أمي
أمي
صالح محمّد جرّار/جنين فلسطين
مع عرس الطّبيعة البهيج ، مع شذا الرّبيع والأريج ،مع حياة الثّرى غبّ وابل السّماء والنّدى ،مع مشاهد الأرض الّتي اهتزّت وربت ،مع تغريد الطّيور ، وابتهاج الإنسان بزينة الأيام وشباب الأعوام ،مع هديّة السّماء الرّائعة للأرض الرّؤوم ،مع ذلك كله وأروع منه، أتوجّه إليك يا أمّاه ، والجوانح في تفتّح الزّهر النّديّ ، والرّوح في نشوة كبرى ، أتوجّه إليك ، في إجلال كبير ، وتقدير عظيم ، وعرفان بفضلك المبين ، أتقدّم إليك في خشوع وابتهال، وعرفان بالجميل ، لألثم هامتك العالية ، ويديك الكريمتين ، بل لألثم أيضاً مواطئ قدميك ، وأعتاب جنّتك ، فالجنّة تحت أقدام الأمّهات !!
أمّي ، أمّي !! ما أعذبها من كلمة ! وما أحلاها من لفظة ! بل ما أروعها من نغمة يرقص لها قلبي ،وتهيم بها روحي ، ويسبح في سرّها فكري !!
ربّاه ،ما أعظمك ، وما أحكمك ! وضعت كلّ جمال في لفظة أمّي ، بل جعلتها معين الجمال، ومنهل السّحر الحلال ! إنّها ذوب السّعادة في القلوب ، والرّجاء الزّاهر في الوجود !
وكيف لا يكون للفظة أمّي هذه المنزلة المقدّسة من نفسي وروحي وصاحبتها سرّ وجودي ،ونبراس حياتي ؟!
فأنت يا أمّاه ـ بفضل الله ـ وهبتني نعمة الحياة، وجعلتني حريّاً بنورها
خليقاً بنسائمها !
أنت يا أمّاه ـ بقدرة الله ـأوجدتني من العدم ،وجعلتني شيئاً يُذَكر في الحياة ،بعد أن كنت في العالم المجهول ، نسياً منسيّاً !
أرضعتني ، يا أمّاهُ ،من لبانك ، فعرفت به حلاوة الحياة ، وسرّ الوجود ! وكم بكيت طفلاً لأرشف من رحيقه ، وأنتشي بخمره ، فكنت تهبّين من فورك ، وتحتضنيني بساعدَيك الرّفيقين، وتضمينني إلى صدرك الرّحب الحنون ، فأجد فيه الدّفء والحنان ، والغذاء الشّهي ّبأمن واطمئنان . أسمع خفقات قلبك ، فإذا هي موسيقى صادحة بحبّي، عازفة لحناً خالداً لن أنساه ، إنّه لحن الأمومة المقدّسة ! وكم كنتِ ترسلين مع هذا اللحن العجيب ترانيم النّوم اللّذيذة ، لأغفوَ في حجرك . وسرعان ما كنت أستسلم للنّوم ، واليد الرّفيقة تُرَبّت على ظهري ، فتودعينني عناية الله في المهد الوثير !!
وتوالت الأيام ،يا أمّاهُ ، بل الشّهور والسّنون، وأنا أجني شهد حنانك وأتنسّم نسائم رياضك ، وأستظلّ بجوانحك . وإذا بالعود يشتدّ باشتداد جهودك ، والرّوح تسمو من سموّ روحك ، والأخلاق تلطف وتكرم من كريم خُلقك ودماثة أطباعك ، وإذا هدفي في الحياة ينبل ويشرف ،من نبل رسالتك وعلوّ همّتك !!
فأنتِ أنتِ الّتي علّمتني التّضحية والفداء يوم كنتِ تضحّين براحتك في سبيل هنائي وراحتي ! وأنت أنت الّتي منحتني العين السّهرة لخدمة وطني وأبناء أمّتي ، حين كنت تساهرين النّجم ،وتحاربين إغراء الكرى اللذيذ ، وأنا بجانبك طريح فراش المرض ، فتأنين لأنيني ، وتبكين لبكائي ، ولربّما غفوت مستريحاً ، وأنت لا تغفين ، حرصاً على سلامتي وراحتي !
ما من فضيلة اعدتها وتخلّقت بها ، إلاّ هي قطرة من بحر فضائلك يا أمّاه ! ما من بناءٍ بنيتُه في مجد حياتي وحياة أمّتي ووطني ،إلاّ أنت أساسه المتين وركنه المكين !
ما من نورٍ بدّد ظلمات حياتي ، إلاّ وهو قبس من نور إرشادك وتوجيهك ، فأنت أنت الحياة الفاضلة يا أمّاه ، وأنت أنت المتربّعة على عرش المثل العليا ، ولا أستطيع أن أوفّيك حقّك من التّمجيد والإكبار ، فأستعين بقول الله ـ عزّ وجلّ ـ الّذي مجّدك ، ومجّد صنوك والدي الكريم ،فأدعوه بآياته ، فأقول : ربّ ارحمهما كما ربّياني صغيرا، ربّ آتهما في الدّنيا حسنة ، وفي الآخرة حسنة ، وقهما عذاب النّار !
وهأنذا ، يا أمّاه ، أطأطئ الرّأس خشوعاً وإجلالاً ! أطأطئ الرّأس لألثم هامتك وراحتك ، ولألثم مواطئ قدميك ، فالجنّة تحت أقدامك يا أمّاه!!
فدمت لي ذخراً أستعين به ، ونوراً أهتدي به ، وسلامٌ عليك في كلّ لحظة من لحظات حياتك المديدة يا أمّاه !!