع راقصة في ناد للرقص في المجتمعات الغربية أن تحققه في أقل من أسبوع (مثلاً).
سأقتنعُ حتماً بأنَّ الكتابةَ في أحد أبهى تعريفاتها وصورها سهمُ الغزالةِ السارحةِ.. ورفرفاتُ الروحِ للمطلق.وعطشُ الظلام للنور.