أيُّها الربيع.. عتاب ورجاء.!
أحمد طاهر أبو عمر
عضو رابطة الأدب الإسلامي العالمية
مدير تحرير مجلة الفرقان الأردنية
يستقبل الناس الربيع مع قول الشاعر:
أتاك الربيع الطلق يختال ضاحكاً من الحُسن حتى كاد أن يتكلما
وقد نبّه النوروز في غلس الدجى أوائل ورد كُنّ بالأمس نُوّما
يُفتّقها بردُ النّدى فكأنه يَبُثّ حديثاً كان أمسِ مُكَتّما
ولكني أستقبله على غير ما يستقبله الناس.. يسلب منّي حبّات نَفَسي التي وهبنيها الله، وأودعها في جسدي ليحيا..
أيها الربيع.. أمسكتُ بيراعي لأعاتبك.. لأرجوك.. قد بعثرتَ أمانيّ، وبدّدت أحلامي.. كنت أعوّل عليك آمالي الكبار.. أن أنتشي فرحاً.. فتحملني إلى براح أرض الله.. إلى ربيعها ذي الجمال والجلال.. في بلاد زانها الله بأنواع الزنابق والأقاحي والأرجوان..
كيف لا يخفق قلبي لزهر زنبقة يخرج أطيب الأريج؟! كيف لا يهفو فؤادي إلى زهر أقحوانة بيضاء أو صفراء؟! كيف لاتستمتع عيناي بأرجوانة بهية المنظر حمراء؟!
أرى كل ذلك في الربيع كأنه ثوب مُزبرق جميل.. يبدو مثل لوحة ممتدة مفروشة بأشكال الزهور والورود.. أجد فيها سلوتي.. تنضح بالحب والحنين.. وتطفح وبالشوق والجمال.. جمال يأخذ بالألباب.. هذا عدا الريحان.. وما أدراك ما الريحان؟! تفوح رائحته كأنه من طيبها سيد المراح.!
إنها أزاهير أرضنا.. تعيش بيننا.. تتنفس كما نحن.. تنتشي كما نحن.. تتفتح للوجود.. تفتح أبواب الأمل بغد مشرق جميل.. سبحان من زبرجها وزيّنها.
ناهيك عن أشجار مثمرة.. كمثل زيتونة يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار، نور على نور.. يستروح في ظلها الإنسان.. ويستفيء تحت أشجار أُخر.. خضراء، تريح الناظرين..
وفي أعلى اللوحة.. لوحة الأزاهير.. تبدو الزرازير.. تحلِّق في المراح.. والطيور المزركشة الملونة تزقزق في المكان.. أنغام وألحان.. أنغام الأزاهير.. تتمايل وتتراقص كأنها في مهرجان.. مزركش الألوان.! وألحان العصافير.. تشنّف الآذان.. لوحة بديعة كأنها الجِنان.. تفيض بالحب والمسك والزعفران.. مفروشة كأنها بالحرير والديباج.. من لا يحب أن يرى ما أرى..؟! أن يمتِّع حبيبتيه بالجمال والدلال.. وأذنيه بالأنغام والألحان.. وأنفه بالأريج والريحان..
لكنك والله لكأنك لست الربيع الذي أعرفه.. ربيعنا اليوم أيها الربيع.. آذاك.. آذاك في سمعتك.. في بديعك.. في عطرك وجمال ألوانك.. ربيعنا اليوم قد تلوَّث.. بكيمياء المدنيّة المشوّهة.. هواء لا كالهواء.. وترب لا كالترب.. وماء لا كالماء: ربيعنا اليوم تلوَّث.. بأجواء التخاصم والجفاء.. بأنواع الظلم والبغضاء.. بأشكال الذل والهوان.. بالعذابات والأحزان. حتى الجمال: نُزع منه.. حتى البهاء: بريقه خبا.. لم يعودوا يأبهون للربيع.. زحفت جيوش الأحجار إلى مساحاتك.. تقول لك: أنت عفى عليك الزمن.! اليوم يوم الاستغلال.! كل شبر مُستباح للحجر؟!
يا حسرةً على الجمال.. والأنغام.. والألوان.. والريحان! يا أيها الربيع اليوم.. أنت لا كالأمس.!
لم أعد أحب أن أرقب طلعتك.. لم أعد أرى بهجة لطلّتك.. لم تعد أوراق وردك تؤنسني.. لم تعد أنوار زهرك تُشرق بي.!!
أوراقك ذَبُلت.. أزهارك انطفأت وخبت.. أتدري ما صنعتَ بي؟! تنفَّستَ فلم أجد ليَ نفساً.. ضاع في نَفَسِك.. لم تَعُد تعلو ثغريَ ابتسامة الأمل.. في حرّ البلاد وقرّها.. ألمٌ.. ثم ألمٌ.. ثم ألمٌ..، عينان شاحبتان.. أُذُنان ترزحان تحت وطأة الضجيج..! أين أنغام طيورك.. أين حفيف أوراقك؟! لماذا زرعتَ في نفسي الأشجان والأحزان؟ كنتُ الربيع كما كنتَ.. لكني ذبلتُ كما ذبلتَ.. وأي شيء في الحياة إذا ذبلتُ أو ذبلتَ ؟!
أيها الربيع.. كنتُ أُعِدّ نفسي لمعمعةٍ ورزايا.. لأُريقَ قطرات الحياة.. لأبذل حبّات الفؤاد.. في سبيل الدين والوطن..! لكني ذبلتُ على أعتابك.! وأيُّ شيءٍ في الحياة إذا ذبلتُ أو ذبلتَ ؟!
أيها الربيع.. ارفق بي.. عَلِّي أعيش على ذكراك.. فأستعيدُ نَفَسي منك مرة.. أستروح من عناء الحياة.. أفيءُ إلى ظِلٍّ ظليل.. أشتمُّ رائحة العليل.. أنعش هواء رئتَيْ.. لتتجدد فِيَّ الحياة..
اقْبَلْ عِتابي هذا منك أيها الربيع..
أيها الربيع.. ارفق بي.. مرة.. ولن أُجافِيَك..!