وحي الصدور 34
معمر حبار
182: أدب الحياة من أدب الاستئذان
فهم الحياة واستيعابها يبدأ مع الطفل، حين يعلّمه أهله أدب الاستئذان، فيفقه بالتالي، أدب التعامل مع الحياة، بدايةًً ونهايةًً،واقرأ قوله تعالى: "يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِّن قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُم مِّنَ الظَّهِيرَةِ وَمِن بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَّكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُم بَعْضُكُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ"، النور - الآية 58.
إحترام الوقت: الملاحظ في الآية الكريمة، أن الاستئذان شمل 3 أوقات، وهذه الأوقات لها علاقة بالصلاة، وهي: "مِّن قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْر"ِ، و "مِّنَ الظَّهِيرَةِ" ، و "وَمِن بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ".
فالطفل عبر الحالات الثلاث، يتعلّم أن الوقت أقسام، ولابد من احترام التقسيم، ثم يتعلّم منذ الصغر، أن المقصود من تقسيم الوقت والاستئذان، هو أداء الصلاة والمحافظة عليها.
فهو، عندما يقوم لصلاة الفجر، يعرف في نفس الوقت، أن الدخول على الوالدين في هذا الوقت، يتطلب الاستئذان، وكذا وقت صلاة الظهر، حيث إنه وقت للقيلولة، ووضع الثياب، وبعدها صلاة العشاء، حين يسدل الليل خيوطه، ويركن الوالدين للراحة والسكون.
من استأذن صان عورته: تقسيم الاستئذان إلى "ثَلَاثَ مَرَّاتٍ"، هو تنبيه منذ الصغر، إلى أن هناك، "ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ"، يجب احترامها، وعدم اختراقها، لكي لايضطر الطفل، لمشاهدة مالا يمكن إدراكه، واستيعابه.
إذا تعلّم الطفل منذ الصغر، أدب الاستئذان في كل الأوقات والحالات، تربى على أن للغير خصوصية، لابد أن تحترم، في السر والعلن. ومن كان كذلك، حفظ له ربه والناس أجمعين، عوراته في الكبر، كما حفظها لغيره في الصغر.
الجمال في الاستئذان: تربية الطفل على الاستئذان، تعني تجنيبه، النظر إلى "ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ"، أي حمايته من النظر إلى المناظر القبيحة، والتي لايستوعبها عقله. وبالتالي يعد الاستئذان، جمال في حدّ ذاته، يحميه منذ الصغر، من الاعتداء على ماليس له، وليس من حقه، ولا في طاقته وقدرته.
إستئذان الطفل، يرفع الحرج عن الكبار: دخول الطفل على الوالدين وغيرهم، دون استئذان، يوقعهم في حرج كبير، مع الطفل وغيره، وقد يبقى هذا الحرج عائقا أمام التواصل الجيد، واستمرار العلاقات الحسنة. بينما تعليم الطفل على الاستئذان في كل الحالات، يرفع الحرج، مصداقا للآية: "لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ"، ويجعل العلاقات طبيعية سلسلة، يسودها الأمن، والاستقرار، والثقة، وحب الغير، وتمني له الخير.
الاستئذان في كل مراحل الحياة: الآيتين في الظاهر، تتحدثان عن أدب الاستئذان في البيت، ومع الوالدين والأهل، لكن حسن الخلق، يتعدى جدران البيت، ليشمل أدب الاستئذان مع الجيران، والأصدقاء، والمعلمين، والكبير والصغير، والمرأة والرجل، والقريب والبعيد، والعدو والصديق، ومن لهم السبق والفضل، والعامل البسيط والمسؤول، والأماكن الخاصة والعمومية، ومن كان المرء بحاجة إليه، ومن أسدى له معروفا، وصاحب التاج والمحتاج.
ومن كان هذا دأبه وشأنه، أدرك أن الاستئذان فضل، يتعلمه المرء في الصغر، ويحمده الناس به في الكبر، ويُذكرُ به في المجالس في غيابه، لدى أهل الفضل والنظر.
لماذا الطفل بالذات؟: إن آداب الاستئذان، تشمل الكبير والصغير معا، ومن لم يتعلمها في صغره، أمكنه أن يدركها في كبره، مع بعض الصعوبة والمشقة.
والسؤال المطروح، لماذا التركيز والتكرار على الأطفال بشقيهم، " وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ"، والآية التي تليها مباشرة: "وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ"، النور - الآية 59.
والجواب في ذلك، أن الطفل ببراءته، وقصر في عقله وإدراكه، لايمكنه أن يستوعب مايراه، حين يدخل على الوالدين، أو الأقارب، أو الغرباء، في مثل هذه الأوقات الثلاث، دون استئذان، فيرى مالا يمكنه أن يدركه ويستوعبه.
فالله تعالى، في هذه الآيات، يطلب من عباده، أن يرحموا الأطفال، ويجنبوهم مناظر قوية، لايستطيعون فهمها واستيعابها، لأنه من باب الرحمة والإحسان للأطفال، أن يتعلّموا أن الاستئذان من الأخلاق الفاضلة، لأنه يجنّبهم مناظر ومواقف، لايمكنهم استيعابها وفهمها، حتى لايبقى الغموض وسوء الفهم، يرافق الطفل إلى الأبد، فيتحول بالتالي إلى بغض للوالدين، وكره كل مقدس، ومحاربة كل مثال صافي طاهر، كالوالدين.
آية الاستئذان: خُتمت الآية 58 بقوله تعالى: " كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ"، وخُتمت الآية 59، بقوله تعالى: "كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ"، مايعني أن الاستئذان بحد ذاته، آية من آيات الله، لأن بفضله يُصان الإنسان، وهو أعظم آية في الوجود، وتصان الفضائل والأخلاق، وهي من الآيات التي يجب المحافظة عليها، والتشبث بها.
لاتنقلوا الخلافات والخصومات للأطفال: من الحكم البالغة التي يتعلّمها المرء، من تربية الطفل على الاستئذان، خشية ألا تقع عيناه على أمور، لايدركها عقله، ولا يستوعبها فهمه، هي عدم نقل الخصومات والخلافات، بين الأهل، والأزواج، والأصهار، والأقارب، والكبار، للأطفال، ومحاولة حلّها بعيدا عن أنظارهم، وتجنيبهم مشاهدة الخلافات، وسماع والخصومات، لأن الطفل لايملك الطاقة العقلية، التي تؤهله لاستيعاب خصومات الكبار، فينمو على بغض الأقارب، وكره الوالدين، والابتعاد عن الأحباب، دون أن يعرف الأسباب.
جنّبوا الشباب فتن التاريخ: ماالفائدة من تلقين شاب طري، أن الثورة الجزائرية، شهدت اغتيالات بعض قادتها، من طرف بعض قادتها، كما يقول الوزير الأسبق للإعلام، محيي الدين عميمور، في حوار نظمته الإذاعة الوطنية هذا الأسبوع.
ويُفضل الأستاذ، تجنيب الشاب مثل هذه المواضيع، لأنه لايملك القدرة لاستيعاب مثل هذه الخلافات، التي حيكت في ظروف معينة، صعبة وشائكة، لايستطيع الشاب الحالي أن يُدركها، بل تزيده تشويشا وغموضا، وبعدا عن وطنه، وكرها لرموزه.
والأفضل، كما يرى الأستاذ، ذكر الحقيقة التاريخية كاملة، بكل تفاصيلها ومرارتها، أمام المؤرخين وأهل الاختصاص، وفي قاعات مغلقة، لتعطى حقّها من العناية والدراية، والنقد والتمحيص.